[التكاليف] يلزم من دون الإمام، من العلم بالله تعالى، وعدله، وتوحيده، ووعده، ووعيده، وما يجوز عليه، وما لا يجوز، والنبوة، والإمامة، إلى غير ذلك، وكذلك الشرائع من الصلوات، والزكوات، والحج، والصيام، هذه أمورٌ يجب فعلها، ويمكن تأديتها من دون الإمام، وهذا لم يخالف أحدٌ في وجوبها، ولو أنكر ذلك منكر عدَّ من الكافرين، وإنما يحتاج الإمام لإقامة الحدود، وصلاة الجمعة، وأخذ الأموال ممن وجبت عليه طوعاً وكرهاً، وتجييش الجيوش لحفظ البيضة، فهذه الأمور الأربعة التي تجب بوجود الإمام وتسقط بفقده ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم المعتّد بهم، وقد ثبت أنها تجب مع ولاة الإمام وملتزمي طاعته وجوبها مع الإمام، فكما جاز إمضاء أحكام الإمامة معهم وهم غير معصومين، جاز مع غير معلوم العصمة ولم يجب اشتراطه.
فإن قالوا: إنما وجب عصمة الإمام لكي يُقَوِم من مال.
قلنا: قد يعجز عن ذلك فلا تسقط الأحكام، ألا ترى أن علياً عليه السلام كان يشكو أصحابه على المنبر شكوى من قد أعجزه الأمر في إصلاحهم، ولم يتمكن من إصلاح عبدالله بن العباس، وهو أقرب الناس إليه، ولأن الحسن عليه السلام لم يتمكن من إصلاح عبيد الله بن العباس، فاستوى المعصوم وغير المعصوم في باب جواز التصرف، ومن ذلك قولهم إنه [إن] لم يكن معصوماً أدَّى ذلك إلى حدث أمر لا يمكن تلافيه من تلاف أرواح ووطء فروج.
قلنا: فهذا يوجب عصمة ولاته وقضاته وامرائه.
فإن قالوا: هو يصلح ما أفسدوا.(1/131)


قلنا: وهل يمكن رد النفوس إلى أشباحها، ورد فائت الوطء الذي تعلق به الحظر، وليس من شرط قبحه الإستدامة، وإن ركب المحظور الإمام سقط عنَّا فرض إمامته، ورجعنا إلى تَعبُّد الفترة عند الزيدية، والغيبة عند الإمامية، فالتكليف لا يسقط بالإجماع، يسعد السعيد بالعمل الصالح، ويشقى الشقي بضده، وقد أمات الخالد بن الوليد النفوس على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال اللهم إني أبرأ إليك مما فعله الخالد، وأمر علياً عليه السلام فأصلح الأمر مع الأحياء، وبقيت ظلامة الأموات دَيناً إلى يوم الدين، ولأن غيبة الإمام ينتقض ذلك كله، لأن التكليف لزم مع عدمه إلى انقطاع التكليف عن المكلف بالموت، واستوى في فقد التعليم منه والتنبيه أوليائه وأعداؤه، فهلا استمر حكم التكليف عند حضوره وغيبته على حد واحد، فقد صح الغنى عن المعصوم في لزوم التكليف في حال الغيبة، إلاَّ أن نقول أن العباد غير مكلفين بذلك، فذلك خلاف دين الإسلام، وإنما يتجدد عند وجود الإمام الأمور الأربعة التي قدمنا ذكرها.(1/132)


[ومن أدلتهم على وجوب العصمة]
ومما استدلوا به على وجوب العصمة، أنَّا أمرنا بطاعة الإمام، فلو لم نقل بعصمتهم لم نأمن أن يأمرنا بالمعصية وينهانا عن الطاعة.
قلنا: المعاصي والطاعات قد صارت معلومة، وقد أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله سبحانه أنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فإذا أمرنا بما نعلمه معصية وجب علينا عصيانه وسقطت إمامته، وإن أمرنا بأمرٍ ظاهره طاعة وفيه معصية لا نتمكن من العلم بها سقط عنَّا حكمها، وكنَّا في امتثال أمره مطيعين لله سبحانه كما يكون الحكم في اتباع قضاته وولاته، ولم يشترط أحد عصمتهم، وتعبدنا بالصلاة خلفهم، ولا يمتنع أن يعصى بعضهم بأن يصلي بنا على غير وضوء، أو وهو جنب، لفقد عصمتهم، فنكون في تلك الحال مطيعين لأنَّا أدينا ما تعبدنا به، وهو عاصٍ لله تعالى معصية محضة، كما أن الحاكم يلزمه الحكم بشهادة الشهود في الظاهر وإن كان في الجائز أن يشهد بالزور، وعلى الإمام أن يقيم الحدود، وإن جاز أن يكونوا كذبة، كما روينا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قطع يد رجل بشهادة رجلين فأقاما ساعة وجاء إليه بآخر فقال: يا أمير المؤمنين غلطنا بذلك، وهذا هو السارق، فقال: لا أقبل كلامكما على هذا، ولو أعلم أنكما تعمدتما الشهادة على الأول لقطعت أيديكما وغرَّمهما دية يد الأول، وإنما تعبدنا بإنفاذ الحكم على الظاهر دون الباطن.(1/133)


وروينا عن أبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من قضيت له بما ليس له فلا يقل أعطاني رسول الله، فإنما أقطع له قطعةً من النار، وإنما أنا بشرٌ أحكم بما أسمع، وقد يكون أحد الخصمين ألحن بحجته فأقضي بالحق له و[هو] عليه)) فكان هذا أكبر دليل على أن الإمام والحاكم يحكم بالظاهر ولايتعبد بما وراءه، فإذا جاز ذلك في الإمام فهو في سائر المكلفين أولى بالجواز، لأن تعبدهم تبع لتعبده، وتمكنه من العلم أكثر من تمكنهم، فإن قال إنه قائم مقام النبي فيجب أن يكون معصوماً مثله.
قلنا: غير مسلم ذلك من كل وجه لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعبد بنسخ شرائع قد ورد العلم بوجوب العمل بها، فلا بد من معجز وعصمة، بخلاف الإمام قائماً ينفذ أحكام شريعةٍ معلومة ومستقرة، فلو أراد زيادة شيء أو نقصانه سقط وجوب اتباعه، ولزم الأمة إنكاره، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم متى أمرهم بترك المفروض صار محظوراً، فلو وجب عصمته لإنفاذ الأحكام المستقرة لوجب اعتبار عصمة الأمراء والقضاة، ومعلوم خلافه.
ومما احتجوا به قالوا: إن الله تعالى يختاره بأن ينص على عينه كما قلنا، أو على صفته كما قلتم، ولا يجوز أن يختار فاسقاً ولا منافقاً.(1/134)


قلنا لهم: وذلك قولنا، ويكفي أن يكون مؤمناً في ظاهر الحال، لأنا لم نتعبد في أمره إلاَّ بالظاهر، كما فعل الإمام في اختيار الوالي والقاضي لأن الله تعالى تعبده بأن لا يولي القضا الفاسقين، فمتى سلم له ظاهره كان قد أدَّى ما يجب عليه، وقد أمرنا [الله] تعالى بالصلاة إلى الكعبة، فإن تحرينا وأخطأنا فقد أدَّينا ما يجب علينا، كذلك في الإمام تعبدنا أن نجيب من أهل بيت النبوة من اتصف بصفات قد ذكرناها، وهي معلومة أعني خصال الإمامة، فإن اجتهدنا في ذلك وأخطأنا في مثل ما يجوز فيه اللبس، عذرنا ممَّا تغيَّب عنَّا في أمره، وفي مقدور الباري [سبحانه] تعالى أن ينصب عمود نور على الكعبة حرسها الله من السماء إلى الأرض ويرفع بيننا وبينه الموانع فلا نخطي عينها لهذا، فلما تعبدنا بما أمكننا تأديته علمنا أنه لا يلزمنا ما وراء الظاهر.(1/135)

27 / 73
ع
En
A+
A-