يقم عليه بيان قاطع، ولابرهان ساطع، وإلا امتنع الحكم بالضلال، لاحتمال أن لكل مدع شبهة، من أهل الكتابين، وسائر الملل الكفرية، وارتفع القطع بالهلاك لأي مخالف يجوِّز ذلك في حقه من البرية، مالم يقروا بالعناد، وذلك أقل قليل من العباد، وهذا عدو الله إبليس تشبث بالشبهة وهو رأس الإلحاد، ولم يعذر الله تعالى من حكى عنهم ظن الإصابة واِلإعتقاد نحو قوله عز وجل: ?وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ?[المجادلة:18] ?قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا?[الكهف:103-104] وما ورد من أوصاف المارقين من الدين، ولانسدت الطريق إلى معاملة كل فريق، ولبطلت الأحكام من الجهاد والمعاداة وغيرها، وهذا خلاف المعلوم الضروري من دين الإسلام، وقد أمر الله بالمقاتلة والمباينة لغير المعاهدين من الكافرين والباغين، ولم يستثن ذا شبهة وتأويل، بل جعل المناط مخالفة الدليل.
هذا وقد علم ماعمت به البلوى من الإفتراق: وقامت به سوق الفتن في هذه الأمة على ساق، وصار كل فريق يدعي النجاة لفريقه، والهلكة على من عدل عن منهاجه وطريقه، وأن حزبه أولو الطاعة، وأولى الناس بالسنة والجماعة، كما قال ذو الجلال: ?كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?[المؤمنون:53].
والدعاوي إن لم تقيموا عليها .... بينات ابناؤها أدعياء
وسبيل طالب النجاة، المتحري لتقديم مراد الله، وإيثار رضاه، الاعتماد على حجج الله، وتحكيم كتاب ربه تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، واطراح الهوى والتقليد، اللذين ذمهما الله في الكتاب المجيد، وتوخي محجة الإنصاف، وتجنب سبل الغي والإعتساف، غير مكترث في جانب الباطل لكثرة، ولا مستوحش عن طريق الحق لقلة.(1/6)
?وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين?[يوسف:103] ?وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ?[الأنعام:116].
هذا وقد قال رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))، وهذا الخبر متواتر، مجمع على صحته.
وقد أقام الله جل جلاله حججه على هذه الأمة كما أقامها على الأمم، فكان مما أوجب عليهم وحتم، وأمرهم به وألزم وافترضه عليهم وحكم، في محكم كتابه الأكبر، وعلى لسان رسوله سيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم، المأخوذ ميثاقه في منزلات السور، الإعتصام بحبله والإستمساك بعترة نبيه وآل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الهادين إلى سبيله، الحاملين لتنزيله، الحافظين لقيله، العاملين بمحمكه وتأويله، ومجمله وتفصيله، الذين سيدهم ومقدمهم وإمامهم ولي المؤمنين ومولى المسلمين، سيد الأوصياء وإمام الأولياء، وأخو خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد أعلا الله شأنهم، وأعلن ببرهانهم بما شهد به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، مما أجمعت عليه الأمة على اختلاف أهوائها، وافتراق آرائها، فخُرّج في جميع دواوين الإسلام، وعلم به الخاص والعام، ولزمت به الحجة جميع الأنام، وامتلأت به الأسفار، واشتهرت اشتهار الشمس رابعة النهار، فلا يستطاع دفعه برد ولا إنكار.(1/7)
وأعظمه وأبلغه ما لإمام المتقين، أمير المؤمنين وسيد الوصيين وأخي سيد المرسلين عليهم صلوات رب العالمين، وهو مالا يستطاع حصره، ولا يطاق إحصاؤه وذكره، فما زال إمام المرسلين وخاتم النبيين صلوات الله عليهم وسلامه يبين للأمة مقامه في كل مقام، ويقرر لهم حجته عند الله وعند رسوله من ابتداء الدعوة النبوية إلى آخر الأيام، فأما المقامات العظام، التي خطب بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لإبلاغ الحجة أهل الإسلام، فإن أكثرها من أعلام نبوة سيد الأنام، ومعجزاته المخبرة بالغيوب على مرور الأعوام.
ولما ظهرت الضلالات- وانتشرت الظلمات، وتفرقت الأهواء، وتشتت الأراء في أيام الدولة الأموية، -وإن كان قد نجم الخلاف في هذه الأمة من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنها عظمت الفتن، وجلت المحن، في هذه الدولة- وصار متلبساً بالإسلام من ليس من أهله، وادعاه من لايحوم حوله، وقام لرحض الدين وتجديد ما أتى به رسول رب العالمين الإمام زيد بن علي يقدم طائفةً من أهل بيته وأوليائهم، وهي الطائفة التي وعد الله الأمة على لسان نبيها صلى الله عليه وآله وسلم أنها لن تزال على الحق ظاهرة تقاتل عليه إلى يوم الدين، - أعلن أهل البيت صلوات الله عليهم الإعتزاء إلى الإمام زيد بن علي بمعنى أنهم يدينون الله بما يدينه، من التوحيد والعدل والإمامة، ليظهروا للعباد ما يدعونهم إليه من دين الله القويم، وصراطه المستقيم، وقد كان أقام الحجة وأبان المحجة بعد آبائه صلوات الله عليهم فاختاروه علماً بينهم وبين أمة جدهم.(1/8)
قال الإمام الكامل عبدالله بن الحسن بن الحسن: ((العلم بيننا وبين الناس علي بن أبي طالب، والعلم بيننا وبين الشيعة زيد بن علي)) وقال ابنه محمد بن عبدالله النفس الزكية: ((أما والله لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين، وأقام عمود الدين إذ اعوج، ولن نقتبس إلا من نوره، وزيد إمام الأئمة)) فلم يزل دعاء الأئمة، ولا يزال على ذلك إن شاء الله إلى يوم القيامة.
ولقد صبرت معهم العصابة المرضية، والبقية الفائزة الزكية، على وقع السيوف، وتجرع الحتوف، ووقفوا تحت ألوية أئمتهم، وائتمروا بأمرهم، وانتهوا بنهيهم، وحفظوا وصاة نبيهم، وسفكت دماؤهم بين أيديهم، وأقاموا فرائض الله على الأمم، ولبَّوا كتاب الله فيما ألزمهم به وحكم، فسلكوا منهج التبيين، وظفروا بما وعدهم في الذكر المبين.
قال الوصي عليه السلام في نعتهم ونعت أئمتهم: ((اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة كي لا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلون عدداً الأعظمون عند الله قدراً، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه المجرمون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه)) في كلامٍ له صلوات الله عليه.
ونختم الكلام بما قاله إمام اليمن الهادي إلى أقوم سنن، يحيى بن الحسين بن القاسم صلوات الله عليهم في الأحكام وهو مانصه:
وبلى وعسى فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً، عسى الله أن يرتاح لدينه ويعز أوليائه ويذل أعداءه، فإنه يقول عز وجل: ?فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ?[المائدة:52] وفي ذلك يقول رسول رب العالمين صلى الله عليه وآله وسلم: ((اشتدي أزمة تنفرجي)).(1/9)
وفي ذلك مايقول جدي القاسم بن إبراهيم عليه السلام:
عسى بالجنوب العاريات ستكتسي .... وبالمستذل المستضام سينصر
عسى مشرب يصفو فتروى ظمية .... أطال صداها المنهل المتكدر
إلى قوله:
عسى الله لاتيأس من الله إنه .... يسير عليه مايعز ويكبر
إلى قوله:
عسى فرج يأتي به الله عاجلاً .... بدولة مهدي يقوم فيظهر
والله أسأل، وبجلاله أتوسل أن يصلي ويسلم على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله الهادين إلى يوم الدين، وأن يتقبل العمل، ويحقق الأمل، ويحسن الختام، ويصلح أمر الإسلام، إنه قريب مجيب، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي، غفر الله لهم وللمؤمنين.
كتبه بأمره ولده/ ابراهيم مجدالدين المؤيدي
مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية - اليمن - صعدة(1/10)