أمَّا الزبير: فإنه لما ذَكَرَهُ علي عليه السلام قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لتقاتلنَّ علياً وأنت له ظالم)) ترك القتال، وقال:
نادى عليُّ بأمرٍ لست أنكره .... قد كان عَمْرُ أبيك الخير مذ حين
فقلت حسبك من قول أباحسنٍ .... بعضُ الذي قلته في اليوم يكفيني
أخترتُ عاراً على نارٍ مؤججةٍ .... أنَّى يقومُ لها خلقٌ من الطين
ترك الأمور التي تخشى عواقبها .... لله أجدرُ في الدنيا وفي الدين
ولما استأذن ابن جرموز قاتل الزبير على علي عليه السلام وألقى السيف بين يديه، اغرورقت عينا علي عليه السلام بالدموع وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((بشروا قاتل ابن صفية بالنار))، أما إنك قتلته تائباً مؤمناً طال والله ما كشف به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني السيف، وهذا تصريح بتوبته.
وكذلك الحديث في طلحة: إنه لما صُرِعَ مرَّ به رجل من أصحاب علي عليه السلام فقال [طلحة]: أَمِنْ أصحابنا؟ أم من أصحاب أمير المؤمنين؟ فقال: بل من أصحاب أمير المؤمنين، فقال: ابسط يدك لأبايعك لأمير المؤمنين فألقى الله على بيعته، أما والله ما كفتنا آية من كتاب الله وهي قوله تعالى: ?وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً?[الأنفال:25] فوالله لقد أصابت الذين ظلموا منَّا خاصة، وهذه توبة ظاهرة.(1/46)
وأمَّا عائشة: فكانت تبكي حتى تبل خمارها، وتقول: وددت أن لي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة، كلهم مثل الحرث بن هشام، وأنهم ماتوا واحداً بعد واحد، وأني لم أخرج على علي بن أبي طالب.
فأمَّا من لم يتب منهم فإلى النار.
فهذا هو الخلاف في أمر علي عليه السلام، وأمر أتباعه، وأمر المخالفين له، والمعاندين، ذكرناه على وجه الإختصار؛ لأن الغرض التنبيه على أحوال السلف سلام الله عليهم، دون الإستقصاء في ذكر الخلاف والمخالفين، وأحكام المطيعين والمحاربين.
فإذا قد فرغنا من ذلك، فلنذكر الكلام في أولاد علي عليهم السلام، وما جرى في ذلك من قول من ينتسب إلى التشيع.(1/47)
[القول في إمامة ولد علي عليه السلام]
[الزيدية والإمامية]
فالذي أجمعت الزيدية والإمامية عليه: أن الإمام بعد علي عليه السلام الحسن بن علي، ثم بعده الحسين بن علي عليهم السلام، فعند الزيدية: أنهما إمامان لنص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خيرٌ منهما)). وبعض الإمامية تقول عليّ الإمام بنص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والحسن الإمام بنص علي عليه السلام، والحسين الإمام بنص الحسن عليه السلام. والإختلاف في كيفية النص يطول شرحه، فيخرجنا عن الغرض.(1/48)
[الكيسانية]
وذهبت الكيسانية إلى أن الإمام بعد الحسين عليه السلام محمد بن علي عليه السلام، وهو ابن الحنفية، ومن الكيسانية من قال: هو الإمام بعد علي عليه السلام، قبل الحسن والحسين عليهم السلام، قال والدليل على ذلك أن علياً عليه السلام أعطاه الراية يوم الجمل دون أخويه، فكان ذلك نصاً على إمامته دونهما، وانتسابهم إلى كيسان أبي عمرة، وهو من الموال، وكان له غُلوٌ في أمر علي عليه السلام وأولاده، وكان المختار قد دعاهم إلى محمد بن علي ابن الحنفية عليه السلام، فكان كيسان هذا من أقوى أعوانه، ومن السّفاكين الدماء بين يديه، وبعض من تكلم في أمرهم، قال: إن المختار كان يقال له كيسان، ولا حقيقة لذلك، وهم مختلفون، فمنهم من قال ببقاء محمد بن الحنفية عليه السلام إلى أن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وهو في جبال رضوى مقيم، لا جليس له إلاَّ الملائكة عليهم السلام، ولا متاع له إلاَّ العسل والماء، وهو عين الله على خلقه في حال غيبته، وإقامته في الجبل، و[قد] قال شاعرهم:
ألا قل للإمام فدتك نفسي .... أطلت بذلك الجبل المُقاما
أضَرَّ بمعشرٍ والوك طُهراً .... وقوفك عنهم تسعين عاما
وعادوا فيك أهل الأرض جمعاً .... وسمَّوك الخليفةَ والإماما
مُقيم لا أنيس له بحيٍ .... تُراجعه الملائكة الكِرامَا
وفيها:
وما ذاق ابن خولة طعم موتٍ .... ولا وارت له أرضٌ عظاما
وقال شاعرهم:
ألا انَّ الأئمة من قريشٍ .... ولاةُ الخلق أربعةٌ سواءٌ
عليٌّ والثلاثة من بنيه .... هُمُ الأسباط ليس بهم خفاءُ
فسبطٌ سِبطُ إيمانٍ وبرٍ .... وسِبطٌ غيبته كَرّبِلآءُ
وسِبط لا يذوق الموت حتى .... يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيَّبَ لا يرى عنهم زماناً .... بِرضوى حولهُ عسلٌ وماء
ومنهم من قال: إن سبب غيبته واختبائه بجبل رضوى عقوبةً [له] من الله تعالى بركونه إلى عبدالملك بن مروان.
ومنهم من قال: غيبته لتدبير الله تعالى فيه حتى يظهره.(1/49)
[نقض قول الكيسانية في إمامة ابن الحنفية]
والكلام عليه في إمامته عليه السلام أنه لم يدّع الإمامة لنفسه ولا صح له بها نص ممن يصح نصه، ولا اختيار جماعةٍ في وقته من الفضلاء، فكيف يدعون له مالم يثبت بوجه صحيح، ومثل هذا يفتح باب الجهالات، ولا يعجز عنه أحد من أهل المقالات، لأنه مجرد الدعوى، وذلك ممكن لجميع أهل الأهواء.
فأمَّا الكلام عليهم في الغيبة وبطلانها، وتهدم أركانها فسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى عند كلامنا على الإمامية القطعية، وكلامنا عليهم يأتي على جميع من يذهب إلى مثل مذهبهم من الفرق الشيعية، فكل من ذكرنا غيبته، فلسنا نتكلم على بطلان قول من يدعي ذلك له حتى نتكلم على الإمامية، فما بطل به قولهم، بطل ما سواه مما يجانسه، فهذا مذهب الفرقة الأولى من الكيسانية.(1/50)