لأنه لا يُعقَل أن يكون قول الموحد والملحد كله صوابا، وقول المشبِّه والمنزِّه كله صوابا، والقول بأنه تعالى يرى ولا يرى كله صواباً ، والقول بأنه تعالى يقضي بالفساد ويُلبّس على العباد وأنه لا يكون كذلك كله صوابا؛ لأن هذا هو اجتماع النقيضين، وقولٌ بأمرين متنافيين.
فلا بد أن يكون الصواب في واحد من هذه الأقوال المختلفة، والمذاهب غير المؤتلفة، ولهذا قال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((تفترق أمتي هذه (أو هذه الأمة(1)[26])) إلى نيف وسبعين فرقة لا ينجوا منها إلا فرقة واحدة(2)
__________
(1) 26])ـ سقط من (ب) .
(2) 27])ـ حديث افتراق الأمة: قال الإمام أحمد بن سليمان (ع) (ت 566هـ): والأمة مجمعة على صحة هذا الخبر، وكل فرقة من فرق الإسلام تتلقاه بالقبول .
وقال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) (ت 614هـ) في معرض كلامه عن افتراق الأمة وبيان الفرقة الناجية ما لفظه (الشافي 1/100): فقد صار الخبر الوارد بإجماع كافة أهل الاسلام من قول النبي –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((تفترق أمتي ...)) يباناً عن الفرقة الناجية من أمته وهي التي تمسكت بالثقلين ...إلخ.
وقال الإمام يحيى بن حمزة (ع) (ت749هـ): وقد تلقته الأمة بالقبول نقله عنه الإمام أحمد بن يحيى المرتضى في (مقدمة البحر، ص38) .
وقد أخرجه ورواه ونبه عليه أهل الحديث والأصول، وورد بألفاظ متعددة . وممن أخرجه: الترمذي في سننه (5/26) في باب ما جاء في افتراق هذه الأمة عن أبي هريرة، وقال: وفي الباب عن سعد وعبدالله بن عمرو، وعوف بن مالك، وقال: حديث حسن صحيح .
والحاكم في المستدرك (1/147)، وابن ماجه في السنن (2/1321)، وأبو يعلى في مسنده (10/381)، والذهبي في ميزان الاعتدال عن أنس بن مالك (2/454)، والحاكم الجشمي في (جلاء الأبصار –تحت الطبع-) وعَلَق عليه .
انظر لمزيد تخريج: تخريج الكشاف (2/83)، والمقاصد الحسنة للسخاوي (ص158)، وتخريج الشافي (تحت التحقيق والطبع) .
وفي شرح الأساس (2/367) للسيد أحمد محمد الشرفي ما لفظه: وهذا الخبر مقطوع بصحته لأنه متلقى بالقبول من جميع الأمة لا يختلفون فيه، ذكره الإمام أحمد بن سليمان –عَلَيْه السَّلام- في حقائق المعرفة (خ) قال: فلما سُمِعَ ذلك منه ضاق به المسلمون ذرعاً وضجوا بالبكاء وأقبلوا عليه، قالوا: يا رسول الله كيف لنا بعدك بطريق النجاة ومعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمد عليها ؟
فقال رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) .(1/26)


[27]))) وقد قال تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...إلى قوله {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} [السجدة:19ـ20].
وتارة قال: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات...إلى قوله: والذين كفروا}، وقال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(7)} [الشورى]، فبين (على(1)[28])) أنه لا بد من ناج وهالك، وقد ثبت (على(2)[29])) أن رفع الضرر عن النفس واجب ، ولا ضرر أضر من [4- ب] العقاب وعذاب النار.
[معرفة الفرقة الناجية]
فالمكلَّف في حاجة إلى أن يعرف الفرقة الناجية، ويميز بينها وبين الهالكة العاصية(3)[30])، والعاقل إذا تدبر وفكر علم أن الناجية إنما هي فرقة أهل البيت الطاهر صلوات الله عليهم أجمعين.
لأنه قد عرف أن الأمة أجمعت على أن النجاة إنما تكون بمتابعة القرآن (العظيم(4)[31])) ، والقرآن شهد أن النجاة بمتابعة العترة الأطهار ، قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)} [التوبة]، ثم عرّفنا تعالى بالصادقين في آية المباهلة فقال عز وجلّ : {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}(5)
__________
(1) 28])ـ سقط من (ب) .
(2) 29])ـ سقط من (ب) .
(3) 30])ـ في (ب): العاطبة .
(4) 31])ـ سقط من (ب) .
(5) 32])ـ قال الأمير الحسين بن بدر الدين(ع) في الينابيع: أطبق أهل النقل كافة مع اختلاف أغراضهم واعتقاداتهم على خبر المباهلة، وقال الإمام عز الدين بن الحسن في المعراج: أطبق أئمة النقل وجمهور العلماء على ذلك، ولا نزاع في هذا بين العترة والأمة، وممن روى ذلك الحسن والشعبي والسدي والحاكمان الجشمي والحسكاني ، وأبو نعيم والثعلبي ، والخوارزمي، والزمخشري، والبيضاوي، والرازي، وأبو السعود .
قلت: وأخرجه الفرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره (ص14)، وابن المغازلي الشافعي في المناقب (ص171)، ورواه الطبراني في دلائل النبوة (1/297)، ورواه الحاكم أيضاً في كتاب معرفة علوم الحديث (ص62) قال: وقد تواترت الأخبار في التفاسير، عن عبدالله بن عباس وغيره أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أخذ يوم المباهلة بيد علي وحسن وحسين وفاطمة وراءهم ثم قال: ((هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا، فهلموا أنفسكم وأبناءكم ونساءكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين). انظر: لوامع الأنوار للإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى (1/1/84) ففيه جمل من الفوائد.(1/27)


[32]) [آل عمران] ، فخرج صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم بأبنائه الحسن والحسين، ونسائه فاطمة الزهراء، ونفسه هو وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين بلا خلاف في ذلك.
فهؤلاء هم وأتباعهم الصادقون، <فعرفنا أن النجاة تكون مع الصادقين(1)[33])> والكاذبون هم مخالفوهم، فعرفنا أنه أمرنا بالكون مع الصادقين وهم أهل البيت الطاهرين.
وإن إلتَفتَ ثانياً إلى قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(2)[34]) [النساء:83]، تحققتَ أن الخلق مأمورون بطاعة أولى الأمر منهم ورد الأمر إليهم.
__________
(1) 33])ـ ما بين المفتوحتين سقط من (أ) .
(2) 34])ـ روى الناصر للحق –عَلَيْه السَّلام- بإسناده عن سعيد بن خثيم، قال: سألت زيد بن علي -عَلَيْهما السَّلام- عن هذه الآية: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} فقال –عَلَيْه السَّلام-: (الرد إلينا، نحن والكتاب الثقلان، فالرد منا وإلينا) . قال الناصر –عَلَيْه السَّلام-: ويؤيد ذلك أنه قرن طاعته بطاعة رسوله فوجب أن يكون في الصفوة مثله، فالرد إلى الرسول رد إلى سنته، والرد إلى أولي الأمر رد إلى ذريته لأنه قال: ((إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) ، انظر : تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين للحاكم الجشمي (ص 85)، المحيط بالإمامة (خ) .(1/28)


فإذا تدبرتَ مَنْ أولي الأمر ؟ عرفته في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} (1)[35]) [النحل]، فبان أن (أولي(2)[36])) الأمر الذين يستنبطونه هم أهل الذكر.
__________
(1) 35])ـ روى الحافظ الحسكاني في شواهد التنزيل (1/432) بإسناده عن الحارث قال: سألت علياً عن هذه الآية: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} فقال: والله لنحن أهل الذكر، نحن أهل العلم، ونحن معدن التأويل والتنزيل، ولقد سمعت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأته من بابه)).
وقال الإمام زيد بن علي –عَلَيْه السَّلام- في تثبيت الوصية والإمامة ما لفظه: (فأهل هذا البيت البقية بعد الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- والدعاة إلى الله ؛ لأنه قد جعلهم مع نبيه –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في السَّبق والتطهير والعلم، وإنهم الدعاة إلى الله بعد رسوله، قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل]، إنما أمر الله عز وجل بمسألتهم لأن عندهم ما يُسألون عنه فجعل الله عز وجل عند محمد –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- علم القرآن، وجعله ذكراً له . وجعل الله عِلْمَهُ عند أهل بيته، وجعله ذكراً لهم، فمحمد وآلُ محمد هم أهلُ الذكر وهم المسؤلون المبيِّنُونَ للناس) ، وروى فرات الكوفي عن أبي جعفر عَلَيْه السَّلام في الآية قال: نحن أهل الذكر، وفي رواية: هم آل محمد .
انظر: تثبيت الوصية والإمامة (181) تحقيق حسن محمد تقي الحكيم، تنبيه الغافلين للحاكم الجشمي (216)، تفسير فرات (2/235)، المناقب لمحمد بن سليمان الكوفي (1/130) (71)، الحاكم الحكساني في شواهد التنزيل (1/335) (460).
(2) 36])ـ سقط من (أ) .(1/29)


وإذا طلبتَ أهل الذكر في كتاب الله وجدتَه في قوله: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولًا} [الطلاق]، فجعل الرسول ذكراً.
وبان أن أهل الذكر آل الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم، وهم متبعوا القرآن لقوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، فسمى القرآن ذكراً كالرسول صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم، فبان أنه أمر باتباع أهل القرآن مِنْ آل الرسول عَلَيْهم السَّلام.
وإن التفتَ في أن تعرف الفرقة الناجية إلى حجة ثالثة، وجدتَها في قوله تعالى : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران]، فإنه وصف أولي الألباب بصفة أهل النجاة عند رب الأرباب، وذكر (من(1)[37])) صفتهم أنهم يقولون: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ(193)} [آل عمران].
فعرفت أن الأبرار الذين تطلب أولوا الألباب الوفاة معهم هم أهل الحق ، فإنهم لا يطلبون الموت إلا مع أهل الحق لا مع أهل الباطل؛ فطلبتَ الأبرارَ فوجدتَهم حيث عَرَّفك الحكيم الجبار في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(5)}..الآيات(2)
__________
(1) 37])ـ سقط من (أ) .
(2) 38])ـ نزلت ((هل أتى)) في الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين وجارية لهم يقال لها فضة ؛ وذلك من قصة طويلة مفادها أن الحسن والحسين مرضا، فنذر علي وفاطمة وفضة صوم ثلاثة أيام إن شفاهما الله فلما برئا صاموا ...، وكانت قصة المسكين واليتيم والأسير معهما في توالي الليالي الثلاث للصوم، والقصة معروفة .
أخرج الحافظ الحسكاني الخبر مطولاً في شواهد التنزيل (2/394) وبأسانيد مختلفة.
قال: فلما دنوا ليأكلوا وقف مسكين بالباب، فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من أولاد المسلمين أطعمونا أطعمكم الله من موائد الجنة ؛ فقال علي:
فاطم ذات الرشد واليقين
أما ترين البائس المسكين
قد قام بالباب له حنين
يا بنت خير الناس أجمعين
جاء إلينا جائعاً حزين
يشكو إلى الله ويستكين

كل امرء بكسبه رهين

فأجابته فاطمة وهي تقول:
أمرك عندي يا بن عم طاعة
فأعطه ولا تدعه ساعة
ونلحق الأخيار والجماعة
ما بي لؤم لا ولا ضراعة
نرجو له الغياث في المجاعة
وندخل الجنة بالشفاعة

ثم ذكر القصة بأكملها .
وروى الخبر أيضاً الإمام الحسن بن بدر الدين في أنوار اليقين (مخطوطة)، ورواه ابن حجر في الإصابة (4/387)، ورواه الخوارزمي في مناقبه (188)، ورواه الفراتي في تفسيره (196)، ورواه الحافظ محمد بن سليمان الكوفي (1/178) رقم (103)، ورواه ابن المغازلي في مناقبه (176) رقم (320)، وهو في أسباب النزول للواحدي (ص331) .
وأخرجه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد، عن ابن عباس، ومن رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {يُوْفُوْنَ بِالنَّذْرِ ...الآية} [الإنسان]، فذكر تمامه، وذكر الأشعار بين الإمام علي وفاطمة -عَلَيْهم السَّلام- .
وقد تقارض شعراء الشيعة القصة فقال السيد الحميري، من قصيدة طويلة:
مَنْ أنزل الرحمن فيهم (هل أتى)
لما تحدوا للنذور وفاءا

وذكر سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص (ص284) وسمعت جدي ينشد في مجالس وعظه ببغداد سنة ست وتسعين وخمسمائة بيتين ذكرهما في كتاب تبصرة المبتدئ، وهما:
أهوى علياً وإيماني محبته
إن كنت ويحك لم تسمع فضائله
كم مُشْرِكٍ دَمُهُ من سيفه وكفا
فاسمع مناقبه من (هل أتى) وكفى
وقال أمير شعراء الزيدية: الحسن بن علي الهبل (ت1079هـ):
يا منكراً فضل بني أحمد
هل خاتم الرسل سوى جدّهم؟
كن للذي تسمعه مُنْصِتا
وهل أتى في غيرهم (هل أتى)؟(1/30)

6 / 21
ع
En
A+
A-