قلت : وكم تمنيت لو استّع الوقت بعض الشيء لتسطير وريقات عديدة حول إقبال علماء الشافعية على مذهب الزيدية في عصر المؤلف ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن كما يقال .
وأخيراً : أتقدم بالشكر والعرفان للسيد الفاضل عبدالله بن محمد المهدي الذي منحني سعة صدره لقراءة الرسالة عليه كاملة ، ونبّه ونوّه على جملة تحسينات في الرسالة نصاً وتحقيقاً وتوثيقاً .
جعل الله الأعمال خالصة لوجهه الكريم، إنه على ما يشاء قدير ، وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
عبدالرقيب بن مطهر محمد المطهر، الملقب حجر
صعدة : 27/ محرم/ سنة 1423هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه نستعين(1)[10]):
الحمد لله الذي ابتدع الأشياء بعد العدم، وانفرد بالألوهية والقِدَم، وتعظم عن شريك يساويه ، وتعالى عن ضدّ يناويه ، وتقدّس عن مشابهة الأشياء، وتنزه عن الأعضاء والأجزاء، فلا تحويه الأقطار، ولا تراه الأبصار، ولا ينبئ عنه تمثيل القلوب، ولا يُشَارك في علم الغيوب؛ الدائم بلى نفاد، مُفْني السماوات والأرض وما بينهما(2)[11]) من العباد، ومعيدهم بعد الفناء ليوم المعاد.
الذي لا يظلم العباد، ولا يقضي بالفساد، ولا يأمر إلا بالصلاح والسداد، ولا يهدي إلا إلى الرشاد ؛ إذ قال وهو أصدق القائلين : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف]، لم يجبر أحداً على فعله، ولا جَبَله على عَمَله، فكيف وهو يقوله عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
__________
(1) 10])ـ في (أ): وسلام على عباده الذين اصطفى .
(2) 11])ـ في (ب): فيهما .(1/21)
وأشهد أن لا إله إلا الله الذي أظهر من سلطانه وكبريائه ما حيّر مقل العقول في عجائب قدرته ، ورفع خطرات هماهمها عن عرفان كنه صفته، شهادة إيمان وإتقان وإخلاص وإذعان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلوات الله عليه وعلى آله.
أما بعد:
أيها الفقيه الأجلّ، أطال الله بقاك وتولى هداك، وأيدك ووفقك،وأعانك وسددك؛ فقد بلغني كتابك الكريم فتأملته مراراً، وعاودتُ قراءته أسفارا، فوجدته منطوياً على محبة أهل البيت الطاهرين(1)[12]) متشوّقاً إلى الاستمساك بحبل الهداة [ا-ب] المهتدين، مشتملاً على شكاية وحكاية، وبحث وسؤال، واستنشار(2)[13]) واستخبار، واعتضاد واستنصار، ووصف للأحوال، وتَحْسُر على التقصير في الأعمال الواجبة لذي العزة والجلال.
ونحن نجيبك عن ذلك فصلاً فصلاً، ونمنحك نصائحنا في كل باب منها علاًّ ونهلاً، لكونك إن شاء الله لذلك أهلاً.
ونبتدئ أولاً بذكر مقدمة تشتمل على تمهيد وتوطئة يلتفت إليها الجواب عن كل فصل مما ذكره، وبحثَ عنه وسطّره، وَمِنَ الله تعالى نستمد التوفيق والإعانة والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بداية الجواب:
[وصف الدنيا وعاقبتها]
التمهيد:
اعلم أيدك الله أن الدنيا خدّاعة مكّارة، غرّارة ضرارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، سلطانها دُوَلّ، وعيشها رنق، وعَذْبُها [1-أ] أُجاج، وحلوها صَبِر، (وملكها(3)[14])) مسلوب، وعزيزها مغلوب، وموفورها منكوب، وجارها محروب.
__________
(1) 12])ـ في (ب): عَلَيْهم السَّلام .
(2) 13])ـ في (أ): واستشارة .
(3) 14])ـ سقط من (ب) .(1/22)
فهي كما وصفها ربها ونعتها خالقها: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا(45)}[الكهف]، وكما قال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها(1)[15]))).
وقد استلبت القلوبَ محبتُها، ودعت أهلها إلى عشقها وقربها، وهي مع ذلك لعشاقها أَكّالة قتّالة غوّالة، أزالت الثاوي الساكن، وفَجَعَت المُتْرَفَ الآمن، لم يكن إمرءٌ فيها في حَبَرة إلا أَعْقبته عَبرة، ولا أظَلّته دِيْمَة رخاء إلا هتنت عليه مُزْنة بلاء، ولا أنالته من غضارتها ضرباً(2)[16])، إلا أرهقته من نوائبها رهباً(3)[17]).
فلا تزال كذلك حتى تُدنِيّه إلى الأجل المعلوم، والقدر المحتوم، ثم أسلمته حينئذ إلى سكرة الموت وحسرة الفوت، فيبقى متحيراً في أمره، متفكراً فيما أفنى من عمره ، يتذكر أعمالاً عَمِلَها، وأموالاً جمعها، أمعن في مطالبها من صريحاتها ومشتبهاتها، قد أشرف على فراقها، وأَثْقَلتُه تبعاتُها ؛ فَعَضَّ على يده ندامة لما تيقن إجرامَه ، وتمنى أن الذي [2-ب] كان يحسده عليها يَحْمِلُها عنه بتبعاتها، ويَسْلم من موبقات آفاتها.
__________
(1) 15])ـ الحديث في شعب الإيمان (7/432)، وفي كتاب الزهد وصفة الزاهدين (1/45)، كتاب الزهد لابن عاصم (1/137)، الزهد لابن المبارك (1/192) .
(2) 16])ـ في (أ) و(ب) كذا . وفي نهج البلاغة: رغباً . والكلام مستوحى من هناك.
(3) 17])ـ في (أ) و(ب) كذا . وفي نهج البلاغة: تعباً .(1/23)
فالعاقل من اتخذ منها بيد الاضطرار لا الاختيار، وأخلد إلى طاعة العزيز الجبار، ولم يجر للأمل(1)[18]) في مضمار، كما قد حذر عنها النبي المختار - صلى الله عليه وعلى آله الأطهار - حيث قال: ((أخوف ما أخاف على أمتي اتباع الهوى وطول الأمل(2)[19]))).
وأسعد الناس فيها رجل وفقه الله واستشعر الحزن، وتَجلّبَبَ الخوف حتى أنار مصباح الهدى في قلبه ؛ حين اشتغل بمهمات لُبّه ، وحبس نفسه عن الملهيات، وخلع سرابيل الشهوات، فانجلت عنه غياهب الشبهات، فأبصر ببصيرته الحقائق، وأدرك ما غفل عنه أبناء الدنيا من الدقائق.
يصف الحق ويعمل به، وعمله أجلى من قوله لئلا يكون كما قال تعالى فيمن ذمه: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3) } [الصف] ، لا يدري(3)[20]) للخير غاية إلا أَمّها، ولا مَظَنَّةً إلا قصدها.
قادهُ القرآن فانقاد، ووأقفه(4)[21]) على السبيل فما حاد، ذلك سبيل أعلام الهدى، وأرباب التقى أهل بيت محمد المصطفى صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم.
قال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)).
__________
(1) 18])ـ في (أ): للعمل.
(2) 19])ـ الحديث في شعب الإيمان (7/369) مرفوعاً بزيادة: ((أما الهوى فإنه يصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة))، وهو في صفوة الصفوة (1/321) .
(3) 20])ـ في (أ): لا يدع .
(4) 21])ـ في (ب): ووفقه .(1/24)
وقال علي [صلوات الله عليه]: (أيها الناس خذوا عني عن خاتم النبيين: إنه يموت من يموت منَّا وليس بِمَيِّت، ويبلى من بَلِيَ منَّا وليس ببال(1)[22])) صدق عليه الصلاة والسلام فإن آثار الحياة في [2-أ] ميّتهم باقية، وأعلامها بينة.
كما قال [عَلَيْه السَّلام]: (مات خُزَّانُ الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة(2)[23])).
فهذا هو أسعد عباد الله، وأشرف أهل الأرض عند الله، لِما أخلص دينه لله باتباع العترة الطاهرين، وأصلح عمله بالميل عن شهوات [3_ب] المترفين، وألجم نفسه بلجام التقوى، وذادها عن مراعي الوبا، لا كمن قمش جهلا، وشرب من أجاج عَلاًّ ونهلا، وأرخى زمامه على غاربه، وقضى منها جميع مآربه.
حتى اكتظته بِطْنَتُهَا، وغمرته فِتْنَتُها، فغرق عقله، وغطاه جهلُه، حتى حمل الكتاب على آرائه، والحق على أهوائه، فَعَمي وعمّى على غيره، <وضَلّ وأضل غيره(3)[24])> بسببه، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيتجنبه، فذلك ميّت الأحياء ، ورأس الأشقياء، أعمته العاجلةُ عن متابعة العترة الطاهرة، حتى باء بصفقة خاسرة، وتجارة بائرة، فهذا اختصار في هذا التمهيد.
فصل: وأما التوطئة:
[وجوب الكون مع الصادقين]
فاعلم (أيدك الله(4)[25])) أنها لا تتم النجاة إلا باتباع الحق والكون مع أهل الصدق؛ لأنه لا يجوز أن تكون هذه الأمة كلها على اختلافها وتباينها في اعتقاداتها ومذاهبها مصيبةٌ للحق.
__________
(1) 22])ـ نهج البلاغة (ص120) رقم الخطبة: (87) تحقيق د/ صبحي الصالح .
(2) 23])ـ نهج البلاغة (ص496) رقم الخطبة (147) من كلامه –عَلَيْه السَّلام- لكميل بن زياد النخعي، وفيه: ((هلك خزان ..إلخ)) .
(3) 24])ـ ما بين المفتوحتين سقط من (ب) .
(4) 25])ـ سقط من (أ) .(1/25)