واعلم هُديت أنه ما هَدَم الدين ولا غيّره أعظم من أئمة الجور، [26-ب] ومما ساروا به في أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم أخذوا أموالهم واقتسموها فيما بينهم، واستعانوا بها على باطلهم، ووجدوا من المضلين(1)[182]) أعواناً على أخذها؛ لترغيبهم لهم في ارتكاب المحرمات، وشرب القهوات، وإباحة المحظورات؛ فصاروا جميعاً متعاونين على الباطل، ولم يبق هناك مانع ولا حائل، [17-أ] وسلط الله تعالى بعضهم على بعض ورفع عنهم يد التوفيق، فتراكموا في مضائق الطريق، فلم يبق مَحْرَمٌ إلا انتهكوه ، <ولا باب للإسلام إلا أرصدوه(2)[183])>، ولا منار للدين إلا هدموه.
فبطلت أحكام الله وهدمت سنة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم، وأفسدوا على العباد معائشهم ، وموّهوا على أكثرهم أمر دينهم، حتى في صلاتهم وأعيادهم وجمعهم ، يتقدمهم بذلك شَرُّهم، يختطب للظالمين ويمتدح الأئمة الفاسقين، ويدعو لهم على المنابر، ويعاون(3)[184]) على هدم الإسلام ويظاهر، وهو يعرف ويتحقق أنه يختطب(4)[185]) لِشَرَبةِ الخمور ومرتكبي الفجور ، وأهل الإفك والزور.
ثم يأتمون به في صلاتهم ولا يردعهم ما عرفوه من أمره على إتباعه، ولا ينهوه عن فسوقه وابتداعه، وقد قال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه(5)[186]))).
__________
(1) 182])ـ في (ب): المظلومين .
(2) 183])ـ ما بين المفتوحتين سقط من (أ) .
(3) 184])ـ في (ب): ويعاونون .
(4) 185])ـ في (ب): يخطب .
(5) 186])ـ أخرج الخبر: الإمام أبو طالب في تيسير المطالب (ص224)، وابن أبي النجم في درر الأحاديث النبوية بالأسانيد اليحيوية (ص66) .(1/86)
وقال [عَلَيْه السَّلام]: ((لا يؤمَّنَ فاجرٌ مؤمناً، ولا يصلينَّ مؤمنٌ خلفَ فاجر(1)[187]) )) فقد ظهر الكفر وعظم الأمر ، واصطلحت هذه الأمة الفاسدة على التعاون على دين محمد صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم إلا ما حفظ الله به من قيام أهل البيت عَلَيْهم السَّلام في وجوه المعتدين، على خذلان من الأمة لهم وابتزاز لحقّهم ، وإعلان لعداوتهم، وتظاهرهم على محاربتهم، حتى قل مُعِيْنُهم وناصرُهم فَقَلَّوا في عين عدوهم، فازداد الشاك نفاراً عنهم والمنافق بعداً منهم، وخلص إليهم من(2)[188]) سبقت لهم من الله الحسنى.
[كلام علوي]
كما قال أمير المؤمنين(3)[189]) [صلوات الله عليه]: (سيأتي بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب(4)[190]) إذا تُلي حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حُرِّف عن مواضعه؛ ولا في البلاد أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر)..في كلام طويل بلغ فيه إلى قوله عَلَيْه السَّلام:
__________
(1) 187])ـ الخبر: رواه صاحب الجامع الكافي (خ) في باب إمامة الصلاة .
(2) 188])ـ في (أ): الذين .
(3) 189])ـ الخبر في نهج البلاغة (ص204) رقم الخطبة (147) تحقيق د/ صبحي الصالح .
(4) 190])ـ نهاية الصفحة [27-ب] .(1/87)
(واعلموا أنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يَتَعَظَّم، فإن رِفْعَةَ الذين يعلمون ما عَظمتُه أن يتواضعوا له، وسلامة الذين يعلمون ما قُدْرَتُه أن يستسلموا له. فلا تنفروا من الحق نِفَارَ الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السَّقم، واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه ؛ فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنهم عَيْشُ العلم، ومَوْتُ الجهل. هم الذين يخبركم حكمهم(1)[191]) عن علمهم، وصمتُهم عن منطقهم، وظاهرُهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، وصامت(2)[192]) ناطق) هؤلاء الذين أحال عليهم أهل بيت المصطفى وورثة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
وأما ما ذكرتَه (أيدك الله(3)[193])) من الأبيات التي فيها: [الوافر]
لقد أَصْبَحتُ من ضعفِ اليقين
أُكَابِدُ منهما خطباً جسيماً
إذا أصلحت ديني ضاع مالي
على حالي تلافٍ مُسْتَبينِ(4)[194])
ودون مرامه قطْعُ الوتينِ(5)[195])
وإن أصلحت مالي ضاع دينيِ
واعلم أيدك الله أن الدنيا ليست أهلاً أن نُقْبِل عليها، فلا نؤثرها وهي فانية على صلاح أنفسنا في الدار الباقية، فجميع ما فيها من ملكها وعناها وسرورها (وبهجتها(6)[196])) إلى زوال، وأهلها كلهم إلى انتقال، وليس بين أحدنا وبين الجنة أو النار إلا الموت.
__________
(1) 191])ـ في (أ): حلمهم .
(2) 192])ـ في (أ، ب): وصاحب ناطق، وما أُثبت من نهج البلاغة .
(3) 193])ـ سقط من (أ) .
(4) 194])ـ عجز البيت كما هو في (أ، ب) وهو غير واضح ومنزحف .
(5) 195])ـ الوتين: عرق في القلب يجري منه الدم إلى العروق بانقطاعه ينقطع عمر الإنسان .
(6) 196])ـ سقط من (ب) .(1/88)
والله إن غاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة، لجديرة بقصر المدة، وإنَّ غائباً يحدوه الجديدان : الليل والنهار لحريٌ سرعة الأوبة، وإنَّ قادماً يَقْدُمُ بالفوز أو الشقوة لمستحقٌ لأفضل العُدَّة. فَاتَّقَى عَبْدٌ ربَّهُ(1)[197]) ، نَصَحَ نفسه ، وقَدَّم توبته وغلب شهوته؛ فالأجل مستور ، والأمل خادع غرور(2)[198]).
[تصنيف طبائع العباد]
واعلم أيدك الله أن الله ركب العبد على طبائع أربع، وعدلها تبارك وتعالى، فإذا استقام على أوامر الله عز وجل صفت طبيعته واعتدلت موارده، وذلك أن الرغبة ضد الزهد، والجهل ضد العلم، والجبن ضد الشجاعة، والترك ضد العمل، فإذا استقام الورع لم يرغب عن البدل، ولا يميل إلى الجور في الأمر، وإذا استقام الزهد لم يجب داعي الهوى في طلب اللذات ، والاشتغال بالشهوات ؛ لأنه إذا مال إلى الجور لم تصفى طبيعته، ودنس بالطمع دينَه وعرضَهُ، وإذا مال إلى طلب اللذات مال إلى الهوى في متابعة الشهوات.
وإذا علم صَفَتْ طبيعَتُه عن الجهل والعمى، وأنار قلبُه بالعلم والهدى؛ فنطق بالحكمة وجانبَ في جميع أموره الشينَ والجهلَ والنقصان، لأن العلم يدله على الحلم، والجهلَ يحمله على الظلم والغشم، وأولُ أبواب الزهد القناعة لأن القانعَ لا يريد أكثر مما أعطي لرضاه عن الله تعالى بما أعطاه ، فإنه يعرف أنه اختار له ذلك على ما سواه، فهو عازفٌ عن الدنيا وما فيها لا يريد إلا الكفاف منها، والبلغة إلى الآخرة فيها، قال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((ما قَلَّ وكفى خيرٌ مما كَثُرَ وأَلْهى(3)[199]))).
__________
(1) 197])ـ نهاية الصفحة [28-ب] .
(2) 198]) - الكلام مستوحى من (نهج البلاغة) وفيه : قوله فاتقى عبده ربه وما بعده أوامر بصيغة الماضي ، ويجوز أن يكون بياناً للتزود المأمور به (هامش الشيخ محمد عبده) .
(3) 199])ـ الخبر: في مسند الشهاب (2/235) برقم (1261)، البيان والتعريف (2/192) .(1/89)
ومن هاهنا قَدَّمَ أئمة الهدى مجاهدة النفسِ حتى تستقيم على طبائع الصحة الدينية على مجاهدة الأعداء؛ فإذا صفت الطبيعة أقدموا على بصيرة، ولهذا لم يبخلوا بإراقة دماءهم في سبيل الله حين تمسكوا بما ذكرناه أولاً ، ومن هاهنا لقوا شياطين الإنس وآساد بني آدم من الكفرة والطغاة، وعتاة الأنام، وأقدموا عليهم إقدام البطل الهمام، [و]الأسد الضرغام.
وكان زيد بن علي [عَلَيْه السَّلام] يقول: (البصيرةَ البصيرةَ ثم الجهاد) أو ما هذا معناه(1)[200]).
وقال علي [عليه الصلاة والسلام]: (من غضب لله قوي على قتل آساد الباطل، ومن باع نفسه لله استحق منازل الأفاضل) فهذا طريق النجاة لمن طلبها، وسبيل السلامة لمن أرادها [16-أ].
[شكوى قلَّة الإخوان]
وأما ما شكاه من قلة الإخوان وعدم الأعوان مع ضعف الزمان. [29-ب].
فاعلم أيدك الله أن هذه أمة ظلمتْ أهلَ بيت نبيها حَقَّهَا، وعَدَلَتْ عن سادتها وجَمَحَتْ عن طاعتها، وسَعَتْ في خذلانها وتكثير سواد عدوّها عليها، ومعاونته بالجبايات لها، فضرب الله تعالى بعضهم ببعض حتى غضب عليهم، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41].
__________
(1) 200])ـ (عباد الله لا تقاتلوا عدوكم على الشك فتضلوا عن سبيل الله، ولكن البصيرة البصيرة ثم القتال ...) هذا الكلام من خطبة له خطبها أصحابه حين أظهر دعوته . انظر الحدائق الوردية (مصورة 1/141) .(1/90)