وحديث أنس بن مالك، قال: دعا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم ذات يوم بوضوء فتوضأ فصلى ثم قال: ((يدخل عليَّ أمير المؤمنين وخير الوصيين وأولى الناس بالنبيين)) قال: قلت: اللهم اجعله رجلاً من الأنصار، قال: إذ ضرب الباب، فدخل علي بن أبي طالب، فقام النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم فجعل يمسح من وجهه فيمسح به وجه علي بن أبي طالب عَلَيْه السَّلام ويمسح وجه علي فيمسح به وجهه، فدمعت عين علي عَلَيْه السَّلام فقال: يا رسول الله، ما في هذا ترى بي شيئاً ؟ قال: فقال ((ولم لا أفعل هذا لك وأنت تسمع صوتي وتؤدي عني وتبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي(1)[173]))).
وفيه دلالة أن ما ذهبت إليه الزيدية من أن قوله عَلَيْه السَّلام حجة واجبة الاتباع فهو حق وصواب، وفي شرفه وفضله فضل لولده عَلَيْهم السَّلام، وذلك فيما يؤكد القول بأنهم الفرقة الناجية عند الله عز وجل.
__________
(1) 173])ـ أخرجه الإمام المنصور بالله في الشافي (1/4/123) بسنده عن صاحب المحيط يبلغ به أنس بن مالك، وأخرجه أيضاً الحافظ محمد بن سليمان الكوفي في المناقب، من طرق عدة عن أنس بن مالك (1/312، 313، 361، 391، 431)، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (42/386 ت) ، وقال الشيخ محمد باقر المحمود في هامش مناقب الكوفي: رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب حلية الأولياء (1/63)، ورواه الخوارزمي في الفصل السابع من كتابه مناقب علي –عَلَيْه السَّلام- (ص41)، وأيضاً رواه بسنده عن أبي نعيم السيوطي من فضائل علي –عَلَيْه السَّلام- من كتاب اللآلئ المصنوعة (1/186) (ط/بولاق)، ورواه أيضاً الحموئي بسنده عن أبي نعيم في الباب (27) من كتاب فرائد السمطين (1/145) (ط/ بيروت) .(1/81)


ولأن إسنادهم أشرف، ورجاله أورع وأعلم وأزهد؛ لأنهم أئمة الهدى وسادات بني الدنيا، ولو ملنا إلى شرح أخبارهم وقصصهم [23_ب] وآثارهم لطال الشرح وخرج عن حد الغرض، وفيما ذكرناه كفاية [15-أ] وتنبيه وهداية لمن نظر بعين البصيرة ، وعفّ(1)[174]) نفسه عن الدنيا الحقيرة، واتبع الهدى، وجانب الهوى.
فنسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم، وأن لا يسألنا إخلاصنا لمودتهم بحقه العظيم إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وقد تمت بذلك المقدمة.
[الجواب عن ما سأله الفقيه الشافعي]
فأما الجواب عما ذكره في الكتاب؛ فنحن نذكر ذلك على ترتيبه إن شاء الله تعالى:
أما ما مدح به أهل البيت من الرفض للدنيا الفانية، والتشمير لذخائر الآخرة الباقية، ومن قوله: (نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، واهتموا بآجل الدنيا حين اهتم الناس بعاجلها..إلى آخر كلامه في ذلك).
فهم كما وصف وفوق ما نعت، وسببه أنهم أصفياء الله في أرضه، وأحبائه من خلقه، وإذا أحب الله قوماً تنسكوا له بنسك من هجم على علم، شاهدوا القيامة قبل أن يبلغوا إليها فحملوا أنفسهم على مجهودها، فإذا ذكروا صباح يوم العرض على الله تصوروا خروج عنق من النار يحشر الخلائق إلى ربهم، وظهور كتاب تبدوا فيه فضائح(2)[175]) ذنوبهم ، فكادت أنفسهم تسيل سيلاناً، وتطير بأجنحة الخوف طيراناً، وتكاد تفارقهم عقولهم إذا غلت بهم مراجل الرد إلى الله غلياناً.
فلهذا بذلوا أنفسهم وهي أغلىالذخائر لله عز وجل، وجاهدوا في سبيله ومضوا على سنة من سبقهم من أسلافهم الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
__________
(1) 174]) - في (أ) ، (ب) : وعرف ، وما أثبت تصويب .
(2) 175])ـ في (ب): فضائع.(1/82)


ولما سمعوا قول الله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41]، قاموا مشمرين وبادروا مسرعين، وذكروا قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، وطارت أفئدتهم رغبة في ذلك وقالوا لنربح البيع فلا نستقيل، فرضوا بالجنة ثمناً لأنفسهم، ورغبوا في طاعة سيدهم.
ولما ذكروا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ(4)} [الصف]، مع قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)}...الآية [الأنفال]، صبروا على مرارة الحرب، وصفوا للطعن والضرب، واستشعروا حينئذ الخشية، وتجلببوا السكينة، وعَضُّوا على النَّواجذ، وقلقلوا السيوف في أغمادها(1)[176])، ثم سلوها وأغمدوها في الهام، وطعنوا الشزر، ونافحوا بالظُّبا، ووصلوا السيوف بالخطا، واستحيوا حينئذٍ من الفرار، ومشوا إلى الموت مشياً سمحا.
فسفكوا دماء نفوسهم بأيدي أعدائهم؛ طلباً لرضا ربهم ومبالغة في طاعة سيدهم، تصغيراً منهم للفانية، وتعظيما ًللأخرى الباقية، وزهداً في العاجل وادخاراً للثواب الآجل ، وتعظيماً منهم صلوات الله عليهم لأمر ربهم، وتأدية لحق الله، وإحتمالاً للصبر في ذات الله في السراء والضراء.
فهذا زهدهم الذي بذلوا فيه جهدهم على استنارة منهم بنور الحكمة، وبصيرة نافذة ويقين خالص، وعمل بكل فرائض الله، وقيام بكل أوامر الله، لا كما يظن الظانون ويتوهم المتوهمون أن الزهد [16_أ] والورع إنما هو الخمول والعزلة والانفراد والوحدة.
__________
(1) 176])ـ في (ب): أغمادهم، والكلام مستوحى من نهج البلاغة، رقم الخطبة (66).(1/83)


وكيف يكون ذلك ديناً والمنكرات ظاهره، والمعاصي منتشره، والحق مقهور والباطل معلن به مشهور، وقد قال الله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)} [المائدة]، وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104)} [آل عمران].
ولو قدر أن المنفرد وحده والمنعزل بنفسه، لا يرى المنكر ولا ينتشر عنده ولا يظهر، فلا بد أن يكون جهاد المجاهدين أفضل [25-ب] وقيامهم بأمر الله أعظم وأكبر، قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(96)} [النساء].
وقال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: (([كل يوم يرفع و(1)[177])]للإمام العادل أجر سبعين صديقاً(2)[178]))).
وعنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((ما أعمال البر مع الجهاد إلا كَنَفْثَةٍ من ريقك في اليم(3)[179]))).
[تصنيف الناس إلى أربعة]
__________
(1) 177])ـ ما بين المعكوفتين سقط من (أ) .
(2) 178])ـ الخبر: أخرجه بلفظ مقارب: أبو القاسم الجرجاني في تاريخ جرجان (1/69) من حديث أبي بكر .
(3) 179])ـ لم أقف عليه، وهو مروي في كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة رقم الخطبة (147) .(1/84)


واعلم أيدك الله: أن الناس أربعة: منهم من لا تمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه ، وكلالة حده، ومنهم المصلت بسيفه المعلن بشره، المجلب بخيله ورجله، ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر من ثوبه، وزخرف من قوله، واتخذ سنن الله ذريعة إلى معصيته لربه.
ومنهم من أقعده عن الملك ضئولة نفسه، وانقطاع سببه فتحلا باسم القناعة، وتزين بلباس أهل الزهادة، وليس من ذلك في شيء.
وبقي رجال غضوا أبصارهم من الدنيا خوف المرجع، وأراقوا دموعهم ودماءهم في ذات الله على بصيرة من خوف المحشر؛ فهؤلاء الفائزون وهم أهل البيت الطاهرين ، <وأتباعهم من المتقين(1)[180])> صلوات الله عليهم أجمعين.
فلا تغتر بالقول المزخرف، وخذ ما تعرف ودع ما لا تعرف، فالطريق واضحة ، وأعلام الدين نيرة لائحة.
[النجاة والمخلص]
وأما قوله أيده الله: كيف الحيلة وما المخلص وفيهم النجاة مع ضعف النفوس ، ومحاربة السلطان(2)[181]) وكيد الهوى.
واعلم أن المخلص والنجاة لا تتم إلا باتباع الأئمة الهداة؛ لأنا قد بينا أن الحق في أيديهم وأنه لا ينجوا من الفِرَقِ التي افترقت عليها هذه الأمة إلا هم، ومن تابعهم دون غيرهم.
__________
(1) 180])ـ ما بين المفتوحتين سقط من (أ) .
(2) 181])ـ في (ب): ومحاربة الشيطان.(1/85)

17 / 21
ع
En
A+
A-