وإذا قدر وجود قول لأحدهم لا يمكن تأويله ولا حمله على ما يوافق وكانت روايته قد صحت وجب تحكيم الكتاب عليه، لأنه الثَّقل الأكبر،وبقينا نحن على اتباع الكتاب والجمهور من العترة على الأصول المقررة، وقد بينا أن المقرر في هذا الأصل هو ما ذكرنا من القول بعذاب صاحب الكبيرة وتخليده في النار، لأن أدلته صريحة لا احتمال فيها، منها عمومات مثل قوله تعالى:{ومن يعص اللّه ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين } ولا يقال فقد ذكروا أن دلالة العموم ظنية، لا سيما إذا قد خص وهاهنا قد خص بالتائب وخص بالصغائر، لأنا نقول الصحيح أن دلالة العموم في مسائل الأصول قاطعة سواء كان قد خص أم لا، لأن خلاف ذلك يؤدي إلى التلبيس والتغرير بإطلاق العام وإرادة الخاص من دون نصب دليل، وما ذكر من أدلة الأرجاء لا تصلح مخصصة لإجمالها، فوجب التعويل على العام وإن خالف في ذلك من خالف فالمعتمد الدليل ولئن الأصل في خطابات الشارع القطع بموجبها سواء عامة أو خاصة في الأصول والفروع، هذا هو الذي يقتضيه الوضع العربي مع كونه خطاب من لا يجوز مخالفة أمره وخبر من لا يجوز كذبه ولا تلبيسه، وإنما خصصت عمومات الفروع بمصير دلالتها ظنية لكثرة المخصصات فيها بخلاف الأصول ولكونه مما يكتفى فيها بالظن بخلاف الأصول وبقيت عمومات الأصول على أصلها، ثم إنه لا يجوز أن يتعبدنا اللّه تعالى بالعلم ولا ينصب لنا عليه إلا دليلاً ظنياً فهل هذا إلاّ تكليف ما لا يطاق واللّه يتعالى عنه، ومنها ما هو خاص مثل آية القاتل وآية القاذف وغيرهما، فأي إحتمال يدخلهما.(1/46)


وما ذكر من أن العفو جائز عقلاً معارض بمثله فيقال: بل قبيح عقلاً لأنه إغراء على فعل القبيح، بيانه أن الآمر الناهي إن لم يعاقب على مخالفته تجرأ المأمور عليها وسقطت ثمرة الأمر والنهي، لأنه يصير المأمور والمنهي الممتثل وغيره على سواء، وإن قيل بحسنه عقلاً في جزئية لا تتكرر كالعفو عمن أساء إليك فلا سواء إذ هذه أعمال بتكاليف تنبني على أصول وضوابط وحواجز مانعة رادعة حتى قضى العقل بأن عفوك عن المسئ لو عرف تجريه على المعاودة بسبب العفو لكان قبيحاً، فكيف بعد التصريح بمثل قوله تعالى: {ما يبدل القول لديّ وما أنا بظلام للعبيد}، {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}، {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به} وغير ذلك كثير.
إذا تقرر هذا فيجب حمل ماروي عن بعضهم عليه وتأويله ورده اليه بأي وجه من الوجوه.
فمثل دعاء علي بن الحسين عليه السلام:( اللّهم إن تشأ تعذبنا فبعدلك، وإن تشأ تعف عنا فبفضلك)، يحمل على التأدب، وأن المعنى أنك لو شئت أن تعذب ولا تقبل([80]) التوبة أو تعذب على الصغيرة لكان عدلاً، لأن ذلك من اللّه تعالى تفضل، وهذا معنى كون العبد تحت المشيئة لكنك لم تشاء ذلك بما وعدت.
____________________
([80]) ـ هذا بناء على أن قبول التوبة تفضل وفيه نزاع بين أهل الكلام كما حقق في محله من الأصول، واللّه ولي التوفيق. تمت من مولانا المجتهد/ مجد الدين المؤيدي أيده اللّه تعالى.(1/47)


مع أن لزين العابدين عليه السلام من الصرائح ما هو مشهور مثل قوله عليه السلام: ( فالويل الدائم لمن جنح عنك، والخيبة الخاذله لمن خاب منك، والشقاء الأشقى لمن أغتر بك، ما أكثر تصرفه في عذابك، وما أطول تردده في عقابك، وما أبعد غايته من الفرج، وما اقنطه عن سهولة المخرج).
ومثل حديث: (( من قرأ قل هو اللّه أحد ..الخ )) مع كونه ظنياً لا يعمل به في مسائل الأصول إلا مؤيداً لغيره من القواطع يمكن تأويله بأن المعنى من رأى في رفاقته من أهل الكبائر أخرجه عن مرافقته في حال الجواز على الصراط عند الإطلاع على النار لأنه في سياقه، والمقصود الطريق الموصلة إلى الجنة، وقوله: ((بذنب غير شرك )) لأن المشرك لا يطمع في مرافقته من أول وهلة، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: { قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً} ونحو ذلك من التأويلات التي هي أولى من الرد، ولأنه لو صح الحديث وكان على ظاهره لكان دليلاً على الخروج من النار لا على ماذكره السائل، ولا قائل به، وإن ورد ما لا يمكن تأويله وجب رده كما هي القاعدة المقررة في الأصول، ولا يقدح ذلك في ناقله ولا في كتابه، أما ناقله فالخطأ والنسيان والوهم مجوز على البشر، وإنما هو ناقل روى ما سمع، وإنما يقدح ما كان عمداً، ولهذا قال صلى اللّه عليه واله وسلم: (( من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )) فقيده بالعمد، وكثير من أفراد الأحاديث ما نُظِّر عليها وحكم بعدم صحتها ولم يعد ذلك قادحاً في الناقل ولا في كتابه، وأما كتابه فلبقاء الظن بصحته وكمال شروط الرواية في باقيه.(1/48)


وأما ما ذكره السائل من أن هذا هو الرجاء لا الإرجاء المذموم فالمصرح في كتب الأصول أن ذلك القول هو حقيقة الإرجاء المذموم ، لأن الإرجاء التردد في الشيء لا القطع به كما قال تعالى: {وآخرون مرجون لأمر اللّه إما يعذبهم وإمّا يتوب عليهم} ، وأما الرجاء: فهو رجاء قبول الأعمال وزيادة الكرامة ونحو ذلك مثل صحة التوبة والتوفيق إلى الأعمال الموجبة للرحمة والجنة والعصمة المبعدة عن أسباب الغضب والنار، ولهذا قال تعالى: {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} وقال تعالى: { وترجون من اللّه ما لا يرجون} ولهذا قَبُحَ الرجاء في غير موضعه كما قال الشاعر:
تصل الذنوبَ إلى الذنوب وترتجي .... درج الجنان بها وفوز العابد
أنسيت أن اللّه أخرج آدماً .... منها إلى الدنيا بذنبٍ واحد
نعم قد ذكر السائل كثرة الروايات وكثرة المروي عنهم مما يشوش الخاطر في هذه المسئلة الأصلية القطعية، وثمة تأويل وحمل جامع يمكن تطبيقُ كلما ورد من ذلك القبيل عليه ، ورد كل شاذ إليه ، وهو أن مراد الناقلين ومعنى مانقلوه ومقصد القائلين فيما قالوه هو تجويز العفو وعدمه فيما كان من الذنوب عمداً، ولا ورد فيه الوعيد مع الحد، ولا لفظ يفيد العظم أو الكبر لأن حال المعصية ملتبس في ذلك والعاصي تحت المشيئة فيحتمل أن تكون صغيرة عنده اللّه مكفرة، ويحتمل أن تكون كبيرة معاقباً عليها، ولفظ العاصي يشمل فاعل الكبيرة والصغيرة فيكون كلامهم موافقاً لقول من يقول: بعض العمد ليس بكبيرة كما هو المختار، وهو الظاهر من كلامهم وأنهم لا يريدون القاتل والسارق، واندفع الإشكال، والحمد لله على كل حال.(1/49)


(13) السؤال الثالث عشر (قال رضي اللّه تعالى عنه) سؤال :
على القول بقطعية الإمامة بمعنى أنه لا بد من إمام جملة وفي كل مدع من أهل البيت عليهم السلام ، والظاهر واللّه أعلم أن كونها قطعية في المدعي لها غير المنصوص عليهم لا يصح، إذ من المعلوم أن كونه مجتهداً أمر مظنون، وكونه مدبراً شجاعاً ونحوهما كذلك، فما الذي صيّرها قطعية في حق كل إمام يدعي سيما في أعصارنا هذه، فمن عارض الأول لاعتقاده عدم كماله هل ذلك جائز أم لا؟! ثم إذا اختبر العالمُ القائمَ فوجده قاصراً فهل يجوز له اعتقاد إمامته أم لا؟ أو عرف اختلاله بالتواتر؟ ثم إذا اعتزل بعد ذلك فهل يجوز للإمام إلزامه طاعته وهو يعتقد نقصانه أم لا يجوز؟ مع أن الأئمة قد ذكروا أنه لا يجوز للإمام إلزام العوام المبايعة بغير دليل، ويلزم الإنكار عليهم إذا فعلوا إذ يجب عليهم البحث والإختبار في الشروط التي يعرفونها وتقليد العلماء فيما لا يعرفونه، ثم العامي هل يجوز له تقليد هذا العالم الذي قد اعتزل أم لا؟ وفي شأن المعارضة لم تزل منذ قيام الإمام الهادي عليه السلام إلى الآن والمتعارضون جمٌ غفير من أهل البيت عليهم السلام، هل يعتقد الإيمان فيهم جميعاً وصلاح النية ونتولاهم ونقبل روايتهم أم لا؟ فذلك خلاف المعلوم من حال أهل البيت جميعاً بل لم يرو عنهم تضليل أحد من المتعارضين ، كيف وهم حملة العلم والمبلغون للشريعة من أهل البيت المطهرين، فبينوا ذلك بالدليل الواضح، فهذه موضع حيرة سواد ليلها مع كون المتعارضين قبل الدعوه وبعدها من أهل الفضل(1/51)

9 / 21
ع
En
A+
A-