وما ذكر من الإشكال اللازم بالتسوية بين من أطاع اللّه مدة عمره ثم فعل كبيرة ثم تاب ومن عصى اللّه مدة عمره ثم تاب إشكال تهويل ، ومصادرة فيما قام عليه الدليل ، لأنّا وإن قلنا بالتسوية لم يقدح ذلك في عدل اللّه وحكمته لأن المكلف المبطل لأعماله بالكبيرة من جهة نفسه أُتي لا من جهة اللّه تعالى ، فأشبه من بنى بناءً تاماً في مدة مديدة ثم هدمه ، فإنه هو ومن لم يبن سواء ، ولا عتب له على أحد ، ولأنه يعارض ذلك بمثله ، فيقال: فما تقولون فيمن أطاع اللّه مدة عمره ثم كفر ثم تاب ، وبين من عصى اللّه مدة عمره بالكفر ثم تاب ؟، ولا قائل بلزوم التفرقة في عدل اللّه بينهما ، ومَنْ نظر في قصة إبليس لعنه اللّه وقد أحبط عمله - وهو عبادة ستة آلاف سنة - بمجرد تكبره عن السجود لأدم حتى لعنه اللّه وأخبر أنه من أهل النار في تلك الحال عَلِمَ أن اللّه عدل حكيم ، وأن إبليس أُتي من جهة نفسه ، فإذا دلت الأدلة القاطعة على أن اللّه عدل حكيم ، ودلت الأدلة الآخرة على أن عمل صاحب الكبيرة قد صار هباءً منثوراً وجب الحكم بأن ذلك عدل وحكمة عُرف وجههما أم لا ، وإلاّ لزم الاعتراض الذي أورده بعض العلماء فيما هو الوجه في تخليد الفاعل لكبيرة واحدة في العذاب المهين مع كونه فعلها في وقت يسير؟، وأجيب عنه من أوجه عديدة وأعظمها وأجمعها ما ذكرناه ، وهذا هو اختيار الإمام القاسم بن محمد عليه السلام وغيره من الأئمة المتقدمين والمتأخرين من الآل وغيرهم ، وأبي علي ومن معه ، وهو الذي نطقت به صرائح الآيات والأدلة، وإذ يلزم من القول بالموازنة استحقاق العقاب والثواب لشخص واحد في وقت واحد، وهو محال لأن أحكامهما متنافية، ولا حاجة لإيراد آيات([68]) الإحباط لأنها قد صارت معلومة عند الكافة.
______________
([68]) ـ وهي مثل قوله تعالى: {وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} وقوله تعالى: {ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} وقوله تعالى:{ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} وغيرها كثير تمت عن شيخنا المجتهد/ مجد الدين المؤيدي أيده اللّه تعالى.(1/40)
(12) السؤال الثاني عشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال :
تقرر عند أكثر أئمتنا عليهم السلام أن من عصى اللّه ومات غير تائب أنه يستحق العقاب لا محالة لئلا يلزم الخلف في الوعيد، وقرروا ذلك بالأدلة، وهم سفن النجاة والأئمة الهداة يجب إتباعهم لكن فيما أجمعوا عليه، وأما ما اختلفت فيه أراءهم وتشتت فيه أنظارهم فلم يقل باتباع فرد معين أحد([69]) بعد أمير المؤمنين وسيد الوصيين، والمروي عن بعضهم أن العاصي داخل تحت المشيئة إن عذبه فبذنبه ، وإن عفى عنه فبفضله، وقدحوا في أدلة الأولين القائلين بالقطع حتى جعلوا أدلتهم ظنية يعرفها المطلع عليها ، وذكروا أن العفو جائز عقلاً وورد به السمع، ورووا معناه عن علي عليه السلام وعن زين العابدين، وقد روي عن زيد بن على عليهما السلام، وأما الروايات في الجامع الكافي المسمى بجامع آل محمد ففيه تصريح عن محمد بن منصور فقيه آل محمد وعن الحسن بن يحي بن زيد أحد الأئمة الأربعة الذين بنى مصنف الجامع الكافي كتابه على مذهبهم، ونقل عن الإمام يحيى والهادي بن إبراهيم والإمام شرف الدين، وأما محمد بن إبراهيم فقرره وذكر أن أحاديثه تنيف على أربع مائة حديث بالغة حد التواتر، وتأولوا آيات
____________________
([69]) ـ لم يعتد بخلاف الإمامية تمت.(1/41)
الوعيد بأنها محتملة للتخصيص (إلا أن يعفو اللّه عنه ) كما قدر التخصيص الجميع (إلاّ أن يتوب) وهذا هو الرجاء وليس الإرجاء المذموم إلا القطع بالغفران للعاصي إما بشفاعة أو غيرها والقول بخروج أهل النار فذاك أيضاً لم يقل به أحد من أئمتنا، ولم نذكر هذا اعتقاداً له بل أشكل علينا لأن المسألة أصولية والمخالف فيها مخطٍ آثم، فإن كانت أدلة الأولين قطعية فالآخرون مخالفون للقطعي وفيه ما فيه، وإن كانت الأدلة ظنية فلا ضير على المخالف، ونحن ننزه أفراد أهل البيت عليهم السلام أن يخالفوا قطعياً وحاشاهم ، فهل هذه إلا مشكلة تحيرنا فيها نرجوا كشفها بالأدلة الواضحة ، ثم ما روي في أمالي أحمد بن عيسي برواية عيسى بن عبد اللّه عن أبيه عن جده عن عمر عن علي عليه السلام من: (( قرأ قل هو اللّه أحد مائة مرة دبر كل صلاة جاز الصراط يوم القيامة وعن يمينه وشماله ثمانية أذرع وجبريل آخذ بحجزته، وهو متطلع في النار يميناً وشمالاً من رأى فيها دخلها بذنب غير شرك أخرجه)) فهذا مشكل غاية الإشكال على قواعد الآل ، إن قلنا برده مع هذا السند لزم التشكيك في جميع أحاديث الكتاب ، وهو أعظم معتمدات أئمتنا ، وإن قلنا بقبوله ففيه ما فيه؟ والجواب مطلوب جزيتم خيراً .(1/42)
*الجواب الثاني عشر عن هذا السؤال:
أنه لا بد من تقديم بيان أصلين في هذا البحث ليقع البناء عليهما .
أحدهما: تقرير الحق في هذ ه المسألة بالدليل إذ الدليل هو المعتمد ، فيقال: تقرر في الأصول بآيات الإحباط وآيات الوعد والوعيد المشهورة أن فاعل الكبيرة يستحق العقاب الدائم ولو تقدمت له أعمال مثل الجبال ، والأدلة في ذلك صريحة مذكورة في مواضعها عموماً وخصوصاً مثل قوله تعالى :{ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} وغير ذلك مما ورد في الكبائر ، وإنما أشرنا إلى طرف من ذلك ووجدنا استثناء التائب صريحاً في كتاب اللّه تعالى في غير ما آية فوجب أن يكون من المخصصات سواء كان متصلاً أو منفصلاً ، وما أطلق من آيات الوعيد وجب حمله على المقيد كما هي القاعدة الأصولية ، ولم نجد الاستثناء بقوله: (إلاّ أن يعفو اللّه) في شيء من الآيات فلا يصح جعله مخصصاً من دون دليل وإن وجد في بعضها{ إلاّ ما شاء اللّه} ، فالتقييد بالمشئية محتمل ولا استدلال بمحتمل، إذ يحتمل إلا ما شاء اللّه وهي الأ وقات المتقدمة على دخول النار ، كيف ويوم الحساب وحده خمسون ألف سنة ، ويحتمل أن التقييد بها ليس باستثناء حقيقة بل هو لتعليم التأديب كما في قوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء اللّه} ولهذا دخلت في سياق أهل الجنة مع أنه لا قائل باستثناء أحد منهم، وفي قوله تعالى: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} المراد بهم أهل الصغائر ، لأنها قد أفادت أن ما عدا الشرك فمنهم من يشاء تعذيبه ومنهم من لا يشاء ،وكل دليل من أدلة الإرجاء محتمل والمقام مقام بيان في مسألة قطعية لو جوزنا التشكيك فيها لزم عنه التلبيس في أمر الدين، وناقض قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شئ} {وتبياناً لكل شئ} والوعيد من اللّه إخبار وهو لا يجوز تخلفه من الحكيم تعالى.(1/43)
والأصل الثاني: أن الكتاب والعترة لا يختلفان لما تقرر من الأدلة أن الحق معهم، وأنهما ((لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)) ، وأنهم تراجمة الكتاب وحماته وورثته، والأدلة في ذلك واسعة بالغة حد القطع ليس هذا موضع ذكرها، وقد تقرر في مسائل الفروع أن كل مجتهد مصيب أو المخطي معذور على اختلاف المذهبين، وتقرر أيضاً أن الحق في أصول الدين مع واحد والمخالف مخط غير معذور، إذا تقرر هذا فنقول:
الروايات المشهورة عن أئمتنا عليهم السلام في كتب الأصول وغيرها الإطباق على أن صاحب الكبيرة إذا مات غير تائب فهو يستحق العذاب الدائم لا محالة، وهو الذي يجب حمل أقوالهم عليه ورد ما شذّ عنه إليه لأنه قد تقرر أن هذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين، وتقرر بآيات الوعيد الصريحة وما وافقها من السنة النبوية الجزم بعدم جواز تخلف الوعيد من اللّه تعالى، ووافق ذلك قضية العقل لأنها إخبار عما يؤول إليه حالهم، ولو جوزنا تخلف الوعيد من الله تعالى لزم الكذب وهو محال على اللّه([75]) تعالى، وصفة نقص يتنزه عنها فيجب الحكم بأن قولهم عليهم السلام مطابق لما في الكتاب ولا يخالفة، وإذا وجدنا رواية شاذة لبعضهم تخالف في الظاهر آيات الكتاب وأقوال جماعتهم وجبَ تأويلها وردها إلى ما يوافق الصواب والجمهور والكتاب كما يجب رد المتشابه من القرآن إلى المحكم لأنهم قرنائه وأحد الثقلين الذين وجب التمسك بهما والشبه بينهما غير خلي.
__________________
([75]) ـ أي في الحكمة . تمت من مولانا الحافظ/ مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى.(1/45)