وأما قول السائل: إن القول بتواتر القراءات السبع منا إنما هو تقليد إذ لم تتواتر لنا، ومن أولى بالإتباع؟ من قال: بالعشر أو السبع أو قراءة نافع فقط؟.
فنقول: بل قد تكون القراءات كلها حتى قراءة نافع غير متواترة لغير المطلع ولكن عهدة العالم أن يعمل بعلمه وما صح عنده هل كلها أو بعضها، ولا يجوز له التقليد، والجاهل يعمل بمذهب من قلّده لأنها من المسائل العملية، وإن كانت قطعية فهو يجوز التقليد فيها.
وأما أولوية التقليد فالأئمة المشهورون من أهل البيت عليهم السلام أولى من غيرهم، ومهما كان في السفينة فهو ناج وإن كان أوسطها أحسنها.
وأما قول السائل: إن التواتر إنما هو عن القرّاء السبعة، وأما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فنص الأكثر أنها لم تتواتر؟.(1/34)
فنقول: قول القائلين لذلك نفي وقول الناقلين لذلك إثبات، وعدم العلم لا يدل على العدم، والمثبت أولى من النافي، كيف وقد قال نافع: سمعتها عن سبعين بدرياً فلا أبالي بنحوتكم، والتواتر قد يحصل بالأربعة والخمسة كما قرر في مواضعه، وكيف والصحابة زهاء مائة الف في نفس الحرمين دون غيرهما، ولا زال الإسلام يتكاثر وأكثر عنايتهم فيما جاء عن اللّه تعالى على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، والصحيح أن القراءات السبع متواترة لأنها تقرأ في سائر الأمصار والقرى والمدن الكبار، بالقرب والبعد من الديار في جميع الأعصار، من غير اختلاف ولا إنكار، حتى منعوا من إدخال اسم السورة بينه، وحتى اختلفوا في البسملة، وكان حجة أهل البيت إثباتها في المصحف، وأجمعوا على ثبوتها آية، فتواترها أبلغ من تواتر غيرها من متواتر السنة يعلم ذلك من تتبعه، حتى أثبتت في المصاحف المقروءة المشهورة في مدن الإسلام وحتى خدمت وكتبت بماء الذهب، ولم يسمع إنكارها بل تقريرها وقراءتها مع حرصهم على نفي أدنى زيادة، ولو قرأ قارئ بالشاذة لسورع إلى نهيه وزجره، ثم إن اللّه تعالى يقول: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } فلو لم يكن هذا المتلوّ على سبع قراءات من غير إنكار لما كان اللّه تعالى قد حفظه، وهذا إنما هو بالنسبة إلى مواضع اختلاف القراء فيما يرجع إلى الصفات وما يلحق بها وهو يسير وإلاّ فالقرآن معلوم من ضرورة الدين عند العالم والجاهل واللّه أعلم.(1/35)
(11) السؤال الحادي عشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال :
فيمن أطاع اللّه مدة، ثم فعل كبيرة، ثم تاب بعد ذلك، وعكس هذه الصورة، ما هو الراجح على كلام أبي هاشم وبعض أئمتنا القائلين بالموازنة ؟، هل يعود ثواب الطاعة في المسألة الأولى وعقاب المعصية في الثانية أم لا يعود فيهما؟ أم يعود في الأولى دون الثانية؟. إن قلتم يعود فيهما فأي شيء أسقطت المعصية في الأولى والطاعة في الثانية ؟مع أن الإسقاط بالموازنة ، وإن قلتم لا يعود أبطلنا ما قرروه من أن العقاب والثواب إنما يسقطان بالموازنة، وإن قلتم يعود في الأولى دون الثانية فما الفارق؟ ، وما هو الذي يعود ؟، وما هو الذي قد سقط؟ وهل الساقط دائم وقت استحقاقه أم غير دائم ؟ مع أن الموافاة غير شرط عند أهل الموازنة، والثواب والعقاب دائمان بالاتفاق.
وإذا قلنا بالعود فهل تعود الطاعة؟ فمحال، أو الثواب المستحق عليها فليس إلاّ دخول الجنة ولم يقع حتى يعود، وإذا قلنا بعدم العود فهل يبقي الدوام ويسوى بين من عصى اللّه مدة عمره وتاب يوماً ثم مات، ومن أطاع اللّه مدة عمره، ثم عصى بفعل كبيرة ثم تاب توبة نصوحاً ومات ؟، وهذا ليس من العدل واللّه تعالى عدل حكيم، فهذا ما أشكل علينا .
وقد قال بعض أهل الموازنة إنه لا يعود له ما قد انحبط من الطاعات إذا تاب ، وظاهره أما ما لم ينحبط فيعود، وفرّع عليه الإمام المهدي أنه يتجدد له استحقاق ثواب في الأوقات المستقبلة على الطاعات الماضية التي تعقبتها معصية وأنها مراد أهل الموازنة، فأشكل علينا ذلك ، إذْ يقال هل الساقط دائم؟ أم لا- لايصح الدوام لأنه قد سقط ولا عدمه للاتفاق على أن الثواب والعقاب دائمان؟، وكذلك المتجدد إذا كان دائماً فما الفرق بينه وبين الساقط؟، وإن كان غير دائم فما هو؟ والجواب مطلوب.(1/36)
*الجواب الحادي عشر:
في قول أبي هاشم وبعض أئمتنا عليهم السلام القائلين بالموازنة فيمن أطاع اللّه تعالى مدة عمره ثم فعل كبيرة ثم تاب والعكس أن المشهور عنهم عدم عود الثواب والعقاب في المسألتين معاً، وحجتهم في الأول أن عقاب تلك الكبيرة صيّر الثواب كالمعدوم ولسقوطه بالموازنة، وحجتهم في الثانية أن التوبة قد أسقطت عقاب المعاصي الأولة ولم يبق إلا عقاب المتجددة بعد التوبة، ويبقي الإشكال في قولهم (ولسقوطه بالموازنة)، فكأنهم يحكمون في هذه المسألة الأولى برجحان الكبيرة على الطاعات مطلقاً لمصير الحال إلى السلامة بتجدد التوبة بخلاف الثانية، فقد انتهي الحال إلى استحقاق العقاب على الكبيرة الواقعة بعد التوبة، لكن التوبة قد أسقطت ما قبلها من المعاصي، إلا ما حكي عن بشر بن المعتمر فأشبه كلامهم في هاتين المسألتين كلام القائلين بالإحباط،، وإنما تظهر ثمرة الخلاف فيمن فعل الكبيرة ثم فعل الطاعة في حال عصيانه وإصراره، هل تسقط شيئاً من عقاب المعاصي أم لا؟ فهذه هي المشهورة بمسألة الموازنة التي جوّزوا فيها نمو الطاعات على المعصية وقالوا: إن العبرة بالمقادير عند اللّه، ولهذا قال الإمام القاسم عليه السلام: إن الملجي لهم إليها تجوز السلامة لمن يخالف من الصحابة وغيرهم فعارضوا آيات الإحباط بآيات الموازنة.
وأما ديمومة الثواب والعقاب بالاتفاق فلا شك، لكنه يحمل كلامهم على تخفيف العقاب وتقليل الثواب وذلك لا ينافي الدوام.(1/38)
وأما مسألة إلزام التسوية بين من عصي اللّه مدة عمره ثم تاب وبين من أطاع اللّه تعالى مدة عمره ثم فعل كبيرة ثم تاب فهذا وارد أيضاً على القائلين بالإحباط ، وجوابهم يصلح جواباً لهم بزيادة انتهاء الحال إلى السلامة في الطرفين معاً، والقول بالتفصيل للإمام المهدي عليه السلام وابن الملاحمي باستحقاق ثواب متجدد أشبه زيادة الكرامة من اللّه تعالى مع ملاحظة العمل السابق ، وكلام المعتزلة في مسألة الموازنة مضطرب، ويلزم عليه إشكالات تصعب، ولهذا فإن المختار عند أئمتنا([67]) عليهم السلام خلافها، وبقاؤها متغلقة زيادة في تقوية المذهب المختار وإن كان لا بأس بالمذاكرة فيها، ولهذا فإن الخلاف بين أبي على وأبي هاشم في كيفية الإحباط الخلاف المشهور.
واعلم أن هذا إنما هو تخريج على قول أهل الموازنة وهو لا يلزم القائلين بالإحباط ، وأن المذهب الصحيح قول أهل الإحباط بصرائح الآيات والأدلة التي لا احتمال فيها ، وأن العبرة بخاتمة العمر من طاعة وتوبة أو معصية كبيرة ، وأن آيات الموازنة من المتشابه الذي يجب رده إلى المحكم والمؤول الذي يجب رده إلى الظاهر ، والأمثال والمجاز شائع في لسان العرب ، وآيات الإحباط صريحة لا احتمال فيها ، ولهذا قال الوصي عليه السلام: (بقية العمر لا قيمة له) .
____________________
([67]) ـ أي القائلين بالإحباط ، لأن كثيراً منهم يقولون بالموازنة كالإمام المهدي عليه السلام كما سبق في أول الجواب ، تمت من مولانا مجتهد العصر/ مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى.(1/39)