وأما قول السائل: إذا نوى العبد الظلم أو غيره من المعاصي، ولم يتمكن لعذر، فهل ذلك معصية يعاقب عليها أم لا؟.
فنقول: الصحيح أنها ليست بمعصية ([52]) يعاقب عليها ما لم يشارك العزم المعزوم فيما يوجب كفراً أو فسقاً، وعليه حديث: (( رفع عن أمتي ما حدثت به أنفسها ..الخ )) وحديث: (( إذا نوى العبد بسيئة فلا تكتبوها)).
واعلم أن ما في القلب منه ما هو من فعل اللّه تعالى كالخاطر، وهذا لا عقاب عليه قطعاً لأنه يستلزم الظلم، واللّه يتعالى عنه.
فإن قلتَ: فكيف حسن قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}؟.
قلتُ: إما أن يراد بما أخفى المعزوم عليه ولا إشكال لأنه اختياري، وإما أن يراد الخاطر، والمعنى المحاسبة عليه من غير معاقبة كالصغائر، وقد أسلفنا([54]) أنه رفع عنهم، ومنه ماهو من فعل العبد كالعزم، وهذا قسمان:
*ما شارك العزم المعزوم فيما هو كفرٌ أو فسقٌ، وهذا لا إشكال أنه قد صار كبيرة كالاستخفاف بالنبي والقرآن، لأنه بعزمه قد دخل في الفعل نفسه .
_______________
([52]) ـ أي قطعاً لأنها محتملة للصغر والكبر وحينئذٍ لا قطع إلا فيما ورد الوعيد عليه بخصوصه كالإلحاد في الحرم وهذا هو الذي صرح به الإمام عليه السلام بقوله فيما يأتي فلا قطع بكبره مطلقاً ويدل عليه تفسيره ونية الفاسق شر من عمله آخر البحث فتدبر والله ولي الهداية والتوفيق. تمت من مولانا وحجة عصرنا مجد الدين بن محمد المؤيدي أيدهم الله تعالى. وفي نسخة أخرى: ترك السائل البدل ولعله لكون البدل وعطف البيان من واد واحد.تمت نقلاً من خط شيخنا /مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى.
([54]) ـ في جواب السؤال الذي قبل هذا في الكلام على قوله تعالى: { إن تبدوا ما في أنفسكم} إلى قوله: {فرفع عنهم}.تمت من مولانا المجتهد / مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى .(1/28)
* وإن لم يشارك العزم المعزوم فهاهنا محط الأنظار:
فذهب بعض المتكلمين إلى أنه معصية كبيرة إذا كان عمداً ، وهو ظاهر كلام القدماء من أئمتنا عليهم السلام، وهو يناسب القول بأن كل عمد كبيرة، وعليه عموم قوله تعالى: {ومن يعص اللّه ورسوله ...الآية} وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا: يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه )) ، وقوله عليه السلام: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )) وغير ذلك ، وحملوا الآية الكريمة {لا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها} أن ترك العزم داخل في الوسع وبقوا حديث (رفع عن أمتي ما حدثت به أنفسها) على حديث النفس الذي لا عزم معه وقالوا(مالم تقل أو تفعل) دال على أن فعل القلب كفعل الجارحة يشملها عموم الفعل.
وذهبت طائفة إلى أن العزم يتبع المعزوم في الصغر والكبر، وهذا يناسب قول الإمام المهدي عليه السلام وبعض المتأخرين أن بعض العمد ليس بكبيرة، وحجتهم قوله تعالى: {إلا اللمم} وقوله تعالى: {إن تجتنبوا...الخ}، وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي ما حدثت به أنفسها)) ويتأول لهم الحديث (( إذا التقي المسلمان..الخ )) وحديث (( لا يزني الزاني..الخ )) بأنه قد فعل بعض المقدمات لأنه قال: التقى المسلمان، وقال: حين يزني.(1/29)
وذهب آخرون إلى أن العزم إن لم يشارك المعزوم فلا قطع بكبره مطلقاً، وقول بعض المتأخرين القائلين: بأن بعض العمد ليس بكبيرة يحتمله وأدلته أدلة الذي قبله إلا أنهم فرقوا بين العزم والفعل. فقالوا: ما ورد الوعيد مع الحد أو لفظ يفيد العظم إلا على الفعل لا على العزم إلا قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب اليم} فلما نص عليه كان خاصاً ، وهذا القول هو الراجح لأن الأدلة محتملة، والمسألة قطعية فيجب التأويل لما خالف الصريح القاطع وهو صريح الحديث (( إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها )) وقوله {إلا اللمم} وقوله تعالى : {إن الحسنات يذهبن السيئات }.
فيقال: ما أذهبت الحسنة هل عمداً، أو خطأً ونسياناً؟.
إن قلتم: خطأً ونسياناً لزمكم أن الفاسق معاقب على الخطأ والنسيان، إذ لا حسنة له لقوله تعالى: {إنما يتقبل اللّه من المتقين} وهذا يخالف عدل اللّه أعني المعاقبة على الخطأ والنسيان، ويلزم منه الظلم وهو محال([62]) عليه تعالى ، وما استلزم المحال فهو محال.
وإن قلتم: أذهبت عمداً فهو مطلوبنا ، وقوله تعالى: {لا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها} يفيده لأن الوسع دون الطاقة، فالطاقة: هي العزم الذي تفضل اللّه بعفوه، والوسع: هو الفعل، وهذا يطابق معنى رفع الإصر {ربنا ولا تحمل علينا إصراً}لأن من قبلنا كلفوه ، مثل التوبة بقتل النفس وهو داخل في الوسع، لكنه رفع عن هذه الأمة ببركاته صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وأما تفسير حديث (( نية المؤمن خير من عمله )) فالمراد بالخيرية: أنه ينوي من أعمال الخير ما لا يبلغه بعمله ولا يقدر عليه، بل قد ينوي الأشياء المتضادة فيؤجر على النية فكانت النية خيراً من العمل، وقوله: (( ونية الفاسق شر من عمله))عكس هذا لأنه ينوي من الشر مالا يقدر على فعله من أنواع المعاصي، فكانت نيته شراً من عمله، فظهر أنه لا يلزم عنه أن تكون النية وحدها كبيرة لأن الحيثية مختلفة.
___________________
([62]) ـ أي في الحكمة لأنه قادر على فعله تعالى لكن لا يفعله لحكمة. تمت من مولانا مجتهد العصر / مجدالدين المؤيدي أيده الله تعالى.(1/30)
(10) السؤال العاشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال :
قد ثبت عند جمهور أئمتنا وغيرهم أن القراءات السبع متواترة، وخالف في ذلك الإمام يحيى والرضي والزمخشري وغيرهم، وثبت من قواعد الأئمة أن من زاد في القرآن أو نقص كفر، فهذا يقتضي تكفير من أثبت القراءة الآحادية أو قرأ بها، والمعلوم خلاف ذلك، بل لم يزل العلماء يستدلون بها وينقلونها، ولم ينقل تكفير أحد ولو كان لنقل، وأيضاً يلزم أن يخطئ من عمل بها إذ المسألة قطعية لا مجال للإجتهاد فيها، ولم يسمع ذلك فما يقال في الخروج عن ورطة ذلك، ثم ما يقال فيما نقله الإمام القاسم وغيره عن الهادي عليه السلام أنها لم تتواتر إلا قراءة نافع، قال محمد بن يحي: وهي قراءة آبائنا، فهذا ينفي تواتر غيرها، إذ القول بتواتر القراءات السبع منّا إنما هو تقليد لمن قال: بالتواتر إذ لم تتواتر لنا نحن فمن أولى بالإتباع؟ هل من قال: بتواتر القراءات السبع أو العشر كما روي، أو القول بتواتر قراءة نافع فقط، ثم التواتر المدعى إنما هو عن القراء السبعة، وأما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فنص الأكثر أنه لم يبلغ حد التواتر، وحينئذ فهل تصح القراءة في الصلاة بغير قراءة نافع على مذهب الهادي وأولاده أم لا يصح كما هو مفهوم من كلامه يبنوا ذلك بياناً شافياً؟.(1/32)
*الجواب العاشر واللّه الموفق:
أن الكلام في مسألة القراءات متوقف على بيان معنى التواتر، وهو نقل عدد عن عدد يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، فلا يلزم من التواتر لشخص التواتر لشخص آخر، كما إذا تواتر لك أن زيداً في الدار، فإنه لا يلزم أن يتواتر لعمرو مثله، ومن هاهنا وقع الاختلاف في القراءات حتى قال بعضهم إن القراءات كلها أحادية وليس المتواتر إلا جوهر القرآن، وعدّ الاختلاف فيها إنما هو اختلاف في الصفة لا في الذات، وعلى ذهني أنه مذهب الإمام زيد بن علي عليه السلام، فعلى هذا كل عالم ينزل القراءات في الصلاة على مذهبه، ومن قلّده يجب أن يعمل بقوله، والقاعدة المذكورة (( أن من زاد في القرآن ما ليس منه كفر)) مشروطة بأنه زاد عمداً مدعياً كونه قرأناً وأدلة الشرطين جلية، أما العمد فقوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به .. الخ }، وأما ادعاء كونه قرأناً فإجماع الأمة، لأنه قد أدمج القرآن بالتفسير والأدعية من دون نكير، بل ورد في الأدعية المأثورة والمرفوعة كذلك، ووردت القراءة الشاذة بذلك، وقالوا: إن الشاذة تحمل على الخبر الأحادي وتأوّلوها بأن الصحابي سمعها تفسيراً فظنها قرأناً، وأما ما روي عن الهادي والقاسم عليهما السلام أنها لم تتواتر إلا قراءة نافع، فهي قراءة أهل المدينة ويحمل على أنه لم يتواتر لهما سواها وقد قررنا أنه لا يلزم من عدم تواترها لهم عدم تواترها لغيرهم، كيف وقد قيل إن الصحابة الذين توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهم في الحرمين الشريفين زهاء مائة الف.(1/33)