فنقول: إذا تقرر أن علم اللّه تعالى ذاته فلا يجوز وصفها بالتناهي، لأن التناهي من صفات الأجسام ، ولأن كل متناه محدود، وكل محدود جسم أوعرض واللّه يتعالى عن ذلك ، فمن هاهنا قيل إن علم اللّه غير متناهٍ بخلاف المعلومات فإنها متناهية([37]) لوجوب الحكم بالمباينة بين ذات القديم وصفاته، وبين ذات المحدث وصفاته ، ومعنى تناهيها إحاطة علم اللّه تعالى بها لأنه يعلم الأمرين وشرطيهما، ويعلم ماكان وما سيكون، ويعلم مالم يكن لوكان كيف كان يكون ، فتبارك اللّه وتعالى وعز سلطانه عظمة وجلالاً.
وهاهنا إشكال وهو أن يُقال من جملة معلوماته تعالى ذاته الشريفة وقد قلتم إنها لا توصف بالتناهي فكيف جعلتم المعلومات متناهية؟.
وجوابه من وجهين :
أحدهما : أن يقال معنى تناهي المعلومات عدم غيبوبة شيء منها عن علمه ولا يلزم من هذا تناهي ذاته تعالى.
وثانيهما : أن يقال معنى قولنا: إن المعلومات متناهية منصرف إلى المحدثات فلا تدخل ذاته تعالى في لفظ الجمع ، وأمّا باقي المعلومات فيجب أن يكون اللّه تعالى بخلافها وهو معنى المباينة بين القديم والمحدث التي هي حقيقة التوحيد، كما قال الوصي عليه السلام: (باينهم بصفته رباً كما باينوه بحدوثهم خلقاً).
________________
([37]) ـ أي المعلومات الموجودة إذ لا يمكن أن يدخل في حيز الإيجاد إلاّ ما يتناهى ، أو أن المراد بإعتبار كل معلوم على إنفراده وإلا فمعلومات اللّه تعالى غير متناهية، ومن ذلك نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار نعوذ باللّه منها، وأما قول الإمام عليه السلام ومعنى تناهيها فهو أحد المعاني للتناهي وليس ذلك مما يحصل الفرق به بين القديم والمحدث، لئن ذات اللّه سبحانه كذلك أي هو عالم بها، ويدل على أن مراد الإمام عليه السلام أي أن إحاطة العلم أحد معاني التناهي، لا أنه لا معنى له غيره قوله عليه السلام، وثانيهما أن يقال معنى قولنا: إن المعلومات متناهية منصرف إلى المحدثات فلا تدخل ذاته تعالى في لفظ الجمع.. الخ فحاصل كلام الإمام أن التناهي، إ ما أن يراد به إحاطة العلم وهو يستوي فيه القديم والمحدث، وإما أنه الانحصار والانتهاء والانقطاع، وليس إلا للمحدثات، ولكن يحمل ذلك كما ذكر على أن المراد الموجود وإلا فلا انحصار ولا نهاية لمعلومات اللّه تعالى فتدبر واللّه ولي التوفيق تمت من مولانا مجتهد العصر/مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده اللّه تعالى.(1/22)
(8) السؤال الثامن (قال أيده اللّه تعالى) سؤال:
عن الوسوسة في القلب كيف يتصوّر ذلك، والحوّاس من السمع والبصر والشم والذوق واللمس لا تدرك الشيطان ولا فعله، فتؤدي ذلك إلى القلب كما في نظائرة؟.
*الجواب الثامن:
أن وسوسة الشيطان قد قضت بها الأدلة المتضافرة، ومع العلم بأن موردها ليس بإحدى الحواس يجب الحكم بثبوتها بأمر قد مكّن اللّه الشيطان منه وإن لم نعلم كيفيته: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ويظهر الأثر بالوجدان وأوله الخاطر النفسي ، ثم الداعي، ثم العزم ، ثم الفعل، وهذه الأشياء منها ما هو من فعل اللّه، ومنها ما هو من فعل العبد، ومنها ما هو مشترك بين العبد والشيطان.
فالأول : وهو الخاطر النفسي الذي لا يمكن دفعه من فعل اللّه وهو الذي ضج منه المسلمون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فقال لهم: (( لا تقولوا كما قالت اليهود سمعنا وعصينا، فقالوا: سمعنا وأطعنا )) فرفع([40]) عنهم ، ونزل قوله تعالى: {آمن الرسول.. } إلى آخر الآية وما بعدها {لا يكلف اللّه نفساً إلاّ وسعها..إلى آخر الآية} وهو سر قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تفعل )).
________________
([40]) ـ أي حصل البيان بأنه مرفوع لا أنهم كلفوه ثم رفع لأنه تكليف مالا يطاق واللّه يتعالى عنه وسيأتي للإمام عليه السلام كلام في جواب السؤال عقيب هذا. تمت من مولانا مجتهد العصر / مجدالدين بن محمد المؤيدي حفظه اللّه وأبقاه.(1/23)
والثاني: وهو الداعي المشترك بين الإنسان والشيطان، وهو محل مدخل الشيطان لأنه يأتي من قبيل الشهوة، والحمية، والهوى، وما تميل النفس إليه، فلا يتم له المرام إلا بالتفات العبد وملاحظته للدواعي والمحسنات لفعل القبيح، وإغماضه عن الحدود الشرعية، ومن هاهنا كان كيد الشيطان ضعيفاً، ولولا معاونة فعل العبد ما تم له مرام، ولهذا فإن وسوسته لا تضر المخلص، كما قال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} وقوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وقوله تعالى: {إلاّ عبادك منهم المخلصين}.
والثالث والرابع: من فعل العبد وهما: العزم، والفعل، وذلك ظاهر، فكأن الشيطان لعنه اللّه يفهم ملاحظة العبد لمحل الداعي، كما يفهم الرضى والغضب في الوجه، فيعمل وسوسته لتقويته بأمر قد مكنه اللّه تعالى منه من غير اتصال، بل كما يدرك حر النار المنفصلة في الموضع المجروح.
وما روي (( أن الشيطان يجري من ابن آدم مجاري الدم )) قد حمله قوم على حقيقته ، لكون ابن آدم ذا مخاريق وأجواف، وهو جسم لطيف الطف من الريح، لأنها تدرك باللمس بخلافه، والصحيح أن لفظ الحديث من مجاز الحذف والمعنى وسواس الشيطان، والقرينةالعقل والعدل.
أما العقل فلعدم الإدراك بأي حاسة، وأما العدل فاللّه أعدل من أن يمكنه الدخول إلى جوف ابن آدم مع كون طبعه الإفساد واللّه أعلم.(1/25)
(9) السؤال التاسع (قال أيده اللّه تعالى) سؤال:
هل تطلع الملائكة الكتبة على أعمال القلوب كما هو ظاهر قوله تعالى: {ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ....الخ} وقوله: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} {وكل شيء أحصيناه كتاباً} وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ربه قال: ((إن اللّه تعالى كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك ، فمن همّ بحسنة ولم يعملها كتبها اللّه عنده حسنة كاملة )) وفي رواية أخرى حكاية عن اللّه تعالى: ((إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه سيئة، وإن عملها فاكتبوها عليه سيئة، وإن همّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة....الحديث )) أم لا تطلع ؟كما هو ظاهر قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إن الرجل ليقوم في الليلة القرة فيتطهر فيحسن الطهور، ثم يدخل بيته فيرسل ستره فيصلي فتصعد الملائكة بعمله فيرد عليهم فيقولون: ربنا إنك تعلم أنّا لم نرفع إلا حقاً. فيقول: صدقتم ولكنه صلى وهو يحب أن يعلم به )) ، وكذلك حديث السبعة الأملاك المشهور برواية أهل البيت مصرح فيه بعدم إطلاع الملائكة على بعض من عمل القلب ، إن قلتم بالأول فما وجه الحديث الثاني ، وإن قلتم بالثاني فما وجه الحديثين والآيات، ثم إذا نوى العبد الظلم والعناد وغيرهما من المعاصي ولم يتمكن من ذلك لعذر هل هي معصية معاقب عليها كما يدل عليه ((ونية الفاسق شر من عمله))،و((إنما الأعمال بالنيات))، أم لا عقاب في ذلك كما هو ظاهر الحديث المتقدم (( وإذا هم عبدي بسيئة .. الخ )) فلا
يعاقب إلا على الفعل بيِّنوا ذلك بياناً شافياً؟.(1/26)
*الجواب التاسع:
أن اطلاع الحفظة على أعمال القلوب وعدمها قد تعارضت الأدلة فيه باعتبار الظاهر، ولكن الجمع بينها ممكن، إما أن يقال أن الحفظة لا تطلع إلا على العمل الظاهر دون ما في القلب كما قضت به بعض الأدلة التي ذكرها السائل وغيرها، ولا يمتنع أن يكون لله تعالى ملائكة موكلون بقلب ابن آدم يعلمون ما يوسوس به ، فيحمل حديث (السبعة الأملاك)، وحديث (( إن الرجل ليقوم في الليلة القرة)) ونحوهما على خطاب الكتبة، ويحمل حديث: (( وإذا هم بحسنة فلم يعملها...الخ)) وما أتى على منوالها على خطاب الرقباء على القلب، وإما أن يقال إن عمل القلب استأثر اللّه تعالى بعلمه، وهو الظاهر الذي يشعر به قوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} وقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} لأنه تعالى تمدح بهذه الصفات، فينبغي أن يختص بها، وحينئذ يحمل قوله تعالى: (( وإن هم بحسنة فاكتبوها حسنة )) وما ضاهاه يعني يكون كتبها بوحي من اللّه تعالى إليهم لما في ثبوت الكتب من المصالح التي علمها اللّه تعالى، وإن كان غنياً عن كتب الظاهر والباطن، وبأخذ هذين التأويلين يندفع إشكال التعارض على أنه قد جاء في تفسير قوله تعالى: {وكل شئ أحصيناه في إمام مبين} أن المراد بالإمام اللوح المحفوظ على الخلاف في معناه، وكذلك قوله تعالى: {وكل شئ أحصيناه كتاباً} قيل اللوح، وقيل كتاب الحفظة.(1/27)