فإن قلت: فهل يجوز للولد المدافعة بالإضرار بهما إذا لم يمكن اللين عند تهافتهما على أخذ ماله كما يجوز ذلك مع غيرهما؟.
قلت: الذي يلوح لي واللّه أعلم لعظم حقهما، ووجوب برهما، أنه إن لم يكن ما فعلاه منكراً ولا ضرر فيه على الولد ، عدم جواز الإضرار لأن الحق له خاصة في مثل ذلك ، وإسقاط حقه لوالده من كمال البر، ولهذا ذكروا أن الأب لا يحبس لولده ، ولا يقاد به ، وإن كان ما فيه منكر، أو ضرر جاز النهي على بابه، لكن يبالغ في اللين ومحض النصح وذلك لأن الحق فيما هو منكر لله تعالى، ولأن الضرار ممنوع لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( لا ضر ولا ضرار في الإسلام )) ، مع كون الضرار نوعاً من المنكر، ولعموم أدلة النهي عن المنكر فهذا ما سنح من الجمع بين الأدلة.(1/11)


(5) السؤال الخامس:
(قال عافاه اللّه تعالى) سؤال:إذا قلتم إن الإمامة قطعيه، وأن المطلوب فيها اليقين فإذا ادعى رجل الإمامة فلا شك أن فرض العالم الاختبار، أو التواتر حسبما قرر، وفرض العاميّ ماذا يكون؟ فمقتضى كلام بعض الأئمة أن فرضه السؤال للعالم وهو لا يفيد إلا الظن ، ولاشك أنه يُقْدم على أمرٍ قطعي من قتل وغير ذلك، وعند بعضهم أنه لابد من الاختبار فذلك تكليف بما لا يطاق ، أو يجلس طول الزمان يتعلم ثم يختبر، والمعلوم خلاف ذلك من أتباع الأئمة وأنهم يتبعهم العوام من غير اختبار بل وأكثرهم من غير سؤال، فهل يجب على الإمام الإنكار على من تابعه ، ثم هل يجب على العوّام البحث عن من أُمِروا بقتله ما السبب الموجب لذلك كالكفر مثلاً والفسق، فحينئذ هم مقلدون فيهما وهو لا يجوز التقليد فيهما، أو لا يجب البحث عليهم بل يقتلون وهم لا يعلمون لماذا، فهم مقدمون على ما لا يؤمن خطؤه ، ثم إذا عرف الإمام أن قتال من قاتل معه البغاة إنما هو لأغراض دنيوية أو سوابق جاهلية وعرف ذلك منهم وأنهم لم يقاتلوا لتكون كلمة اللّه هي العليا، فهل يجوز تمكينهم من القتل والاستنصار بهم على ذلك أم لا يجوز؟.(1/12)


*الجواب الخامس:
أن مسألة الإمامة ، قد وقع الخلاف فيها هل قطعية، أو ظنية، والصحيح أنها قطعيه لأنها أصل من أمهات مسائل الأصول ، ولهذا فزع الصحابة بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى نصب إمام وإن اختلفوا في المحل فلم يسمع من أحد القول بأن لا حاجة لإمام ، فجرى مجرى الإجماع بل أيد الشرع دليل العقل:
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم * ولا سراة إذا جُهَّالهم سادوا([24])
والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة مبسوطة في مواضعها وليست بمحل السؤال ، ولا يمنع قطعيتها كونُ بعض شروطها ظنياً كالكرم والتدبير ، إذ لا طريق إليهما إلا الظن ، وإلا لزم الدور لأن التدبير مثلاً متوقف على الإمامة والإمامة متوقفة عليه ، ولها نظائر في القطعيات مثل الصلاة والصوم، فإنها قطعية وإن كان بعض شروطها ظنياً كالقبلة والوقت وبعض الطهارة ونحو ذلك، وفرض العالم ما ذكره السائل من الاختبار أو التواتر، وفرض الجاهل سؤال العلماء المحقين والاقتداء بهم ، وإن كان لا يفيد إلا الظن لأنهم قد نزلوا العالم في حق الجاهل بمنزلة الدليل في حق العالم، فيجب على الجاهل في هذه المسألة الترجيح بين أدلته التي هي العلماء إذا تعارضت كما يرجح العالم بين الأدلة الشرعية ، فيتحرى اتباع أهل العلم الراسخ والورع الكامل والخبرة التامة البعيدين عن الأغراض والأهواء والميل إلى الدنيا التي حبّها رأس كل خطيئة، فمهما فعل ذلك فذمته بريئة ، وقد فعل ما وجب عليه ولو بايع أو جاهد أو قُتِل أو
________________
([24]) ـ السراة: بالفتح جمع سري ، وأما بالضم فهو جمع سارٍ كغزاة جمع غازٍ ورماة جمع رامٍ كما هو معروف في موضعه تمت نقلاً من خط شيخنا الحافظ/ مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى.(1/13)


قَتَل، وهذا الذي قضت به الأدلة القطعية ، بل يمكن دعوى الإجماع عليه لأنه لم يروَ عن أحد من الأئمة أنه أنكر على من تابعه وجاهد معه من العوام مع علمهم بأنهم لم يبلغوا درجة النظر والاجتهاد ، بل لا زال دعاؤهم إياهم متواتراً ويلزمون البيعة والجهاد كرهاً، ولأنه لو كلف الجاهل العلم مع كون الأمور فورية لكان من تكليف ما لا يطاق ، ولما جاز للإمام أن يجبر على الواجبات التي أمرها إليه ، بل لا يقبلها لجواز كون فاعلها غير عاثر على اليقين في حقه، فكيف وقد قال أبو بكر بمحضر من الصحابة واللّه لو منعوني عقالاً، أو قال: عناقاً مما كانوا يؤدونه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه، وجرى مجرى الإجماع في الحكم ، لا في إمامته ، بل العبرة بمذهب الإمام عند نفسه، فإذا علم صحة ولايته ، جاز له الإجبار كالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فإنه قال: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه )) ، فلو كان لا يجوز له قتالهم حتى يعلموا بنبوئته لما قال هذا، ولقال: حتى يعلموا أني مرسل ، ولما ورد من الكتاب والسنة من الأدلة المفيدة للعلم على وجوب اتباع أهل البيت والكون معهم عموماً وخصوصاً مع الأئمة المحقين منهم مثل (( خبري السفينة )) و ((إني تارك فيكم )) و ((تمسكوا بطاعة أئمتكم))،وقوله تعالى{أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وعلى الرجوع إلى العلماء من قوله تعالى : {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وقوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } وقوله تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} وغير ذلك كثير ، فتقرر بذلك أن ليس للجاهل طريق إلى هذه المسألة إلا العلماء ، وهذا كله فيما يرجع إلى متابعة الجاهل ومبايعته وجهاده وتسليم حقوقه ونصيحته لإمامه ، وغير ذلك من العمليات.(1/14)


وأمّا مسائل الاعتقاد كالتفسيق وما ترتب عليه فلا يبعد وجوب التوقف عليه عند التعارض بين صالحين لأن العالم يعمل بعلم قطعي ، والجاهل يعمل بعلم ظني ، والمسألة قطعية بخلاف القتل والجهاد ونحوه ، فيجوز لأنه وإن كان تحريم الدماء قطعياً فقد أبيح بالدليل الظني مثل حكم الحاكم بالقود بقيام الشهادة ولا تفيد إلا ظناً، وكذلك الحدود تثبت بالبينة ولا تفيد إلا ظناً، حتى نصوا على إقامة حد الشرب بالشم ، ونصوا على جواز قتل من لا يؤمن ضرره على المسلمين ، وتلك الخشية لا تفيد إلا الظن لتعذر العلْم في الأمور المستقبلة ، ولما ثبت من أنها كانت تترتب الحروب في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن بعده من الأئمة برجوع جواباتهم ، أو رسلهم بالمخالفة ، وذلك لا يفيد إلا ظناً، فصارت أدلة جواز القتل بالطريق الشرعية الظنية في تلك الجزئيات كالمخصصة لأدلة عموم تحريم الدماء والأموال، وقد ثبت في الأصول أنه يصح تخصيص القطعي العملي بالظني، ومنه تخصيص الكتاب بالسنة [أي الأحادية]، لأنه نوع من الجمع بين الأدلة المقدم على الترجيح وطرح أحد الدليلين ، ومن هنا نصوا أنه يجوز امتثال أمر الحاكم بالحدود والقصاص، ويجب بأمر الإمام من غير أن يبحث الممتثل عن المستند ما لم يكن المأمور به ظاهراً يخالف ما يعلمه الممتثل في الباطن .
وما ذكره السائل من أنه يقدم على ما لا يؤمن خطاؤه لا يلزم بعد وجود المستند الشرعي ، ولهذا نصوا أن خطأ الحاكم في بيت المال ولم يبطلوا ولايته إلاّ إذا تعمد ، وكما وَدَى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الذين قتلهم خالد بن الوليد ولم يعزله عن الإمارة .
وما ذكره السائل من قوله هل يجوز للإمام التمكين من الجهاد ونحوه لمن يعلم أنه لا يعمل إلا لغرض دنيوي، فنقول: نعم يجوز، لأن نفس الجهاد وإقامة الحدود والقصاص أمر شرعي يجب إقامته والدعاء إليه، والممتثل إنما خالف مقصد الشارع بمجرد النية ، وأما العمل فلا مخالفة فيه ، فحينئذ بطل الثواب على العامل فيما يرجع إلى نفسه، وأما مقصد الشارع من الفعل فقد تم، ولهذا نصوا على جواز إقامة فاسق على معين، وعلى جواز الاستعانة بالكفار والفسّاق، بل استعان بالكفار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مع العلم بأنه لا نية لهم مطابقة ، ونص الشارع على جواز التأليف لجلب منفعة، أو دفع مفسدة ، مع العلم بأن الفاعل لم يعمل لله تعالى خالصاً بل لأجل العوض.(1/16)

3 / 21
ع
En
A+
A-