ويستفاد منه أيضا نكتة وهو أن مجرد الإلتفات غير مؤثر في وقوع العذاب وعدمه عليها، وإنما المؤثر سوء سريرتها ويكون معنى الرواية أنها سمعت العذاب فالتفتت ....الخ([125]) أي سمعت مقدماته، أو سمعت ضجة من لوط عليه السلام فالتفتت فرجعت فأصابتها حجر وحنيئذ تصير الروايتان والقراءتان في معنى واحد، وهذا لم أقف فيه على نص لكنه مناسب.
ولا مانع من إحداث تأويل ثالث كما نص عليه أئمة الأصول لا سيما في مثل هذا الذي هو غير رافع للتأويلين وتخريج لكلام الحكيم على وجه الصحة.
__________________
([125]) ـ الحمد لله وحده ، قف وتدبر هذا الكلام الشريف ، وانظر إلى التوجيه الوجيه في الآيات المتتاليات ، واجل الطرف في تخريج آية الإسراء، والتفسير المنير للآية الأخرى وهي قول الله عز وجل {لا تتخذوا إلهين اثنين} هذا إذا كنت ذا نظر ثاقب وفكر صائب.
وإلاّ فمن يك ذا فم مريض .... يجد مراً به الماء الزلالا
وإن شئت قابلت بين كلام الإمام عليه السلام وبين كلام صاحب الكشاف وغيره في قوله تعالى{فأسر بأهلك بقطع من الليل} وبين كلام الإمام في قوله تعالى {إلهين اثنين}وكلام الرضي والزمخشري يظهر لك البيان والإيضاح في كلام الإمام ، فإن الفارق أجلى من ابن جلا ، لا يخفى إلا على أبله لا يعرف القمر،أو عاذراً لا تراه مقلة عمياء، ألا ترى كيف أطال بعضهم الثناء على الزمخشري في توجيه إلاهين ،فهاك انظر عبارة الإمام كيف حسرت عن ذلك المعنى اللثام ، وما بينها وبين تلك من التفاوت في الجزالة وإيضاح المقام،وقد أبرز الإمام صلوات الله عليه في هذه الأبحاث الشريفة والأنظار المنيفة ما بهر الألباب وحيّر الأفهام ، وكم من غوامض وعويصات قد طال فيها النزاع في بطون المؤلفات صيرها مشرقة البيان ساطعة البرهان ، ولا غرو فإنها نابعة من عباب العلوم ، ولباب المنطوق والمفهوم الذي اغترفت من افاضته علماء الأمة،وارتشفت من فضالته أعلام الأئمة،وماذا أقول في كلام الإمام القائم بحجة الله على الأنام ،والمجدد لدين الله اذا أشرفت على الإنهدام،وكذلك أهل بيت النبوة لم يزل الله تعالى يقيم للأمة في كل قرن من يكشف عنهم الغمة،ويجلو غياهب الظلمة،إن لله عند كل بدعة يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي …الخ، فماذا يقال في كلام عليه مسحةٌ من العلم الرباني،وجذوةٌ من الكلام النبوي، صلوات الله على صاحبه وعلى آله المطهرين من ذريته وأقاربه.تمت من سماحة مولانا العلامة مجتهد العصر / مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى ونفع بعلومه.(1/78)
وأما قوله تعالى: { والراسخون في العلم يقولون آمنا به} فالمختار عند أئمتنا عليهم السلام واختاره الزمخشري: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله وهو على قراءة الوقف عليه، وقد أشار إلى المعنى الثاني وهو الوقف على الجلالة ثم الإبتداء وجعله مرجوحاً رجوعاً إلى قاعدة العدل والحكمة في أن اللّه لا يخاطب المكلفين بما لا يفهمون ، وكون قوله تعالى: {هن أم الكتاب} يعني يرد المتشابه إليها ، ومعنى الرد هو تأويلها بما يطابق معنى المحكم ومع صحة تأويلها، فحينئذ قد علموه .
وبقي الكلام فيما السؤال عنه وهو المعنى الذي يوافق قراءتي الوقفين معاً ، قد سمعنا عن بعض مشائخنا كلاماً فيه توفيق المعنيين بالقراءتين وهو أن الوقف على الجلالة لا يستلزم عدم الإرتباط بما بعدها وإرادة الفرق بين علم اللّه وعلم الراسخين في العلم لأن الأوقاف راجعة إلى التلاوة وهي سماعية حتي أنها تفصل برؤوس الآي والإرتباط حاصل كما في قوله تعالى:{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع..... الخ}، فإنه مرفوع على أنه فاعل لما قبل الفاصلة ، وهاهنا يكون من باب العطف ، وجملة قوله تعالى:{يقولون آمنا به} حالية على هذا الوجه.
وفائدة الوقف الفرق بين العلمين ، ويؤيد هذا كون الوقفين متواترين توقيفين في الجملة، فيجوز القراءة بهما معاً، ولا تنافي.
ووجه آخر وهو أن المعنى وما يعلم تأويله إلا اللّه أي تمام الحكمة في إنزاله والتكليف به، لأنه من تمام التأويل والراسخون في العلم يعلمون تأويله برده إلى المحكم وتأويله لما يطابقه ، فكأنه قال: وما يعلم تمام الحكمة في إنزاله إلا اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا به ويردونه إلى المحكم كما أمروا.
(1/79)
وللإمام يحي عليه السلام كلام بسيط متين في معنى الآية حكاه في مشكاة الأنوار يحصل منه أن معنىالآية أنزل عليك الكتاب فيه محكم ومتشابه، فأما الزائغ فيتعلق بالمتشابه ويبتغي تأويله، وأما الراسخون فيؤمنون به على ظاهره([129]) ويصدقون بأن الجميع حق وصدق، ويكون قوله: {وما يعلم تأويله إلا اللّه} جملة معترضة بين الكلامين هذا محصله من كلام طويل ، وهو وجه وجيه مناسب للمعاني العربية.
وأما قوله تعالى: {وقال اللّه لا تتخذوا إلهين اثنين }، فلا يصلح إلا للتأكيد لا غيره لتضمنه([131]) معنى اللفظ الأول مع زيادة، وهذا وإن كانت القاعدة العربية أنهم([132]) لا يجمعون بين العدد والمعدود إلا من الثلاثة فصاعداً لعدم النصوصية في الجمع على المرتبة المرادة وإفادة الجمع إياها بخلافه في المفرد والمثنى فالمرتبة مستفادة من العدد لكنه يراد بالإفراد والتثنية الدلالة على شيئين الجنسية والمرتبة، فإذا قلت: (إنما هو رجل) تردد بين المعنيين الجنس والوحدة، فإن كان الملحوظ إليه هي الوحدة أحتيج إلى تأكيده بقولك: (واحد) ليرفع إيهام إنما هو رجل لا امرأة، وهاهنا كذلك المعنى المساق له الكلام هو إثبات الوحدانية فاحتيج إلى التأكيد بإثنين لأنه في سياق نفي، ومثله في الإثبات إنما هو إله واحد سواء هذا معنى ما ذكروه.
__________________
([129]) ـ أي على ظاهر ما يراد من الإيمان بأنه حق من عند اللّه تعالى. تمت سماعاً عن شيخنا الحجة/ مجدالدين المؤيدي أبقاه اللّه تعالى.
([131]) ـ تضمنه مصدر مضاف إلى مفعوله ، والمعنى أنه قد تضمنه اللفظ الأول وزيادة. انتهى نقلاً عن خط شيخنا الحافظ مجتهد العصر/ مجدالدين المؤيدي أبقاه اللّه تعالى.
([132]) ـ كأن الإمام عليه السلام قال :بل هو تأكيد وإن كان لا يصلح للتأكيد ولا غيره في ظاهر قاعدة العرب لأنهم لا يجمعون بين العدد والمعدود.. الخ لكنه يراد بالإفراد..الخ ، وفي كلام الرضى أنه من الوصف التأكيدي وكلام الزمخشري يحتمل أن يكون وصفاً للتأكيد أو يكون تأكيداً محضاً ، وأما كلام الإمام عليه السلام فظاهره أنه توكيد محض ، ولكن يمكن أن يكون عند الإمام من الوصف التأكيدي لأن القصر في قوله: فلا يصلح إلا للتأكيد لا غيره قصر قلب لا حقيقي، لأن المخاطب وهو السائل في حكم المنكر أن يكون للتأكيد ، فصلوات اللّه على هذا الإمام فلو أنه كان في حال الجوابات على هذه السؤالات مكبٌ على النظر في البسائط من المؤلفات لكان إيراد مثل هذا التحقيق الذي تقصر عنه أرباب الإمعان والتدقيق غاية الغايات ونهاية النهايات ، فكيف وهو في حال تذهل فيها الأحلام ، وتزل راسخات الأقدام من مقاسات الجهاد ومعانات السداد حياطة للدين الحنيف من أهل الزيغ والتحريف . تمت من مولانا و شيخنا المجتهد / مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده اللّه تعالى .(1/80)
(19) السؤال التاسع عشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال:
قوله تعالى: {ارأيتك هذا الذي كرمت علي.. الخ} ما إعرابها؟ وهل هي من رؤية القلب أم البصر؟ وما محل الكاف؟ وهل هي كالكاف الداخلة على الفعل تتصرف بإعتبار المخاطب أم لا؟ وهل التاء لا تتغيرعن الفتح؟ وكيف أصلها قبل دخول الهمزة؟ وهل معناه بعد دخول الهمزة عند وجود الكاف كهذه الآية؟ وعدم الكاف نحو {ارأيت الذي يكذب بالدين} واحد أم مختلف؟ فبينوا ذلك وأوضحوها .
وقوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً} هل المراد بكل أولئك الثلاثة المتقدمة - فهو مشكل - أو غيرها ؟ ولِمَ أفرد الضمير في (عنه)؟ وبينو إعرابها وضمائرها.
(1/81)
*الجواب التاسع عشر:
عن قوله تعالى :{أرأيتك هذا الذي كرمت علي} أما إعرابها فالهمزة للإستفهام الإنكاري. و(رأيت) من أفعال القلوب لا من رؤية البصر فاعله تاء المخاطب، والكاف ([135]) ضمير آخر للمخاطب يؤتى به في لغتهم للتوكيد في الخطاب فلا محل له من الإعراب، ويثنى ويجمع كما في قوله تعالى: {قل أرأيتكم} ، و(هذا) مفعول به ، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي أي فضلته لم كرمته وأنا خير منه، فاختصر الكلام ولا فرق بينه وبين المجرد عن الكاف إلا بالتأكيد وعدمه، وأما التاء فلعلها لا تتصرف إلا مع عدم الضمير الثاني، ولعل المفعول الثاني سد مسد الاستفهام المقدر أعني قوله: (لم فضلته عليّ) وقد يحكم بحذفه للعلم به كما في قوله تعالى: { أرأيت الذي ينهى}، ونحوه ، ويظهر لي أن قوة الإنكار بالتأكيد مشعرة باستعظام المستفهم عنه المستنكر عند المتكلم منبىء عن الداء الدخيل وهو الكبر المنطوي عليه ، وهذه نكتة تناسب ما قالوه من تأكيد الحكم عند الإنكار لكن هناك هو في إنكار المخاطب، وهنا في إنكار المتكلم، ويمكن حمله على إنكار المخاطب المفهوم عند المتكلم، ويستفاد منه نكتة أخري وهي إرادة العناد وفعله الذي هو حقيقة التكبر لمصير المعنى كأنه قال: هذا الذي
أمرت به، وصارعندك المصلحة فيه عندي خلافه ، وهو أحد الأوجه التي عدوها في كفر إبليس لعنه اللّه، لأنه لم يكن منه في الظاهر إلا ترك واجب مع تنبيه النص على أنه استكبر وتكبر وهو مفتقر إلى الفعل فذلك قوله هذا المنبئ عن خبث طويته لعنه اللّه، واللّه أعلم.
_________________
([135]) ـ الحمد لله وصلى الله على رسوله وآله وسلم ، تأمل كلام الإمام صلوات الله تعالى عليه إنْ كان لك إلمام بهذا المقام الذي طال فيه الخطاب وتصاكّت عنده الركاب ، وانظر إلى أطراف الخلاف في مغني ابن هشام وحواشيه ، وشرح نجم الدين الرضي، وإلى بيان الإمام لما يختاره بأجلى بيان وأبهى برهان في هذه العبارة التي حصّلت ما لم تحصله مفترقات العبارات في تلك الأمهات ، وأدمجت هذه النكات التي أغار غورها وأنار نورها وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم.تمت نقلاً من خط السيد العلامة المجتهد/مجد الدين المؤيدي رضي الله عنه.(1/82)