وقلتم : إذا اختلط أهل قرية الموالي بالمعادي ولم يمكن الهجرة فهل يجوز حصارهم .. الخ؟ .
نقول: العبرة بالشوكة بالنسبة إلى جواز الحصار ونحوه، وبها اختلفت أحكام الدور، ولهذا قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعمّه العباس: (( ظاهرك علينا )) وإن كان لا يجوز قصد الصالح كما قلنا في مسئلة الصبيان ونحوهم، وأما قوله تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ..الخ} فإنما أبان في الآية الكريمة عن الحكمة في الأذن له صلى اللّه عليه وآله وسلم بصلح الحديبية مع كون الصلح في الحديبية أصلح من الحرب، بل كان فيه تقوية الإسلام، فإذا عرف الإمام الأصلحية فيه وجب.
وقلتم: إذا علم الإمام أن جنده يطمعون .. الخ؟.
نقول: وهذه راجعة إلى مسئلة الحصار، ويقال: إن كان قبل المواذنة بالحرب فلا يجوز نهب البريء، فإن وقع غلطاً وجب التدارك بالرد ونحوه، وأما بعد المؤاذنة فللإمام إلزامهم بأخذ من وجد لأنه عاص لمخالفة أمر الإمام، والمؤاذنة تفيد المنع إلاّ لمن يطلب الشر، فيجوز أخذ ماله عقوبة له على السكون بعد المنع، وإن كان الأولى في غير المخالف رَد ماله.
وقلتم: ثم إذا قال أناس من العوام المقلدين إلى قوله..... فأعرضوا وحاربهم، فما حال من فعل هذا؟.(1/62)
نقول: قد تقدمت إشارة إلى جواب هذا، وأن العالم يعمل بعلمه، ومهما عمل به فذمته بريئة في الدفع والقصد، والجاهل يتبع من ترجح عنده من العلماء أهل الورع والعلم والعمل، فإن استووا توقف، وفريضة الإمام غير فريضة هذين،فإنه إذا عرف من نفسه الكمال التّام جاز له الإكراه والإجبار بل والحرب، لكن إحدى الفئتين مخطئة في نفس الأمر لأن القطعيات لاتتعارض، ولهذا جعل اللّه إحدىالفئتين باغية لقوله تعالى: { فقاتلوا التي تبغي} فيجب إمعان النظر لتحري الحق، ولو حكَّم الكل الكتاب والسنة لاهتدوا إلى واضح المحجة وبانت الشبهة من الحجة، واللّه أعلم.
(14) السؤال الرابع عشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال :
قد تقرر أن من أعظم المخصصات مفهوم الحصر بالنفي والإستثناء ومفهوم إنما، فما الراجح لديكم، هل المنطوق المنفي والمفهوم المثبت أو العكس؟، فقد اضطربت العبارات بين أهل البيان وأهل الأصول ففي لاإله إلا اللّه ما المنطوق وماالمفهوم؟ بينوه بالدليل، وهل هي على سواء هذه الالفاظ أم هي مختلفة في تعيين المفهوم والمنطوق؟ وكذلك أطبق الناس في أكثر عباراتهم على تقدير موجود في لا إله إلا اللّه فلم ينتفِ إلا الوجود لا الإمكان مع أن كلمة الشهادة قاطعة لعرق الشركة إمكاناً ووجوداً، فكيف الأمر الذي لا إشكال معه؟.(1/63)
*الجواب الرابع عشر:
أنه لا شك أنها قد اضطربت العبارات واختلفت المذاهب فيها بين الأصوليين والأنظار عند البيانيين، وقد حكى ابن الإمام عليه السلام الأقوال في الغاية وشرحها مع الإتفاق أن مفهوم الحصر والقصر بالنفي والإستثناء من باب الدلالة اللفظية، وإنما اختلفت الأنظار هل لفظية وضعية أو لفظية عقلية وهل بالمفهوم أوبالمنطوق ، والراجح فيما ذكرتم في قول الموحد لا إله إلا اللّه أن المثبت والمنفي كلاهما من قبيل المنطوق، وهذا هو الذي جنح إليه ابن الحاجب وغيره من علماء الأصول وحكى الحسين بن القاسم عليه السلام إطباق علماء البيان عليه وإن كان المصرح عند بعض أهل الأصول أن المنطوق هو المنفي والمفهوم هو المثبت واختاره ابن الإمام، وبعضهم فصل بما إذا ذكر المستثنى منه، وقال بعضهم: الإثبات مسكوت عنه وهو ساقط، والدليل على أن ما ذكرناه هو الراجح الفهم من أهل اللغة بأنهم لا يريدون بمثل ذلك النفي والإثبات إلا النصوصية على الطرفين معاً ،فقول القائل: (ما جاء إلا زيد) ، لا شك أنه أراد النصوصية على مجيئه، و[على] نفي من عداه وليس المراد النصوصية على نفي مجيء القوم والسكوت عن زيد ولا العكس ولا إثبات أي الطرفين مفهوماً بل نصاً، وكيف يقال في لا إله إلا اللّه أن دلالتها على إثبات الإلهية لله تعالى بالمفهوم وخطابات الشارع واردة على هذا المنوال، فمثل قوله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا اللّه} يفيد النصوصية على وجوب الطرفين أعني وجوب معرفة الصانع ووجوب نفي الثاني، وهذا وإن قال القائل: إن المفهوم يحصل به من الإفادة كما يحصل بالمنطوق إذ الكل من قبيل الدلالة اللفظية، لكنّا نقول: لاسواء في النصوصية بينهما لما نصوا من أنه إذا تعارض المنطوق والمفهوم رجح المنطوق ما ذاك إلا لقوته.(1/64)
ثم إن حقيقة المنطوق: هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق، والمفهوم: مادل عليه اللفظ في غير محل النطق([97]) ، وهاهنا قد دل اللفظ على الطرفين في محل النطق ولا يقدح كون المستثنى منه لم يذكر([98]) لأن المقدر في العربية كالمنطوق به ولهذا عدو نعم كلاماً في جواب من قال: هل قام زيد؟، ولا يقال: إنه يلزم حينئذٍ خلو الجملة عن المفهوم لأنّا نقول وإن لزم، إذ ليس من لازم الجملة المفهوم وإن كان المفهوم الإصطلاحي من لازمه الكلام.
إذا تقرر هذا فحينئذٍ لا فرق بين تقدم النفي أو الإثبات ، فقول الموحد: اللّه لا إله غيره مثل قوله: لا إله إلا اللّه.
وأما ما ذكره السائل من تقدير بعض النحاة موجوداً ، فهذا التقدير لا يصح لما أشار إليه السائل من أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان والمقصود نفي الإمكان المستلزم لنفي الوجود فكان القياس تقديره، أو يقال وضعت (لا) لنفي الجنس فلما استحال الجنس عليه تعالى عدلنا إلى تقدير نفي المماثل أي لا متصف بصفات الإله إلا اللّه تعالى([99]).
_________________
([97]) ـ اختار الإمام عليه السلام هذا الحد للمنطوق والمفهوم هنا وفيما سيأتي، وفيه إشارة إلى عدم ورود الإعتراضات على هذين الحدين لا سيما وقد قال السائل العلامة رضي اللّه عنه في ذلك السؤال ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق كما حققه بعضهم ، أو ما كان أحوالاً لغير مذكور كما حققه آخرون ، ففي هذا الكلام إشارة إلى الإعتراضات وفي جواب الإمام عليه السلام إشارات إلى المختار ، مع أن هذا البحث غير مقصود في الظاهر ، ومثل هذا الباب سمي عند أهل البديع الادماج ، فلله هؤلاء الأعلام الذين خاضوا من العلوم أسرارها وأغوارها وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. تمت من مولانا المجتهد/ مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده اللّه تعالى.
([98]) ـ قول الإمام عليه السلام :ولا يقدح كون المستثنى منه لم يذكر لأن المقدر في العربية كالمنطوق به (اختيار) لكون المستثنى منه محذوفاً ، وهو المضمر في الخبر المقدر ، فلم يجعله مفرغاً ولا من محل اسم لا ولا من محل لا واسمها ، والى هذا المذهب ذهب بعض المتأخرين من أهل العربية، وقد رجح هذا القول بترجيحات ليس هذا محل ذكرها ، فافهم رمزات هذا الإمام صلوات الله عليه {الله أعلم حيث يجعل رسالاته } ، وفي هذا المقام بحث بسيط فخذه من مظانّه وصلى الله على محمد المصطفى وعلى آله الحنفاء . تمت من مولانا مجتهد العصر / مجد الدين بن محمد المؤيدي أدام الله تعالىظله.
([99]) ـ أما قول السائل إن الناس في أكثر عباراتهم على تقدير موجود في لا إله إلا اللّه، فلم ينتفِ إلا الوجود لا الإمكان مع أن كلمة الشهادة قاطعة لعرق الشرك، فذلك قول فخر الدين بن الخطيب الرازي، قال: قول النحويين إن التقدير في كلمة الشهادة لا إله في الوجود خطأ، لأن هذا النفي عام مستغرق، فتقديرهم (في الوجود) أوْ (لنا) لا يكون هذا إقراراً بالوحدانية على الإطلاق، فأجيب بأن الإله من له الخلق والأمر، ومن له هذه الصفة، فلا بد ان يكون موجوداً لاستحالة إسناد هذا الخلق إلى المعدوم، فينعكس انعكاس النقيض، وهو أن ما ليس بموجود فليس بإله، فعلمت أن نفي الإله عن الوجود يستلزم نفي الإمكان، إذ هو نفي عام على الإطلاق، إذ من نفى الإلهية عن الوجود فقد نفاها مطلقاً، إذ ما لا يتصف بالوجود فلا حقيقة له أصلاً فارتفع الإشكال ، وكذا في لنا ، فيقال من ليس لنا بإله فليس بإله أصلاً، فعلمت أن نفي الإله نفي عام في التقديرين معاً مستلزم نفي الإمكان، وصح تقديرهما خبرين، ولا ضير واللّه أعلم. انتهى نقلاً من هامش الأصل، وقد أحاطت عبارة الإمام عليه السلام بهذا المعنى وأبلغ منه حيث جعل التقدير متصفاً. ومن المعلوم أن من لم يكن متصفاً بتلك الصفات فليس بإله، وهو في آخر الجواب فتدبر واللّه أعلم. انتهى نقلاً عن خط مولانا العلامة الحجة /مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده اللّه تعالى.(1/65)
(15) السؤال الخامس عشر (قال رضي اللّه عنه) سؤال :
في قول الجمهور في المعنى الحقيقي الذي وضع له المشتق أنه يشترط بقاؤه كضارب فإذا أطلق ضارب على غير المباشر فمجاز، هل ذلك يعم جميع المشتقات كاسم الفاعل والمفعول والفعل ونحوها أم لا؟ وهل بين الجمهور وغيرهم محل خلاف أم لا؟ وهل اشتراط الجمهور للبقاء يدل على أن اسم الفاعل يدل على الحال كما هو ظاهر تلك العبارة؟ مع أن أهل العربية قد ذكروا أنه لا يدل وضعاً على زمن أصلاً ، وكيف ينقل صاحب الأساس أن (خالق) ما سيكون حقيقة وفاقاً لبعض أهل العربية وأبي هاشم ..الخ؟ و نقل ابن الإمام أنه في المستقبل مجاز بالإتفاق، فبين العبارتين تنافٍ ، وما هي الحجة للجمهور التي لا إشكال عليها؟ ، فهذا السؤال أشكل علينا؟.
*الجواب الخامس عشر:
أنه قد عرف كلام الجمهور أن ضارباً مثلاً قبل الضرب مجاز ، ولعلهُ يستوي عندهم في ذلك اسم الفاعل وغيره من المشتقات مما يفيد التجدد والحدوث إذ لا فرق بين مشتق ومشتق وحجتهم فيه النظر إلى الماصَدَق فإنه لم يقع ، فكان من تسمية الشيء بما يؤول إليه، والنظر إلىالقرينة في أنه إذا أريد به الإستقبال فلا بد من نصبها كما هو شأن المجاز، وأغمضوا عن أصل الوضع العربي، ويلزمهم مثله في الماضي أعني بعد الضرب لأنه من تسمية الشيء باسم ماكان عليه وألاّ يسمى ضارباً إلاحال الضرب ، وهو يفهم من كلامهم أنهم وجدوا القرينة لا تخلو عنه إذا أريد به الماضي أو المستقبل فيجعلونه حقيقة في الحال مجازاً في غيره .(1/66)