والجواب: أن المعارضة بعد اعتقاد إمامته وانعقادها لا تجوز إلاّ بأمر معلوم ولا يكفي الظن، وأما قبل الإعتقاد فلا يدخل العالم إلاّ بالطريق الشرعية، والجاهل طريقه العالم، وأما القائم الثاني فالعبرة بما صح عنده وعرفه من حال نفسه وحال من قبله، فإذا عرف القصران في الأول والكمال في نفسه جاز له القيام بل قد يجب، ومهما فعل الدعوة مع الكمال، فقد ثبتت إمامته فيما بينه وبين اللّه تعالى، وجاز له كلما يجوز للإمام، ولا تتوقف الصحة على الإجابة.
وقلتم: إذا اختبر العالم القائم فوجده قاصراً فهل يجوز له إعتقاد إمامته أم لا؟
نقول: إذا قد علم ذلك فلا يجوز، لكن يعينه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما لم يعارض ذلك القائم من هو كامل، لأن إعانته إيّاه تغرير وتوهين في جانب الكامل.
وقلتم: إذا اعتزل بعد ذلك فهل يجوز للإمام إلزامه طاعته أم لا وهو يعتقد نقصانه؟.
فنقول: إذا علم الإمام من نفسه الكمال جاز له الإجبار، والمجبر إذا علم النقصان جاز له الإمتناع فيما أمره إلى الأئمة، لكن أحدهما مخطٍ لأن العلمين لا يتناقضان فأحدهما غير علم.
وقلتم: قد ذكروا أنه لايجوز للإمام الزام العوام المبايعة بغير دليل لأنه يجب عليهم البحث عن الشروط التي يعرفونها ..الخ؟ .(1/57)
فنقول: إنما يعرف العوام الذكورة، واشتهار النسب، وبقية الشروط إلى العلماء العارفين بمعناها، وإن عرف العامي معنى الكرم والتدبير مثلاً فقد يعتقده على خلاف الحد المعتبر، ويظن أنه زيادة العطاء والدهاء وليس كذلك، ما هو إلا وضع الحقوق في مواضعها وكون أكثر رأيه الإصابة مثلاً، وكونه لم يتقدمه مجاب يعني كاملاً فالصحيح أن أكثر الشروط لا يعرف حقيقتها إلا العلماء، ومن بلغ علمه إلى معرفة المعتبر منها شرعاً نظر لنفسه فمهما كان قد تابعه العلماء أهل الورع جاز للعوام الدخول لأن ذلك دليلهم وهذا إن وجد المعارض، وإلاّ فالإمام يكفيهم في الإقتداء به، وقد بينّا أنها إذا قد صحت ولايته عند نفسه جاز له كلما يجوز للإمام، ومن جملة ذلك طلب البيعة، والحمل على الواجب وعلى ما يقوي به أمره، لأن طريقه الدعوة لا العقد والإختيار.
وقلتم: ثم العامي هل يجوز له تقليد هذا العالم الذي قد اعتزل أم لا؟ .
فنقول: يكفي بعد غلبة ظن العامي برجحان هذا العالم.
وقلتم: في شأن المعارضة وما حكم المتعارضين من أهل البيت عليهم السلام؟(1/58)
فنقول: هذا يحتاج إلى تفصيل، وهو إما أن يعرف من حالهما معاً العدل والعلم والكمال وصلاح النية في القيام بأمر اللّه وإعزاز دينه، والبعد عن محبة الدنيا الدنية والأهواء الردية، فالواجب حمل الكل على السلامة حتى نص بعض العلماء أنهما لو تحاربا وجب القول بأن قتلا الجميع في الجنة حملاً لهما على أن كلا منهما يعتقد الأرجحيّة والأنهضيّة والكمال لنفسه وضدهما في صاحبه، وقد أشار إلى هذا البحث القاضي أحمد بن يحي حابس في المقصد الحسن، وإن كان أحدهما مخطئاً في نفس الأمر فهو معذور لعدم التعمد، وأتباعهم قد فعلوا ما يجب عليهم من اتباع العلماء، وإن عرف ذلك من أحدهما ومن الأخر خلافه فلا شك أن الكامل محق والآخر مخطٍ آثمٌ باغ، وأحوال من سلف من آبائنا عليهم السلام غالبهم من ذلك المنوال الأول، حتى كان بعضهم يكتب إلى الأخر يا أخي جُعلت فداك ،هؤلاء الذين عرف منهم الإنصاف وقصد وجه اللّه والدار الأخرة.
وقلتم: ثم ما يصير به الباغي باغياً؟ .
فنقول: يصير باغياً بحرب إمام الحق أو العزم، والتأليب لحربه، وأحكام السيرة في البغاة لم تعرف إلا من سيرة أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يسمع منه أنه سمى من توقف عنه من دون إضرار باغياً، وإن كان من عرف حقية الإمام وقعد عنه آثماً كما في حديث: (( من سمع واعيتنا أهل البيت.. الخ )) لكن لا نعامله معاملة الباغي.
وقلتم: إذا فرضنا بغيهم فهل يجوز منع الميرة ونصب المنجنيق مع إخلاطهم بالنساء والصبيان؟...الخ.(1/59)
فنقول: أما إذا قد صح أنه إمام حق وأنهم بغاة جاز ذلك لأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد فعله، والعلة المانعة من صبيان البغاة مانعة من صبيان الكفار إذْ كلهم لا ذنب له، ولأنه إذا جاز رمي الفارس مع تجويز إصابة فرسه جاز مثل ذلك، ولأنه لو لم يقع ذلك لتعذر الجهاد ومصلحة الجهاد عامة وهذه مفسدة خاصة، والمصلحة العامة ترجح على المفسدة الخاصة، وهذا هو محل نظر للإمام، والراجح أنه إذا تعذر إلا بذلك جاز، ويحمل كلام الوصي عليه السلام على الإمكان بدونه وإلا لزم أن يتحصنوا بصبيانهم ويبغوا في الأرض الفساد، وأما القصد فلا شك أنه غير جائز.
وأما نهيه عليه السلام عن البيات فليس العلة البيات بل ذلك تنبيه على تحريم القتال قبل الدعاء لما في البيات من ظهور الغدر قال اللّه تعالى: { وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء .. الخ} ولأنه يجب تقديم الأخف فالأخف، والجهاد نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقلتم: ثم إذا علم الإمام فعل المقاتلين لما لا يجوز هل يجب عليه إعلامهم أو دفعهم عن المنكر بالممكن؟.
نقول: بل يجب دفعهم بالممكن لأن الإعلام نهي باللسان، فإن لم يؤَثِّر وجب بالفعل.(1/60)
وأما مسألة الاستعانة بالفساق ، فالصحيح جوازها ، وقد استعان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بخزاعة وهم كفار، ولا فرق بين الفسق والكفر مع جواز القتل، لكن اختلفت شروط القائلين بالجواز، منهم من شرط وجود عصابة يمكن بهم إمضاء الأحكام عليهم، ومنهم من لم يشرط إلاّ وجود عصابة يمنعونهم التعدي وهو الصحيح وإلاّ لزم عدم جواز الإستعانة بهم ودار الحكم، ويختلف باختلاف الحال، ولا يبعد رجوعها إلى نظر الأصلح، والترجيح بين المصالح والمفاسد خصوصاً حالة الضرورة ولا سيما فيما هو دفع، وكون ما يحصل منهم من النفع العام أرجح مما يقع من الفساد الخاص ونحو ذلك، ونظر المصالح الشرعية معمول به مهما لم يصادم النصوص الشرعية، ويكون ذلك من باب تخفيف المنكر وإعانة الأقل ظلماً على الأكثر.
وقلتم: ثم إذا طلبوا الأمان هل يجوز قتالهم.. الخ؟ .
نقول: إن عرف منهم الصدق مع بذل ما يجب والإنتهاء عما يحرم وجب القبول قطعاً لقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} وغير ذلك كقوله تعالى: {حتى تفئ إلى أمر اللّه} ، وإن عرف الخداع وجب عليهم تأكيد ما يدفعهم وهو عنوان الصدق، وإن أرادوا بالصلح التقرير على منكر لم تجز إجابتهم إلى الصلح، إلاّ لضرب من الصلاح، أو ضرورة ملجية كعدم القدرة على إزالة كلية المنكر فالتخفيف كاف.(1/61)