فإذا عرفت هذا فانظر كيف يمكن أن يتغير المني المستوي إلى تلك الأمور المختلفة المحكمة البديعة الاحكام العجيبة الصنعة وهل ذلك إلا بمنزلة تجويز أن يصير المداد مصحفا معربا لا غلط فيه ولا لحن بطبع المداد من غير كاتب عالم بل احكام الانسان أبلغ وأعجب وقد رأيت كم جمع في الأنملة الواحدة من الاصابع من الاشياء المختلفة فوضع فيها جلدا ولحما وعصبا وشحما وعروقا ودما ومخا وعظما وبلة وظفرا وشعرا وبضعة عشر شيئا غير ذلك كل واحد منها يخالف الآخر قدرة وحياة واستواء وارتفاعا وانحدارا وخشونة ولينا وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وصلابة ورخاوة ثم خلق في بعضها الحياة دون بعض كالشعر والظفر والعظم وجعلها مدركة لأمور شتى كالحرارة والبرودة واللين والخشونة والقلة والكثرة والرطوبة واليبوسة ومن لطيف الحكمة فيها اختلافها في الطول والقصر حتى تستوي عند القبض على الأشياء فتقوى بالاستواء وهذا مما تخفى فيه الحكمة جدا أعني كون الاختلاف في ذلك سبب الاستواء عند القبض ولذلك خصت بالذكر في قوله تعالى بلى قادرين على أن نسوي بنانه فتبارك الله أحسن الخالقين
وقد أشار الله تعالى إلى بطلان مذهب الطبائعيين بهذا المعنى ونبه عليه سبحانه وتعالى حيث قال في كلامه الكريم وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وآخر الآية دليل على أن العقل يدرك بذلك بطلان قول أهل الطبائع
ومما يدل عليه عافية كثير من المرضى بعد غلبة العلة وقوتها وضعف أسباب العافية ويأس الطبيب من العلاج فقد ذكر الأطباء أن الطب لا ينفع في بعض تلك الأحوال فيتأمل ذلك كثيرا ففيه شفاء لما في الصدور وقد وقعت في ذلك فقلت فيه (1/49)


فيا عطسات فرجت كل كربة ... ولم يبق في أيدي الاساة سوى الصفق
له الحمد منشكين من غير حيلة ... ولا سبب يجري لي الريق في حلقي
بكن علمت الله علم ضرورة ... وكم مثلها يجلو الوساوس في الحق
فإني شارفت الموت من الإسهال فعطست ثلاث عطسات فكأنما نشطت من عقال ولم يكن للعطاس سبب طبيعي قط فكانت من الآيات العجيبة
ومما ينبغي التيقظ له في الرد عليهم أن آدم هو أبو البشر وذلك معلوم ضرورة تواتر ودلالة جلية أما التواتر فواضح وأما الدلالة فمحال أن يكون البشر من أم وأب وإلى ما لا نهاية لأن عدم التناهي في الحوادث الماضية محال فوجب أن يكون أولهم حادثا من غير أم ولا أب ولا نطفة ولا طبيعة وانه صنع حكيم وإنما علمنا من السمع أن اسمه آدم وأنه من طين فلو كانت الطبيعة تقتضي ذلك بنفسها من غير صانع لكان في كل زمان تظهر صور كثيرة من الطين كصورة آدم ثم النظر في خلق سائر الحيوان كذلك فإن انفلاق بعض الطيور عن فراخها من عجيب صنع الله وكان بعض السلف يحتج بذلك على أن الله تعالى عليم قدير لا كعلم الخلق وقدرتهم لأن قدرته أثرت فيما داخل البيضة من غير كسر لها ولا مباشرة وعلمه أحكم صنع ما في البيضة كذلك وإلى ذلك أشار القرآن الكريم حيث قال الله تعالى في سورة الحج يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب يعني أولكم وأوصلكم وليس في خلق الإنسان من التراب شبهة ألبتة لاعتراف الطبائعية بأنه خلاف العوائد الطبيعية وكذلك قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء وقد أعظم الله تعالى هذه الدلالة فقال كيف (1/50)


تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الآية وجعل عدم الإيمان بها أكفر الكفر فقال سبحانه قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ونبه بقوله سبحانه على أن الموت دع عنك الحياة مما يستدل به على الله تعالى كما أوضح ذلك في قوله فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون إلى قوله فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين وذلك أن الحي يموت بإذن الله تعالى مع اجتماع أسباب الحياة في هذا العالم الواسع كما يعيش باذن الله في بطن أمه بغير نفس يجري ولا هواء يمد روحه فسبحان من هو على كل شيء قدير ومنه المبدأ وإليه المصير وقد اختار المؤمن هذه الحجة في قوله لصاحبه الكافر المخاصم له أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا وأثنى الله تعالى عليه بذلك وخلد ذكره في أفضل كتبه فكيف لا يختاره المؤمن لتقوية يقينه ودفع وساوس خصومه وشياطينه
وأما دلالة الآفاق فما يحدث ويتجدد في العالم في طلوع القمرين والكواكب وغروبها عند دوران الافلاك الدائرات والسفن الجاريات والرياح الذاريات والنجوم الثوابت منها والمعالم والرواجم والاستدلال بالرواجم جيد لدلالته الواضحة على الفاعل المختار كما يدل على ذلك حركة القمرين الدائمة وسائر النجوم والافلاك وكذلك تغير أحوال الهواء بالغيوم والصواعق والبروق العجيبة المتتابعة المختلطة بالغيوم الثقال الحاملة للماء الكثير المطفئ بطبعه للنار المضادة له وما في الجمع بينها وانشائها وانزال الأمطار منها بالحكمة البالغة لا تختلط قطرة بأخرى ولو اشتدت الرياح العواصف وصغرت القطر وكثرت وتقاربت حتى تقع متفرقة غير ضارة ولو اجتمعت لعظم ضررها ثم نزول البرد القوي الشديد المتحجر في أوقات الخريف الذي لا يجمد فيه الماء مع أنه لا يجمد في أيام الغيم سواء كانت في الشتاء أو في غيره لرطوبة الغيم فمن أين جاء البرد المتحجر والماء (1/51)


إذا جمد لا يكون على صفة البرد أبدا فتأتي هذه الامطار فتعم الأرض سهولها ووعورها وشعابها وشعافها لينبت العشب الكثير للنعام وسائر الهوام وتسقي المزروع وتنبت الاشجار والفواكه والازهار والثمار وتمد البحار والأنهار والآبار ثم ما في اختلاف الليل والنهار والفصول والاحوال وقد جمع الله تعالى ذلك في قوله إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إلى قوله لآيات لقوم يعقلون فالفكر في هذه الأمور هو النظر المأمور به وعلى ذلك درج السلف من غير ترتيب المقدمات على قانون أهل المنطق بل قد شهد كتاب الله على أن ذلك يفيد البيان حيث قال سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ثم توعد من زعم أن ذلك لم يفده بيانا بقوله أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد وعلى هذا قال الشيخ مختار بن محمود في كتابه المجتبى في آخر ما قيل في حقائق النظر أنه تجريد الفكر عن الغفلات وحكى عن شيخه محمود بن الملاحي أنه لا يشترط في العلم بالله أن يبتني على المقدمات المنطقيات والأساليب النظريات وكيف ينكر هذا أو يستبعد وقد حكى الله عن الهدهد وهو من العالم البهيمي أنه وحد الله واحتج على صحة توحيده بهذا الدليل المذكور في الآفاق قال الله سبحانه حاكيا عنه الا يسجدوا لله الذي يخرج الخبأ في السموات والأرض يعني المطر والنبات فاحتج بحدوث هذين الأمرين العجيبين المعلوم حدوثهما مع تكررهما بحسب حاجة الجميع إليهما وكذلك قيل لبعض الاعراب بم عرفت ربك فقال البعرة تدل على البعير وآثار الخطا تدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج كيف لا تدل على العلي الكبير وقد أشارت الرسل عليهم السلام إلى هذا المعنى في قوله تعالى قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض (1/52)


ومما أستجيد في هذا المعنى وتناقله السلف الصالح قول زيد بن عمرو ابن نفيل رحمه الله تعالى
رضيت بك اللهم ربا فلن أرى ... أدين إلها غيرك الله ثانيا
وأنت الذي من فضل من ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت لموسى اذهب وهارون فادعوا ... إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له آأنت سويت هذه ... بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له آأنت رفعت هذه ... بلا عمد أرفق إذا بك بانيا
وقولا له آأنت سويت وسطها ... منيرا إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له من يرسل الشمس غدوة ... فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤسه ... وفي ذاك آيات لمن كان واعيا وله أيضا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا وفيه يقول ورقة بن نوفل
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا
وتفكر في تباين القمرين في الحرارة والبرودة وبرد القمر مع استمداده في نوره من الشمس وحرارة الشمس الشديدة ومم استمدت تلك الحرارة الدائمة المتوقدة وهي في أرفع الاجواء الرطبة الباردة وكيف لم تحترق وتتلاش مع شدة حرارتها ودوامها وعدم ما تحرقه مثل سائر الناريات وقد ذكر صاحب الوظائف أن في كتاب الله تعالى من الآيات في هذا المعنى خمسمائة آية وقد ذكرت في تكملة ترجيح أساليب القرآن من ذلك ما يشفي ويكفي
ولنختم هذا المعنى بذكر آية واحدة منها وهي قوله تعالى ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره وفي آية أخرى بأنه سبحانه (1/53)

9 / 83
ع
En
A+
A-