فصل في الفسق
وهو أقسام باعتبار العرف الاول والآخر واسم الفاعل واسم الفعل وباعتبار التصريح والتأويل
فاما العرف الأول في اسم الفاعل فانه يدل ان الفاسق من الكفار من لا حياء ولا مروءة ولا عهد ولا عقد له كما فسره بذلك الزمخشري في بعض الآيات الدالة على ذلك فان الله تعالى يقول في الكفار من اليهود وغيرهم وأكثرهم فاسقون وفي بعض الآيات وكثير منهم فاسقون كما أوضحته في الاول من العواصم مبسوطا بسطا شافيا زائدا على ما يعتاد في ذلك من البسط
وأما باعتبار اسم الفعل ففيه قوله تعالى وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان وقول رسول الله وآله سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر في أحاديث كثيرة متفق على صحتها
وأما العرف المتأخر فالفسق يختص بالكبيرة من المعاصي مما ليس بكفر والفاسق يختص بمرتكبها وعند المعتزلة لا يسمي كافرا ولا مؤمنا ولا مسلما وعند أهل الحديث والاشعرية لا يسمى كافرا وأما اسم الاسلام فان اعتبرنا تمامه وكماله لم نسمه مؤمنا ولا مسلما وان اعتبرنا أقله سميناه مؤمنا ومسلما الا ان تسميته مسلما اعتبارا بالاقل من مراتب الاسلام هو العرف الاكثر بخلاف تسميته مؤمنا وفي ذلك من الآيات والأحاديث ما لا يحتمله هذا المختصر وقد استوفيت الكلام فيه في مسألة الوعد والوعيد في آخر العواصم (1/407)
وأما انقسام ذلك باعتبار فسق التصريح والتأويل فهو متفق عليه أما فسق التصريح فلا داعي الى ذكره هنا وهو يرجع الى معرفة الكبائر وهي منصوصة في أحاديث كثيرة وفي بعضها زيادة على بعض وقد جمعها ابن الحاجب في مختصر المنتهى وتكلم ابن كثير على طرقها ومنهم من زاد عليها ما هو أكثر منها قطعا عملا بمفهوم الموافقة المسمى فحوى الخطاب
مثاله ان قتل المؤمن كبيرة بالنص فأولى منه بذلك دلالة الكفار على نقب في مصر عظيم من أمصار المسلمين يدخلون منه فيقتلون جميع من فيها ويستحلون المحارم من النسوان والصبيان ونحو ذلك وهذا قسمان منه ما يكون معلوما كما يعلم تحريم ضرب الوالدين من تحريم التأفيف فلا يكون قياسا ومنه قياس واختلف فيما يكون قياسأ فاجازته طائفة منهم الهدوية ففسقوا من غصب عشرة دراهم قياسا على من سرقها ومنعته طائفة منهم المؤيد بالله عليه السلام واحتج عليهم بالاجماع على ان الغاصب لا يقطع ومنهم من قال الكبيرة ما كان فيه حد من حدود الله تعالى أو قال الله تعالى فيه إنه عظيم أو كبير ومنهم من قال ما توعد الله عليه بخصوصه بالعذاب
وأما فسق التأويل فهو الذي أردت أن أذكره هنا واعلم ان ما دخله التأويل مما يتعلق بالكبائر ولم يعلم انه منها سوى قتل المسلمين وقتالهم فانه يصير ظنا من الفروع الاجتهاديات عند جماهير العلماء من الفرق أو عند جميعهم كالربويات المختلف فيها والانكحة المختلف فيها مثال ذلك وأما قتل المسلمين وقتالهم والبغي على أئمتهم العادلين فاختلف فيه فقالت الشيعة والمعتزلة لا يعذر المجتهد ان أخطأ فيه ويكون فاسق تأويل وقيل يعذر مثل التأويل فيما تقدم وسبب الاختلاف أمران
أحدهما تعارض الوعيد على ذلك والوعد بالعفو عن أهل الخطأ وقد تقدم ما في ذلك قريبا في الوجه الثالث في الكلام على تكفير أهل التأويل
وثانيهما اختلافهم هل يوجد دليل قاطع شرعي وليس بضروري من الدين أم لا ومعنى ذلك أن القطعي الشرعي هو المعلوم لفظه المعلوم (1/408)
معناه فأما العلم بلفظه فلا يكون إلا ضروريا بالاجماع لانه نقل محض ما لم يبلغ مرتبة الضرورة فيه كان ظنيا ولا واسطة فيه بين الضرورة والظن وفاقا فالضرورة هو التواتر والظن آحاد وان كثرت رواته وأما العلم بمعنى القطعي الشرعي فهو محل الخلاف فعند المعتزلة وكثير من الشيعة يدخله القطع من غير ضرورة وعند المخالفين لهم انه راجع الى لنقل المحض إما عن أهل اللغة أو عن أهل الشرع فلا يكون الا ضروريا فيكفر المخالف فيه أو ظنيا فيعذر
وعضدوا هذا بوجوه منها قياس القتل والقتال على سائر ما تقدم مما يتعلق بالكبائر فان هذا حكمها عند الجميع ومنها قياس ذلك على كلام العلماء في مسائل الخلاف في القصاص في النفوس كالحر بالعبد والذكر بالانثى والقصاص بين المسلم والذمي والخلاف في عمد الخطأ وكذلك كلامهم في الحدود التي يجب فيها القتل أو العفو والعقد الاجماع في ذلك كله على عدم تأثيم المخالف مع انه خلاف في سفك الدماء وقتل المؤمنين بالتحري للعدل المأمور به لدفع الفساد قالوا فكذلك من أخطأ من المجتهدين في الفتن وهو على هذه النية ومنها قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا مع أحاديث خاصة وردت في الخطأ في الفتن بخصوصها
وفي ذلك أحاديث
الاول عن سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنهم قال كنا عند رسول الله وآله فذكر فتنة عظم أمرها فقلنا أو قالوا يا رسول الله لئن أدركتنا هذه الفتنة لنهلكن فقال رسول الله وآله كلا ان يحسكم القتل قال سعيد فرأيت أخواني قتلوا رواه أبو داود في الفتن من كتاب السنن عن مسدد عن أبي الاحوص سلام ابن سليم عن منصور بن المعتمر أحد أئمة الكوفة عن هلال بن يساف الاشجعي الكوفي عن سعيد بن زيد وكلهم نبلاء ثقات من رجال البخاري ومسلم وسائر الجماعة الا أن البخاري لم يخرج حديث هلال ابن يساف وحده لغبر طعن فيه فانه لم يذكر في الميزان ورواه أحمد بن حنبل في مسنده بإسناد آخر رجاله كله ثقات الى هلال بن (1/409)
يساف عن سعيد ولفظه ذكر رسول الله وآله فتنا كقطع الليل المظلم أراه قال قد يذهب فيها الناس أسرع ذهاب قال فقيل أكلهم هالك أم بعضهم فقال حسبهم أو بحسبهم القتل وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ولفظه فقلنا إن أدركنا ذلك هلكنا فقال بحسب أصحابي القتل ورواه الطبراني باسانيد ورجال أحدها ثقات ورواه البزار كذلك
الحديث الثاني عن أم حبيبة عن النبي وآله انه قال رأيت ما تلقى أمتي بعدي وسفك بعضهم دماء بعض فسألته أن يؤتيني شفاعة يوم القيامة فيهم ففعل رواه أحمد والطبراني في الاوسط ورجالهما رجال الصحيح الا أن رواية أحمد عن انس عن أم حبيبة ورواية الطبراني عن الزهري عن أنس رواه في مجمع الزوائد ولم أجده في جامع ابن الجوزي ولكنه لا يستوفى والله أعلم
الحديث الثالث عن طارق بن أشيم انه سمع النبي وآله يقول بحسب أصحابي القتل
الحديث الرابع عن أبي بردة عن رجل من أصحاب رسول الله وآله انه قال عقوبة هذه الأمة السيف رواه الطبراني برجال الصحيح
الحديث الخامس عن أبي بردة عن عبد الله بن زيد انه سمع النبي يقول جعل الله عذاب هذه الأمة في دنياهم
الحديث السادس عن معقل بن يسار مرفوعا نحو ذلك رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عيسى الخزاز
الحديث السابع عن أبي هريرة نحوه رواه الطبراني في الأوسط من حديث سعيد بن مسلمة الأموي وعضدوا هذه الأخبار بما رواه زيد بن أبي الزرقاء عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الاصم قال قال علي عليه (1/410)
السلام قتلاي وقتلى معاوية في الجنة رواه الذهبي في ترجمة معاوية من النبلاء وجعفر ويزيد من رجال مسلم وزيد من رجال النسائي قال في الكاشف صدوق وكذلك قال في الميزان وفيه عن ابن معين لا بأس به ولم يورد فيه جرحا الا قول ابن حبان انه يغرب وليس ذلك بجرح وقال فيه انه صدوق مشهور عابد وإن ابن عمار قال ما رأيت في الفضل مثله ومثل المعافي وقاسم الجرمي رحمهم الله تعالى
وهذا من أحسن ما في الباب وانما أخرته لانه موقوف ومع ذلك فله قوة المرفوع والله أعلم بصحة ذلك عنه ومنه أحاديث النهي عن مدافعة أهل التأويل ومنها اعتقادهم أن هذه الادلة أخص وأن ادلة المعتزلة والشيعة عامة وهو في الحقيقة موضع النزاع كما سيأتي في ادلة المعتزلة فينبغي تحرير النظر فيه لان الخاص مقدم على العام ومنها عدم ترجيح عدم التفسيق بالمرجحات المتقدمة لعدم التكفير الحكم فيها متقارب وان كان التكفير أخطر
وقد نص أبو ذر رضي الله عنه على رواية ذلك عن رسول الله في حديثه المتقدم فقال من قال لاخيه كافر أو قال عدو الله وليس كذلك الا حار عليه متفق على صحته كما مضى
وأما الشيعة والمعتزلة فاحتجوا على قولهم بانواع من السمع كثيرة منها قوله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله وأهل التأويل من البغاة داخلون في هذه الآية وان كان سبب النزول في المصرحين فيما أحسب فالآية عامة عند الشيعة والمعتزلة أو عند أكثرهم ومنها حديث أبي هريرة موفوعا في الفتن ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل ولا يدري المقتول في أي شيء قتل قيل وكيف ذاك قال الهرج القاتل والمقتول في النار أخرجه مسلم وعن عبد الله بن عمرو موفوعا ستكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار رواه أبو داود والترمذي ومنها حديث اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال انه كان حريصا على قتل صاحبه رواه خ و م و د و س من حديث أبي بكرة و س من حديث أبي (1/411)