عوام فرق الاسلام أجمعين وجماهير العلماء المنتسبين إلى الاسلام من الملة الاسلامية وتكثير العدد بهم وبين ادخالهم في الاسلام ونصرته بهم وتكثير أهله وتقوية أمره فلا يحل الجهد في التفرق بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة ويقوي الاسلام ويحقن الدماء ويسكن الدهماء حتى ينضح كفر المبتدع اتضاح الصبح الصادق وتجتمع عليه الكلمة وتحقق إليه الضرورة مثل كفر الزنادقة والملاحدة الذين أنكروا البعث والجزاء والجنة والنار وتأولوا الرب جل جلاله وجميع أسمائه بامام الزمان وسموه باسم الله تعالى وفسروا لا إله إلا الله أي لا إمام إلا إمام الزمان في زعمهم خذلهم الله تعالى وتلعبوا بجميع آيات كتاب الله عز و جل في تأويلها جميعا بالبواطن التي لم يدل على شيء منها دلالة ولا امارة ولا لها في عصر السلف الصالح اشارة وكذلك من بلغ مبلغهم من غيرهم في تعفية آثار الشريعة ورد العلوم الضرورية التي نقلتها الامة خلفها عن سلفها والله يحب الانصاف قطعا
الوجه الثامن : أن الخطأ لما كان منقسما إلي مغفور قطعا كالخطأ في الاجتهاديات على الصحيح وغير مغفور قطعا كالخطأ في نفي البعث والجنة والنار وتسمية الامام بأسماء الله تعالى إلي غير ذلك ومختلف فيه محتمل للالحاق بأحد القسمين نظرنا لأنفسنا في الاقدام على تكفير أهل التأويل من أهل القبلة وفي الوقف عنه عند الاشتباه فوجدنا الوقف عنه حينئذ مع تقبيح بدع المبتدعة لا يحتمل أن يكون كفرا ولا خطأ غير معفو عنه لأنه لا يدل على ذلك برهان قاطع ولا دليل ظاهر بل الأدلة واضحة في العفو حينئذ على تقدير الخطأ كما تقدم بيانه في الوجه الرابع وأما الاقدام على التكفير فعلى تقدير الخطأ فيه لا نأمن أن يكون كفرا أو خطأ غير معفو عنه كخطأ الخوارج لورود النصوص الصحيحة الكثيرة بذلك وعدم الإجماع على تأويلها كما تقدم في الوجه الأول فوجدنا الوقف حينئذ أحوط للدين والدار الآخرة حتى لو قدرنا والعياذ بالله تعالى أن الخطأ في كل واحد منهما ذنب غير مغفور لكان الخطأ في الوقف أهون من الخطأ في التكفير وفي الحديث والعقول دلائل على ذلك كثيرة ولذلك قيل أن للشر خيارا ومنه قولهم حنانيك بعض الشر أهون من بعض (1/402)
الوجه التاسع أن الوقف عن التكفير عند التعارض والاشتباه أولى وأحوط من طريق أخرى وذلك أن الخطأ في الوقف على تقديره تقصير في حق من حقوق الغني الحميد العفو الواسع أسمح الغرماء وأرحم الرحماء وأحكم الحكماء سبحانه وتعالى والخطأ في التكفير على تقديره أعظم الجنايات على عباده المسلمين المؤمنين وذلك مضاد لما أوجب الله من حبهم ونصرهم والذب عنهم
وقد روى في ذلك من حديث أمير المؤمنين علي عليه السلام ومن حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كلاهما عن رسول الله وآله أنه قال
الدواوين عند الله ثلاثة ديوان لا يغفره الله وهو الشرك بالله تعالى وديوان لا يتركه وهو حقوق المخلوقين وديوان لا يبالي به وهو ما بينه سبحانه وتعالى وبين عبده فالتارك للتكفير إن قدرنا خطأه فانما أخل بحق من حقوق الله تعالى وهو إجراء الاحكام عليهم وهو ههنا لم يتركه إلا لعدم شرط جوازه وهو تحقق الموجب له وأما للكفر إن قدرنا خطأه فقد أخل بحق المخلوق المسلم بل تعدى عليه وظلمه أكبر الظلم وأفحشه فأخرجه من الاسلام وهو يشهد أن لا أله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن جميع رسله وكتبه وما جاء فيها عن الله عز و جل حق لا شك فيه ولا ريب في شيء منه على الجملة وإنما أخطأ في بعض التفاصيل وقد صرح بالتأويل فيما أخطأ فيه فان وصف الله بوصف نقص فلاعتقاده أنه وصف كمال وان نسب إليه قبحا فلاعتقاده أنه حسن وان تعمد القبيح في ذلك فمحل التعمد هو القلب المحجوب عنا سرائره والحاكم فيه علام الغيوب وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة وذمت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله تعالى وتعظيمهم لله تعالى بتكفير عاصية فلا يأمل المكفر أن يقع في مثل ذنبهم وهذا خطر في الدين جليل فينبغي شدة الاحتراز فيه من كل حليم نبيل ولأجل هذا الخطر عذر المتوقف في التكفير وكان هذا هو الصحيح عند المحققين كما ذكره الفقيه حميد واختاره في عمدة المسترشدين بل كما قامت عليه الدلائل والبراهين
الوجه العاشر أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لم يكفر (1/403)
أهل الجمل وصفين لم يسر فيهم السيرة في الكافرين مع صحة قول رسول الله وآله لايحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق والمنافق إذا أظهر النفاق وحارب وكانت له شوكة جرت عليه أحكام الكفار بالاجماع بل قد صح أن سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر فكيف بسيد المسلمين ومولاهم الامام بل خلاف بينهم الواجب محبته وطاعته عليهم
وفي مسند أحمد عن أم سلمة أنها قالت أيسب رسول الله فيكم قيل لها معاذ الله قالت سمعت رسول الله يقول من سب عليا فقد سبي رجاله رجال الجماعة كلهم إلى أبي عبد الله الحدلي التابعي الراوي عنها وهو ثقة ولم يكفرهم عليه السلام مع هذا وأمثاله فدل ذلك على أنه عليه السلام بعد عن التكفير لأجل المعارضات التي أشرنا اليها في حكم أهل الشهادتين أو فيمن قام بأركان الاسلام ولجوازان يراد كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وهذا الوجه مفارق للوجه الأول المتعلق بالحوارج لأن النزاع في كفر الخوارج ممكن أو مشهور وأما هؤلاء فلا خلاف بين أهل النقل والبصر وبالتواريخ أنه عليه السلام سار فيهم السيرة في البغاة على إمام الحق ولم يسر فيهم السيرة في أهل الكفر ولهذا قال الامام أبو حنيفة أنه لولا سيرته عليه السلام في ذلك ما عرفت أحكام البغاة أو كما قال رحمه الله تعالى وإنما كان فعله فيهم حجة على البعد عن التكفير لأنه تركه مع وجود النصوص الصحيحة بكفرهم ونفاقهم كما ذكرناه في الحديثين الشهيرين وشواهدهما بل كما في قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرين وعدل إلى ترجيح معارضتهما ولا معنى للعبد عن التكفير إلا ذلك
الوجه الحادي عشر
أنه قد يدق مراد المخالف ويخفي جدا ويحتمل الوقف فيفسر بما لم يقصده كما تقدم في هذا المختصر في اختلاف الناس في تحقيق فعل العبد إلى بضعة عشر قولا أكثرها غامضة وكما دق مذهب الاشعرية في الرؤية حتى قال الرازي أن مرادهم أنه ينكشف لله تعالى صفة في الآخرة هي بالنسبة اليه كالرؤية بالنسبة إلى غيره وقد ينقل عنه ما لم يقل لتوهم أنه لازم له وليس بلازم كما نسب تكليف ما لا يطاق إلى (1/404)
الاشعري أو لازم ولكن اللازم الذي لم يقل به بل تبرأ منه ومن لزومه كالذي قاله وكم يختلف أتباع العالم في كثير من مقاصده ويلزم ما لم يقصده كما يختلف في كثير من الآيات والأحاديث وقد تقدم هذا في سبب الابتداع في الدين بتبديل العبارات وعليه بنيت هذا المختصر فاذا تقرر هذا فمن العجب تكفير كثير ممن لم يرسخ في العلم لكثير من العلماء وما دروا حقيقة مذاهبهم وهذه هذه وما يعقلها إلا العالمون
الوجه الثاني عشر
أن في الحكم بتكفير المختلف في كفرهم مفسدة بينة تخالف الاحتياط وذلك اسقاط العبادات عنهم إذا تابوا وإسقاط جميع حقوق المخلوقين من الأموال والدماء وغيرهما وإباحة فروج نسائهم إذا لم يتوبوا وسفك دمائهم مع قيام الاحتمال بشهادة وجود المخالفين الجلة من أئمة الملة ووجود المعارضات الراجحة الواضحة الادلة وقد أشار إلى هذا الوجه شيخ الاعتزال المعروف بمختار في المسألة الثانية عشرة من مسائل هذا الباب في كتابه المجتبى قال فيه وعن بعض السلف أنه كان يكتب في الفتوى في هذا لا يكفر وغيري يخالفني
الوجه الثالث عشر
أن الخطأ في العفو خير الخطأ في العقوبة نعوذ بالله من الخطأ في الجميع ونسأله الاصابة والسلامة والتوفيق والهداية لكنا وجدنا الله تعالى لم يذم من أخطأ في نحو ذلك ألا تراه أثنى على خليه عليه السلام حين جادله في قوم لوط فقال إن ابراهيم لحليم أواه منيب وقال عز و جل فيه بعد حكايته استغفاره لأبيه إن إبراهيم لأواه حليم وإنما كان جداله واستغفاره فيما يحتمل الجواز في شريعته لا فيما لا يجوز بالنص فانه منزه عن ذلك ولا فيما يجوز بالنص فانه لا يعاقب في ذلك ولا يحتاج إلى الاعتذار له فيه ونحو هذا من وجه آخر قوله عليه السلام ومن عصاني فانك غفور رحيم وقول عيسى عليه السلام وإن تغفر لهم فانك انت العزيز الحكيم وصلاة رسول الله وآله على عبد الله بن أبي بعد نزول قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وقوله في تفسيرها ان الله خيرني ولم ينهني ولو أعلم انه يغفر لهم اذا زدت على السبعين لزدت (1/405)
عليها وثبت انه عليه الصلاة و السلام ما خير بين أمرين الا اختار أيسرهما ما لم يكن اثما وتواتر ذلك من اخلاقه الكريمة كما جمع في مصنف مفرد ويشهد له بذلك القرآن الكريم حيث قال تعالى انك لعلى خلق عظيم هذا مع انا نقف فيمن تفاحشت بدعته وقاربت الكفر ولا نواليه ولا ندعوا له بالرحمة والمغفر الا بشرط ان يكون من المسلمين محاذرة من ان نوالي من هو عدو لله في الباطن وقد أمر رسول الله وآله بنحو هذا في حديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم حذرا من تكذيب الحق وتصديق الباطل فنعوذ بالله من موالاة أعداء الله بل ننكر بدعهم وننهي عنها ما استطعنا ونكرهها ونتبرأ منها ونشهد الله تعالى انا نعادي من عاداه علمناه أو جهلناه فقد دل في الحديث على نفع هذا الاعتقاد الجملي وهو حديث زيد بن ثابت عن رسول الله وآله وفيه اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت وما لعنت من لعنة فعلى من لعنت رواه أحمد والحاكم وقتال حديث صحيح ويشهد لصحته ما تقدم عن ابراهيم الخليل عليه السلام من الجدال عن قوم لوط والاستغفار منه لابيه ولم يكن موالاة منه لهم ولا رضى بذنوبهم ولا ذم به بل بين الله تعالى عذره في بعض ذلك وعده من سعة حلمه في بعضه وهذا كله في حق الكافرين وأما أهل الاسلام المؤمنين الخاطئين فلا نص على تحريم ذلك فيهم فيما علمت وينبغي الاشتراط فيما شك فيه من الدعاء لبعضهم ان يكون موافقا لمراد الله تعالى في الشريعة النبوية (1/406)