حساب وهذا كله في العلم النافع دون غيره كما تقدم بيانه بالحجة والحجة على ذلك من الكتاب والسنة والمعقول الباب الثاني في اثبات الطرق إلى الله تعالى وبيان أجلاها وأوضحها على سبيل الاجمال
اعلم أن هذا من أوضح المعارف التي دلت عليها الفطرة التي خلق الخلق عليها ولذلك قال كثير من العقلاء والعلماء والأولياء أنه ضروري لا يحتاج إلى نظر وقال آخرون إنما يحتاج إلى تذكر يوقظ من سنة الغفلة كتذكر الموت الذي تقع الغفلة عنه وهو ضروري حتى قال الله تعالى في مخاطبة العقلاء إنك ميت وإنهم ميتون وقال ثم إنكم بعد ذلك لميتون ونحو ذلك مما أشار إليه القرآن الحكيم حيث حكى الله عن الرسل الكرام قولهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض وقد تقدم قول علي عليه السلام في ذلك الذي شهد له أعلام الوجود على اقرار قلب ذي الجحود وذكر شرح ابن أبي الحديد لذلك وتجويده وقد بسطت أدلة من قال بذلك وما يرد عليهم وما يجيبون به في العواصم ولذلك شذ المخالف هنا ولم يكد الخلاف في حاجة العالم إلى مؤثر وإنما اشتد الخلاف في صفات ذلك المؤثر ونقل الرازي عن الفلاسفة اعترافهم أن خوضهم في الالهيات بالظن دون العلم
واعلم أن هذا الخلاف الشاذ المستند إلى الظن باعتراف أهله إنما وقع مع شذوذه لأنهم نظروا في معرفة الرب جل جلاله من الوجه الذي بطن منه ولم ينظروا في معرفته من الوجه الذي ظهر منه وذلك أنه سبحانه قد تسمى بالظاهر وتسمى بالباطن وثبت هذا في كتابه الكريم فثبت أن له جهة يظهر منها وجهة يبطن منها لتبقى حكمته في قوله ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقوله في الساعة أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى فمن نظر في معرفته من الجهة التي يظهر منها ترادفت مواد (1/44)


معرفته وكانت نورا على نور يهدي الله لنوره من يشاء كما وصف الله نور هدايته بكثرة المواد في سورة النور ومن نظر في معرفته من غير هذه الطريق كان كمن ضل الطريق واجتهد في السير بعد الضلال فلا يزال يزداد بعدا بسيره في غير طريق على أنه يحتمل أن المعنى في الظاهر والباطن أنه هو الحق فيهما معا لا أحدهما كما قد يكون بعض الأمور حقا في الباطن ولا حجة عليه ظاهرة فيكون على هذا الوجه في معنى الملك الحق المبين ويكون ذلك أعظم في قطع أعذار المعاندين والله أعلم
والطرق إلى الله تعالى كثيرة جدا ولكنا نقتصر منها على أصحها وأجلاها وأوضحها وأشفاها حتى نأمن بالسلوك فيها من الضلال في الطرق التي تبعد السائر فيها عن مقصوده والعياذ بالله وإلى تلك الطرق الاشارة بقوله تعالى ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقد يكون فيها ما يستلزم رد كثير من الشرائع فنقول الباب الثالث
في بيان شيء من طرق معرفة الله تعالى على مناهج الرسل والسلف على جهة التفصيل للاجمال المتقدم في الباب الذي قبل هذا فلنذكر اشارة لطيفة على قدر هذا المختصر إلى ثلاث دلالات دلالة الانفس ودلالة الآفاق ودلالة المعجزات وكلها دل عليها القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه يهدي للتي هي أقوم أما دلالة الانفس فإنها بليغة قال الله تعالى قتل الانسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره الآيات وقال تعالى وفي أنفسكم أفلا تبصرون وقال يا أيها الانسان ما غرك بربك الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك وقال كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم الآية وأبسط آية في ذلك آية الحج (1/45)


يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة الآيات إلى قوله ذلك بأن الله هو الحق إلى وأن الله يبعث من في القبور وأبطل شبهة الطبائعية بقوله من تراب لأن آدم أبو البشر وأصلهم بالتواتر الضروري لا أب له ولا أم فلزمت الحجة وبانت ووضحت ولله الحمد والثناء والمنة وكذلك الآية التي في سورة المؤمنين من قوله ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين إلى قوله فتبارك الله أحسن الخالقين وقال أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه ومن ثم قيل فكرك فيك يكفيك وقد جمع الله تعالى ذكر دلالتي النفوس والآفاق في قوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وذلك أنا نعلم بالضرورة وجودنا أحياء قادرين عالمين ناطقين سامعين مبصرين مدركين بعد أن لم نكن شيئا وأن أول وجودنا كان نطفة قذرة مستوية الأجزاء والطبيعة غاية الاستواء بحيث يمتنع في عقل كل عاقل أن يكون منها بغير صانع حكيم ما يختلف أجناسا وأنواعا وأشخاصا
أما الأجناس فكما نبه عليه قوله تعالى والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع وأما الأنواع فنبه عليها بقوله ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علق فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ومنه ثم سواك رجلا وأما الأشخاص فبقوله تعالى قتل الانسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره الآيات (1/46)


وبيانه أنه خلق من نطفة فقدره مستوية الطبيعة فكيف يكون منها ما يبصر ومنها ما يسمع ومنها ما يطعم ومنها ما يشم ومنها الصلب ومنها الرخو ومنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع كما نبه الله عليه في كتابه الكريم ونعلم أنها قد تغيرت بنا الأحوال وتنقلت بنا الأطوار تنقلا عجيبا فكنا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم لحما ودما ثم عظاما صلبة متفرقة في ذلك اللحم والدم تقويهما وعصبا رابطة بين تلك العظام صالحة لذلك الربط مما فيها من القوة والمتانة ثم تركب من ذلك آلات وحواس حية موافقة للمصالح مع ضيق ذلك المكان وشدة ظلمته وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون والظلمات الثلاث ظلمة البطن وظلمة المشيمة وظلمة الرحم ثم انظر إلى موضع العينين ما أشبهه بهما بعيدا مما يؤذيها مرتفعا للتمكن من إدراك المبصرات في الوجه الذي لا يحتاج إلى تغطية باللباس من الجمال البديع فيهما وفي جفونهما ولو كانا في الرأس أو في الظهر أو في البطن أو غير ذلك ما تمت الحكمة ولا النعمة بهما وكذلك كل عضو في مكانه وانظر إلى ستر القذر الذي في البطن بالسواتر العظيمة بحيث لا يحس له حس ولا يظهر له ريح ولا يخرج إلا باختيارنا في موضع خال وإن من عجيب صنع الله تعالى استمساك البول في حال الغفلة بل في حال النوم حتى نختار خروجه ونرضى به من غير رباط ولا سداد في مجراه ولا مانع محسوس فتبارك الله أحسن الخالقين ثم حياتنا في بطون الأمهات من غير نفس ولو كان ثم نفس لكان ثم صوت ولو غم أحدنا بعد الخروج ساعة لمات بل كثيرون يموتون في المدافن المتخذة للحبوب مع سعتها ثم خروجنا من ذلك الموضع الضيق من غير اختيار من المولود والوالدة وهو فعل محكم صعب لابد له من فاعل مختار وعدم الموت لشدة الضغطة عند الخروج وسلامة الولد وأمه من الموت في ذلك من آيات الله كما أشار إليه في آية الحج في وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه (1/47)


ثم احداث اللبن في ثدي الأم من يومئذ من بين قرث ودم وتربية المولود وفهمه للغة أهله ما كانت فصيحة عربية أو عبرية عجمية مع كثرة قواعد العربية وكثرة اختلاف عوامل الاعراب والعاقل المميز يقف أضعاف تلك المدة بين العرب والعجم فلا يعرف من ذلك ما عرف الصغير ولا يدري ما يقولون بمجرد المخالطة كالطفل الذي لا عقل له ولا تمييز وكذلك العجمي بين العرب ثم يترقى إلى حال التمييز وتتعاقب عليه الأحوال من الصغر والكبر والضعف والقوة والشباب والشيب والعقل والذكاء والبلادة والمرض والصحة والشهوة والنفرة والدواعي والصوارف والعسر واليسر والغنى والفقر وضده من غير اختيار منه في شيء من ذلك فلابد لهذه التغيرات من مغير قادر عليم مدبر حكيم
وقد صنفت في هذا المعنى كتب علم التشريح وبيان كيفية الخلقة وهو مما ينبغي الوقوف عليه أو على شيء منه وقد نقل ابن الجوزي منه جملة شافية في أول كتابه لقط المنافع في الطب فليطالع فيه فلو جاز أن يكون مثل هذا بغير صانع لجاز أن تصح لنا دور معمورة أو مصاحف مكتوبة أو ثياب محوكة أو حلى مصوغة بغير بان ولا كاتب ولا حائك ولا صائغ فما خص خير الخالقين بان يكفر ولا يدل عليه أثر صنعته العجيبة وخلقته البديعة ولو كان هذا الأثر للطبع كما قال كثير من الفلاسفة لكان أثرا واحدا كما لو جمدت النطفة بطبع البرد أو ذابت أو أنتنت
قال الامام المؤيد بالله في الزيادات أن الطبع ان سلمنا وجوده لا يحصل به الشيء على قدر الحاجة وإنما يكون بمقدار قوته وضعفه ألا ترى أن النار تحرق لا على قدر الحاجة بل على قدر قوتها وتنقص عن الحاجة إذا ضعفت وكذلك الماء الجاري والحكيم يجريه ويقطعه على قدر الحاجة اه كلامه وفيه تنبيه حسن على الفرق الجلي (1/48)

8 / 83
ع
En
A+
A-