من قرائن أحوال المتأولين وأقل الاحوال أن يكون هذا محتملا مجرد احتمال مع سعة رحمة الله سبحانه وعظيم عفوه وغفرانه ومع ما ورد في أحاديث الشفاعة المتواترة كما مضى بيانه في موضعه ولذلك ساوى رسول الله بين الخطأ والنسيان والاكراه في أحاديث كثيرة جدا مجتمعة علىا أن الله تعالى تجاوز لأمته عليه أفضل الصلاة والسلام الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وقد تقصيت طرقها وشواهدها من القرآن في ديباجة كتاب العواصم
وقد أجمعت الأمة على العمل بمقتضى النصوص في الاكراه والنسيان فكذلك أخوهما وثالثهما وهو الخطأ أن شاء الله تعالى بل هو أكثر منهما ذكرا وشواهد في الكتاب والسنة والبلوى به أشد والرخصة إنما تكون على قدر شدة البلوى
واما كفار التصريح فلا نسلم أن كفرهم خطأ لوجهين
أحدهما أن مرادنا بالخطأ هو خطأ مخصوص وهو الخطأ في تحري مراد الله تعالى ورسوله فيما ظاهره التعارض والتشابه وكفار التصريح تعمدوا تكذيب الله تعالى الله عن ذلك وتكذيب رسله ولم يقعوا في ذلك خطأ من غير اعتماد
وثانيها أن الله تعالى قد أخبر رسله الكرام بعنادهم واستحقاقهم العداوة والعذاب العظيم ولو في أول مرة كما قال في ذلك كما لم يؤمنوا به أول مرة وقد تقدم ذكر ذلك وكلام ابن أبي الحديد فيه في شرح قول علي عليه السلام الذي شهدت له أعلام الوجود على اقرار قلب ذي الجحود وهذا تصريح بعناد كفار التصريح حين انكروا فطرة الله التي فطر الناس عليها واجتمعت عليها جميع كتبه ورسله وأتباعهم ولم يختلفوا فيها وليحذر من أمن الخطأ وقطع على عدم مسامحة أهله في العقائد من المؤاخذة له فيما أخطأ فيه وعدم المسامحة له كما ذكرته في تحذير من قال بتكليف ما لا يطاق أن يحمله الله تعالى من العقوبات على قولها ما لا يطيقه فان جزاء الله تعالى لعباده من جنس أفعالهم وأقوالهم جزاء وفاقا وكما تدين تدان وقد مر ما ورد في ذلك أو بعضه في التحذير من تجويز التكليف بما لا يطاق على أعدل العادلين وأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين (1/397)
الوجه الرابع أن مؤاخذة المخطيء لا تخلو إما أن تكون من تكليف ما لا يطاق أو من أعظم المشاق فان كانت من الأول فهو لا يجوز على الله تعالى كما تقدم القول فيه مبسوطا بسطا شافيا وإن لم تكن منه كانت من أعظم المشاق وقد نفي الله تعالى وجود ذلك في دينه
أما أنه قد نفى ذلك في دينه فالمنصوص فيه كثيرة قال الله تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج وقال يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وتواتر هذا المعنى في السنة وقد جمعته في مؤلف مفرد ذكرت فيه أكثر من ثلاثين آية من كتاب الله تعالى وأزيد من مائة وثمانين حديثا فلا نطول بذكره لوضوحه
وأما أن ذلك من أعظم الحرج والمشاق فالأمرين
الأمر الأول أن العاقل المعظم لأمر الله تعالى المؤثر لمرضاته لو خير بين أمرين أن يكلف الصبر على القتل عند الاكراه على كلمة الكفر أو الاحتراز من الخطأ بعد تقرير أن الخطأ كفر لا يغفر ويوجب الخلود في النار لاختار الصبر على القتل لأنه يفضي به إلى الجنة وإنما هو صبر ساعة وهو لا يأمن أن يقع في الخطأ الذي يكفر به ولا يغفر له مع عدم العصمة وعدم المسامحة لأن الخطأ قد جربت كثرة وقوعه من الأذكياء والافراد في المعارف الذين ضربت الأمثال بهم في العقل والذكاء والفهم والعلم وذلك عند تعارض الأنظار والآيات والآثار والمتشابهات والمحتملات وتخصيص أكثر العمومات حتى وقع بعض الأنبياء في شيء من ذلك مع العصمة والتأييد الرباني هذا نوح عليه السلام ظن أن ابنه داخل في عموم أهله الذين وعده الله تعالى بنجاتهم ولم يعلم تخصيص هذا العموم ولو علمه ما سأل وقد قيل في الوجه في ذلك أن ابنه كان منافقا وهذا موسى عليه السلام راعه ما وقع من الخضر عليه السلام من المتشابهات حتى عيل صبره وأخلف وعده
الأمر الثاني : أنه لم يتحقق ورود الشرع بعقوبة المخطيء بعد الرغبة في معرفة الصواب وحسن النية في تعرفه وإن لم يبلغ جميع ما يمكن البشر في علم الله تعالى أما مع بلوغه ذلك فلا شك في العفو عنه وأما المشاق (1/398)
العظيمة فقد يرد الشرع بها نادرا في هذه الشريعة تخصيصا لعموم المسامحة فيما شق حيث تقتضي ذلك الحكمة كما في وجوب الصبر للقصاص في القتل وقطع الاعضاء والرجم في عقوبة الزاني وكان هذا أكثر في شرائع من قبلنا لقوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم ومنه وجوب القتل في توبة بني إسرائيل ونحو ذلك فثبت أن المشاق العظيمة قد تحقق ورودها في الشرائع نادرا حيث يقتضي ذلك المصلحة وإن عقاب المخطيء بعذاب النار لم يتحقق وروده في شريعة من الشرائع فثبت أنه أحق المشاق بأن يسمحه اكرام الاكرمين وخير الغافرين سبحانه وتعالى ولا برهان قاطع على أن المكفرين من أهل التأويل لا يسمون مخطئين ولا على خروجهم من الأدلة الدالة على العفو عن المخطئين
االوجه الخامس : أن أخوة يوسف لما قالوا إن أبانا لفي ضلال مبين وقالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم لم يكفروا بذلك لما كانوا باقين على شهادة أن لا إله إلا الله وأن يعقوب رسول الله معتقدين مع ذلك صحة نبوته ودينه وإنما جوزوا عليه مع ذلك الضلال في حب يوسف لأنه عندهم من الضلال في الرأي ومصالح الدنيا وقد قاربوا الاستهانة وعدم التوقير لولا جلالة بقائهم على الشهادتين وإيمانهم بالله تعالى ورسله فثبت أن للبقاء على ذلك أثرا عظيما فان الامارات لا تقاومه وإن الشرع ورد بتعظيم ذلك وطرح المعارض له ولذلك عظم رسول الله وآله على أسامة بن زيد قتل الكافر الذي ضربه فلما قدر عليه أسلم وعظم على أصحابه الكلام في بعض من كانوا يعدونه من المنافقين وقال أليس يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله ويصلي قالوا بلى ولا شهادة له ولا صلاة قال إني لم أومر أن أفتش على قلوب الناس وأمثال ذلك كثيرة صحيحة
الوجه السادس : أن الخارجي الذي قال لرسول الله وآله اعدل يا محمد والله إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تكلم بكلام من أقبح الكلام وظن ظنا من أسوأ الظنون ولم يحكم النبى بكفره مع ذلك مع أنه لو (1/399)
كفر لوجب قتله بالردة إلا أن يتوب ولم تنقل له توبة بل جاء في الحديث ما معناه أنها تخرج من ضئضئة الخوارج وإنما لم يكفر والله أعلم لأنه بقي على شهادة أن محمدا رسول الله وآله وإنما جوز عليه أن يذنب كذنوب الانبياء كما قال تعالى وعصى آدم ربه فغوى وهذا يدل على تعظيم حرمة الشهادتين مع عظم الخطأ وكذلك لم يكفر حاطب ابن أبي بلتعة مع خيانته لرسول الله وآله وما نزل فيه أول سورة الممتحنة وقوله تعالى فيه تلقون اليهم بالمودة و تسرون اليهم بالمودة وقد قال تعالى ومن يتولهم منكم فانه منهم ومع ذلك وصفه بالايمان في أول السورة حيث قال يا أيها الذين آمنوا وإنما قلنا أنه داخل فيمن خوطب بذلك لأن العموم نص في سببه بالاجماع ولذلك أدخله الله مع المؤمنين وخاطبه بأجمل الخطاب حيث قال لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وكذلك ثبت أن رسول الله وآله قبل عذره وذلك كله يدل على ما قاله الامام المهدي محمد بن المطهر عليه السلام أن الموالاة المحرمة بالاجماع هي أن تحب الكافر لكفره والعاصي لمعصيته لا لسبب آخر من جلب نفع أو دفع ضرر أو خصلة خير فيه والله أعلم
الوجه السابع : أن الله تعالى نص على تحريم التفرق في كتابه الكريم وجاء ذلك بعبارات كثيرة في الكتاب والسنة ولا أفحش في التفرق من التوصل إل التكفير بأدلة محتملة تمكن معارضتها بمثلها ويمكن التوصل بها إلى عدم التكفير وإلى جمع الكلمة وإنما قلنا أنه لا أفحش من ذلك في التفرق المنهي عنه لما فيه من أعظم التعادي والتنافر والتباين وقد قال رسول الله وآله في حق المحدود في الخمر مرارا حيث لعنوه بسبب ذلك لا تعينوا الشيطان على أخيكم أما أنه يحب الله ورسوله ولا شك أن في التفرق ضعف الاسلام وتقليل أهله وتوهين أمره قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وقال بعدها بآية (1/400)
واحدة ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقد تقدم في حديث ابن مسعود أن الاختلاف المنهى عنه هو التعادي لا الاختلاف في مجرد الافعال والاقوال مع عدم التعادي وأن بعض ذلك قد وقع بين الملأ الاعلى وبين رسل الله الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام يوضحه قوله تعالى ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذين أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال تعالى ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وقال تعالى وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وفي الحديث أن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم وفيه أن فساد ذات البين هي الحالقة اما اني لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين
وقد تقدم في هذا الباب ما جاء في المشاحنة والمهاجرة من الوعيد الشديد والأحاديث المتواترة منها حديث هشام بن عمار عن رسول الله وآله لا يحل لمسلم أن يهجر مسلما فوق ثلاث فانهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما وأولهما فيأ يكون سبقة بالفيء كفارة له وإن سلم ولم يقبل ردت عليه الملائكة وإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا أبدا رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وقد مر في الوجه الأول من هذه الوجوه ما له من الشواهد المتواترة الرائعة في تحريم ذلك وانه مقرون بالشرك في حرمان صاحبه الغفران وهذا أمر مجمع على تحريمه في الأصل فيجب مراعاة أسبابه ومقوياته فكلما كان أقرب إلى الاجتماع كان أرجح وكلما كان أقرب إلى التفرق وادعى اليه وإلى اثارته كان أفسد وأبطل وكم بين إخراج (1/401)