كفر ومن صدر عنه فهو كافر إذا كان مكلفا مختارا غير مختل العقل ولا مكره وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار وإنما يقع الاشكال في تكفير من قام بأركان الاسلام الخمسة المنصوص على اسلام من قام بها إذا خالف المعلوم ضرورة للبعض أو للاكثر لا المعلوم له وتأويل وعلمنا من قرائن أحواله أنه ما قصد التكذيب أو التبس ذلك علينا في حقه وأظهر التدين والتصديق بجميع الأنبياء والكتب الربانية مع الخطأ الفاحش في الاعتقاد ومضادة الادلة الجلية عقلا وسمعا ولكن لم يبلغ مرتبة الزنادقة المقدمة وهؤلاء كالمجبرة الخلص المعروفين بالجهمية عند المحققين وكذلك المجسمة المشبهة في الذات التشبيه المجمع على أنه تشبيه احترازا عما لا نقص فيه مجمع على أنه نقص مع اثبات كمال الربوبية وخواصها وجميع صفات الكمال وإلا كان كفرا صريحا مجمعا عليه وكذلك القدرية على كلا التفسيرين فان القدران فسر بعلم الغيب السابق فهم من نفاه ونفيه كفر بالاجماع وإن فسر بالجبر ونفى الاختيار عن العباد ونفى التمكين لهم فهم من أثبته كما تقدم بيانه فهؤلاء المشبهة والمجبرة معا اختلف علماء الاسلام في تكفيرهم بعد إجماعهم على تقبيح عقائدهم وانكارها فذكر الامام يحيى في التمهيد أنههم غير كفار واحتج على ذلك وجود القول فيه وذكر الشيخ مختار في كتابه المجتبى عن الشيخ أبي الحسين من رؤوس المعتزلة وعن الرازي من رؤوس الأشعرية أنهما معا لم يكفراهم قال لأن حجة من كفرهم القياس على المشركين المصرحين وهما قد قدحا في صحة هذا القياس دع عنك كونه قطعيا وذلك القدح هو بوجود الفارق الذي يمنع مثله من صحة القياس وهو إيمان هؤلاء بجميع كتب الله تعالى وجميع رسله بأعيانهم وأسمائهم إلا من جهلوه وإنما يخالفون حين يدعون عدم العلم ثم ظهر عليهم ما يصدق من ذلك من اقامة أركان الاسلام وتحمل المشاق العظيمة بسبب تصديق الأنبياء عليهم السلام ولأن القياس عند المحققين من علماء المعقولات لا يكون قاطعا لأن الأمرين إن استويا في جميع الوجوه لم يكن قياسا وإن وجد بينهما فارق جاز أن (1/377)
يكون مؤثرا في عدم استوائهما في الحكم ولم يقم دليل قاطع على أنه وصف ملغى لا تأثير له وبيان ذلك أنهم قالوا أن المبتدعة حين غلطوا في صفات الله تعالى فقد عبدوا غير الله فيكون قياسا على المشركين فان بعضهم عبد الرب الذي يشبه العباد وهم المشبهة وبعضهم عبد الرب الذي يجبرهم وهم المجبرة ونحو ذلك
والجواب أنهم عبدوا الرب الذي خلق الخلق وغلطهم في بعض صفاته لا يخرجهم عن عبادته ويصيرهم كمن يعيد الاصنام لوجهين أحدهما أن علماء الكلام يختلفون في كثير من الصفات كالمدرك والوصف الأخص والمريد بل كالسميع والبصير ولم يلزم بعضهم بعضا ذلك ولو كان حقا لزمهم وثانيهما أن من شهد أن محمدا رسول الله وغلط في بعض صفات جسده أو نسبه لم يكفر قطعا فدل على أن من غلط في وصف شيء لم يكن مثل جاحده وربما قالوا إن ذلك نقص له فيكون كفرا قياسا على من تعمد انتقاصه بما هو نقص بالاجماع قلنا الخطأ فارق مؤثر شرعا كالاكراه والنسيان كما سيأتي ومن اعتقد حسن القبيح وأضافه اليه لحسنه عنده لا لقبحه لا يكون كمن عكس ودليله اختلافهم في الاعراض وفي الوجه فيها من غير تكفير وبعضهم يلزمه نسبة الظلم اليه وبعضهم يلزمه نسبة العبث اليه عز و جل عن ذلك وقد جود الرد عليهم صاحبهم الشيخ مختار في المسألة التاسعة من التكفير من كتابه المجتبى وفيما قبلها وبعدها فليطالع فيه وقد نقلته بألفاظه أو معظمه إلى مواضعه من العواصم
قلت وأما بقية أدلتهم السمعية فلا تخلو من الظن في معانيها إن لم تكن ظنية اللفظ والمعنى معا كما يعرف ذلك النقاد من أهل الأصول الفقه لأنها إما عمومات وظواهر ومعناها ظني وإن كانت ألفاظها قرآنية معلومة ولها أو لأكثرها أسباب نزلت عليها تدل على أنها نزلت في المشركين المصرحين وتعديتها عن أسبابها ظنية مختلف فيها أو نصوص جلية لكن ثبوتها ظني لا ضروري ثم لا تخلو بعد ذلك مما يعارضها أو يكون أظهر في المعنى منها من الأحاديث الدالة على اسلام أهل الشهادتين أو الاكتفاء بهما حتى في أحاديث فتنة القبر مع كثرتها وصحتها وتلقيها بالقبول واتفاق الفرق على (1/378)
روايتها وقد ذكرت منها كثيرا في آخر العواصم في أحاديث الرجاء ولولا خوف الاطالة لذكرتها هنا وكذلك ما جاء في من آمن بالله ورسله كقوله تعالى في الجنة أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ونظائرها مما ذكرته في العواصم ومثل قوله تعالى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ومثل أحاديث الشفاعة وقد تقدمت الاشارة إلى تواتر معنى ذلك في مسألة الوعد والوعيد في هذا المختصر وبسطتها في العواصم فقاربت خمسمائة حديث مع ما في القرآن العظيم مما يغني عنها لو لم ترد
ويشهد لها بعد ورودها على ما قدرته في العواصم في الكلام على قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فهم الصحابة للبشرى فيها وفرحهم بها وإقرار المتأولين لها برواية ذلك عنهم وذلك يدل على عدم تأويلها ومنهم علي عليه السلام وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وقد جودت الكلام عليها هنالك بحمد الله وحسن هدايته وتوفيقه
ومن ذلك ما جاء فيمن أقام الاركان الخمسة ونحو هذه الأمور وهي أنواع كثيرة جدا معناها متواتر ضروري معارض لما يفهم منه تكفير المبتدعة من هذه الأمور ومن أقبح التكفير ما كان منه مستند إلى وجه ينكره المخالف من أهل المذهب مثل تكفير أبي الحسين وأصحابه بنفي علم الغيب وهم ينكرونه وتكفير الاشعرية بالجبر الخالص الذي هو قول الجهمية الجبرية وهم ينكرونه والله تعالى يقول ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمنا
ومن العجب أن الخصوم من البهاشمة وغيرهم لم يساعدوا على تكفير النصارى الذي قالوا إن الله ثالث ثلاثة ومن قال بقولهم مع نص القرآن على كفرهم إلا بشرط أن يعتقدوا ذلك مع القول وعارضوا هذه الآية الظاهرة بعموم مفهوم قوله ولكن من شرح بالكفر صدرا كما سيأتي بيانه وضعفه مع وضوح الآية الكريمة في الكفر بالقول عضدها حديثان (1/379)
صحيحان كما احتج بهما الامام المنصور بالله عليه السلام حديث ع عن ثابت بن الضحاك من حلف بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال وحديث مس دق على شرط م عن بريدة من حلف قال إني بريء من الاسلام فان كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الاسلام سالما وعن أنس سمع رسول الله وآله رجلا يقول أنا إذا يهودي فقال وجبت وعن ابن عمر قال وآله من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك وفي مجمع الزوائد لذلك شواهد وفي النسائي عن سعد أنه حلف وهو قريب عهد بالجالية فقال واللات والعزى فقال له أصحاب رسول الله وآله ما نراك إلا قد كفرت فسأل النبي وآله فأمره أن يشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات ثم لا يعود إلى ذلك وهذا أمر بتجديد الاسلام ثم لم يرضوا بجميع ما ذكرنا معارضا لما استنبطوه فتأمل ذلك وعلى هذا لا يكون شيء من الافعال والاقوال كفرا إلا مع الاعتقاد حتى قتل الأنبياء والاعتقاد من السرائر المحجوبة فلا يتحقق كفر كافر قط إلا بالنص الخاص في شخص شخص ولا يدل حرب الانبياء على ذلك لاحتمال أن يكون على الظاهر كقوله فمن حكمت له بمال أخيه فانما أقطع له قطعة من النار
ومع نكارة هذا فالملجئ اليه عموم مفهوم ظني ضعيف يأتي وقد مر اختيار الامام يحيى وأبي الحسين والرازي في ذلك ونكل وهو قول الطبق الادهم من السلف وعلماء الاسلام وأهل الاثار كما رواه السيد أبو عبد الله الحسني في كتابه الجامع الكافي عن محمد بن منصور الكوفي عن سلف أهل البيت عليهم السلام وغيرهم وصنف فيه كتاب الجملة والالفة وهو قول الامام السيد المؤيد بالله في الجبرية نص عليه في آخر كتاب الزيادات
ومذهب السلف الصالح في ذلك هو المختار مع أمرين أحدهما القطع بقبح البدعة والانكار لها والانكار على أهلها وثانيهما عدم الانكار على من كفر كثيرا منهم فانا لا نقطع بعدم كفر بعضهم ممن فحشت بدعته بل نقف في ذلك ولكل علمه والحكم فيه إلى الله سبحانه وذلك لوجوه
الوجه الأول خوف الخطأ العظيم في ذلك فقد صح عن رسول الله (1/380)
وآله تعظيم ذلك بل تواتر ذلك لأهل البحث عن طرق الحديث حتى تواتر أنه كفر روى ذلك عن رسول الله وآله أبو ذر وأبو هريرة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبو سعيد الخدري خمستهم عن رسول الله وآله مع كثرة الطرق عنهم من غير ما لحديثهم من الشواهد الجمة بألفاظ مختلفة مثل ما ورد في الخوارج والروافض وهذا بيان طرف يسير على جهة الاختصار الكثير فنقول
أما حديث أبي ذر فرواه البخاري ومسلم ولفظه ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه أي رجع وأما حديث أبي هريرة فرواه البخاري ولفظه إذا قال المسلم لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما وأما حديث ابن عمر فرواه البخاري ومسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح ولفظه مثل لفظ حديث أبي هريرة وأما حديث عبد الله بن مسعود فرواه الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد ولفظه ما من مسلمين إلا وبينهما ستر من الله فاذا قال أحدهما لصاحبه هجرا هتك الله ستره وإذا قال يا كافر فقد كفر أحدهما قال الهيثمي رواه الطبراني والبزار باختصار من حديث يزيد بن أبي زياد وحديثه حسن ورجاله ثقات قلت يزيد هذا أحد علماء الكوفة المشاهير وهو من رجال السنن الاربعة وممن قواه شعبة على تعنته في الرجال وبالغ حتى قال لا يبالي إذا سمع الحديث منه ألا سمعه من سواه وقال ابن فضيل هو من أئمة الشيعة الكبار وأما حديث أبي سعيد الخدري في ذلك فرواه ابن حبان في صحيحه وذكره الحافظ ابن حجر في كتابه التلخيص الخبير وسيأتي حديث عن ابن عمر مرفوع نحو هذا ولكن بغير هذا اللفظ قال النووي في شرح مسلم وروى أبو عوانة حديث ابن عمر المتقدم فقال إن كان كما قال والاباء بالكفر وفي رواية فقد وجب الكفر على أحدهما اه
وأما شواهد هذه الاحاديث الخمسة بغير لفظها فكثيرة متواترة منها أحاديث مروق الخوارج من الاسلام وكان دينهم الذي اختصوا به من بين الداخلين في الفتن هو تكفير بعض المسلمين بما حسبوه كفرا فوردت الاحاديث بمروقهم بذلك وتواترت وهي في دواوين الاسلام الستة عن علي (1/381)