أشياء كثيرة منها قوله تعالى في الوالدين المشركين بالله وصاحبهما في الدنيا معروفا ومنها قوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء بعد آيات التحريم رواه أحمد والبزار والواحدي وتأخرهما واضح في سياق الآيات وقرينة الحال مع هذا الحديث ومع حديث ابن عمر الآتي ولو لم يصح تأخر ذلك في هذين الحديثين وغيرهما فالخاص مقدم على العام عند جهل التاريخ عند الجمهور ورجحه ابن رشيد في نهايته بالنصوصية على ما هو خاص فيه ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليها من حديث علي عليه السلام في قصة حاطب على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعا فان رسول الله وآله قبل عذره بالخوف على أهله في مكة والتقية بما لا يضر في ظنه
فان قيل القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره
قلت إنما قبل عذره في بقائه على الايمان وعدم موالاة المشركين لشركهم ولذلك خاطبه الله بالايمان فقال يا أيها الذين آمنوا والعموم نص في سببه فاتفق القرآن والحديث وأما ذنبه فانه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا باذن أميرهم لقوله تعالى وإذا جاءهم أمر من الخوف أو الأمن إذاعوا به الآية ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع ومع إذنه يجوز فقد أذن في أكثر من ذلك لرسول الله وآله حيلة في حفظ المال فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه وآله فدل (1/372)
على أن ذنب حاطب هو الكتم لما فيه من الخيانة لأنفس الفعل لو تجرد من الكتم والخيانة والله أعلم
ويدل عليه قوله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم وقوله تعالى فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون فأمره بالبراءة من عملهم القبيح لا منهم وكذلك تبرأ النبي وآله مما فعل خالد بن الوليد ولم يبرأ منه بل لم يعزله من امارته ولأن الله تعالى علل تحريم الاستغفار للمشركين بقوله من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم فكل ذنب يستغفر أو نحو ذلك فيه لم تلزم لذنب الشرك في ذلك حتى احتج بها بعضهم على جواز الاستغفار للمشركين قبل أن يموتوا على الشرك وتأولوا عليه حديث اللهم اغفر لقومي فانهم كانوا جاهلين وهو في خ م وحديثا آخر لعلي عليه السلام في تأويل استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه كذلك رواه أحمد ويدل عليه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم عن ابن عباس هم الذين منعهم أهلهم عن الهجرة لما هاجروا ورأوا الناس قد فقهوا هموا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم ومن قال كانوا مشركين فليس بشيء لأنها مدنية وقد كان حرم نكاح الكوافر وفيه نظر ويدل عليه ما تقدم في حديث الحب على شيء من الجور والبغض على شيء من العدل ويدل عليه جواز نكاح الفاسقة بغير الزنا وفاقا ونكاح الكتابية عند الجمهور وظاهر القرآن يدل عليه وفعل الصحابة ومنه امرأة نوح وامرأة لوط وقوله للكفار هؤلاء بناتي هن أطهر لكم
ومن ها هنا أجاز المشددون في الولاء والبراء أن يحب العاصي لخصلة خير فيه ولو كافرا كأبي طالب في أحد القولين وعلى الآخر حب النبي وآله له قبل إسلامه وهو مذهب الهادوية ويدل لهم في المسلم حديث شارب الخمر الذي نهى النبي وآله عن سبه بعد حده وقال لا تعينوا (1/373)
الشيطان على أخيكم أما أنه يحب الله ورسوله رواه البخاري وكذلك حديث ضمضم عن أبي هريرة في المتآخيين المجتهد في العبادة والمسرف على نفسه كما تقدم في المسألة السابعة بل يدل عليه في حق أهل الاسلام قوله تعالى وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده فجعل الايمان بالله وحده غاية ينقطع عندها وجوب العداوة والبغضاء ومنه استئذانه وآله في زيارة قبري والديه وزيارته لهما وشفاعة إبراهيم لأبيه فان الباعث على تخصيصهم بذلك هو الحب للرحامة ومنه فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ولعلك باخع نفسك لشدة شفقته ورفقه ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه قال كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء قال يعني النبي وآله اني ادخرت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا بعد ورجونا رواه في مجمع الزوائد في موضعين من خمس طرق أحدها صحيح وله شاهد عن ابن مسعود بل أحاديث الشفاعة المتواترة تشهد له والله أعلم
فيه وفي آية الممتحنة فائدة نفيسة هي أن ذلك آخر الامرين إن روى ما يعارض هذه الأدلة وقد ذكرت في العواصم أدلة كثيرة على تأخر ذلك في أول مسألة الوعد والوعيد وهي مفيدة جدا ثم وجدته قد ذكره النووي وقواه في شرح مسلم ويعضده ما نص عليه من العفو عمن فر يوم أحد ومن حديث أهل الافك إلا الذي تولى كبره منهم لأنه عبد الله بن أبي بن سلول وهو منافق ومنه حديث مسطح ونزول الآية فيه ومنه تحريم المشاحنة والمهاجرة بل جعلها كالشرك في منع المغفرة للمتهاجرين حتى يصطلحا كما صح ذلك من حديث أبي هريرة وله شواهد كثير عن أبي بكر وعوف بن مالك وعبد الله بن عمر ومعاذ وأبي ثعلبة وأسامة وابن مسعود وجابر ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد في شحناء الرجل على أخيه والاخ يطلق على المسلم لقوله تعالى فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي إلى قوله إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم فسمى الباغي أخا ولقول رسول الله وآله في المحدود (1/374)
في الخمر لا تعينوا الشيطان على أخيكم كما تقدم ولأن العمل بذلك في أحاديث الشحناء وحقوق المسلم على المسلم هو الأظهر والأحوط ما لم يؤد إلى الفساد في الدين والتهوين لمعاصي رب العالمين ويخرج من هذا أهل النفاق بالنصوص والاجماع فلذلك قال أهل السنة تجب كراهة ذنب المذنب العاصي ولا تجب كراهة المسلم نفسه بل يجب لاسلامه قلت حبا لا يوقع في معصية ولا يؤدي إلى مفسدة ويكره ذنبه وهو قول أحمد بن عيسى من أهل البيت ذكر معناه عنه صاحب الجامع الكافي في ولاية علي عليه أفضل السلام
الفرع الثاني أن يسير الاختلاف لا يوجب التعادي بين المؤمنين وهو ما وقع في غير المعلومات القطعية من الدين التي دل الدليل على تكفير من خالف فيها والاصل في الامور المختلف فيها هو عدم العلم الضروري الذي يكفر المخالف فيه حتى يدل الدليل على ذلك وفي إثبات مسائل قطعية شرعية لا ظنية ولا ضرورية خلاف والصحيح أنه لا واسطة بينهما مثلما أنه لا واسطة بين التواتر والظن في الاخبار وفاقا وعلى هذا نقل التكفير والتأثيم والذي يدل على أنه معفو عن يسير الاختلاف وجوه
أحدها أنه وقع بين الملائكة عليهم السلام قال تعالى ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون وفي حديث البخاري ومسلم عن الخدري في حديث القاتل مائة نفس أنها اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى أرسل الله ملكا يحكم بينهم
وثانيها ثبت في كتاب الله تعالى حكاية الاختلاف بين موسى والخضر وبين موسى وهارون وبين داود وسليمان وهو صريح ما نحن فيه لأن اختلافهما في حادثة واحدة في وقت واحد في شريعة واحدة
وثالثها ما رواه ابن مسعود قال سمعت رجلا قرأ آية وسمعت رسول الله وآله يقرأ خلافها فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهة فقال كلاكما محسن ولا تختلفوا فان من قبلكم اختلفوا فهلكوا (1/375)
رواه البخاري والنسائي وعن عمر بن الخطاب مثله في قضيته مع هشام بن حكيم رواه الجماعة كلهم ولهذا المعنى طرق جمة تقتضي تواتره ذكرتها في العواصم وفي خ م س عن جندب مرفوعا اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فاذا اختلفتم فقوموا عنه فهذا الخلاف الذي نهى عنه وحذر منه الهلاك هو التعادي فأما الاختلاف بغير تعاد فقد أقرهم عليه ألا تراه قال لابن مسعود كلاكما محسن حين أخبره باختلافهما في القراءة ثم حذرهم من الاختلاف بعد الحكم باحسانهما في ذلك الاختلاف فالاختلاف المحذر منه غير الاختلاف المحسن به منهما فالمحذر منه التباغض والتعادي والتكاذب المؤدي إلى فساد ذات البين وضعف الاسلام وظهور أعدائه على أهله والمحسن هو عمل كل أحد بما علم مع عدم المعاداة لمخالفة والطعن عليه وعلى ذلك درج السلف الصالح من أهل البيت والصحابة والتابعين وصنف محمد بن منصور في هذا كتاب الحملة والالفة وحكى فيه عن قدماء المعتزلة التوالي مع الاختلاف في بعض العقائد بل حكى ذلك عن قدماء العترة أيضا وقد نقلت كلامه في ذلك بحروفه إلى مسألة القرآن من العواصم
الفرع الثالث في التكفير والتفسيق بالتأويل لأنه لا يفيد إلا الظن وفي التكفير بالتأويل أربعة أقوال الأول أنه لا كفر بالتأويل الثاني أنه يكفر به ولكن لا تجري عليهم أحكام الكفار في الدنيا الثالث أن أمرهم إلى الامام في الاحكام الرابع أنه كالكفر بالتصريح فيكون قتالهم إلى آحاد الناس على الصحيح في الكفار بالتصريح واختلف في كفار التأويل من هم على أربعة أقوال أيضا الأول أنهم من أهل القبلة الثاني من ذهب إلى مذهب وهو فيه مخطئ بشبهة يعلم بطلانها دلالة من الدين والصريح بخلافه الثالث من ذهب إلى الخطأ بشبهة والصريح بخلافه الرابع من ورد فيه عن رسول الله وآله أنه كافر والصريح بخلافه
واعلم أن أصل الكفر هو التكذيب المتعمد لشيء من كتب الله تعالى المعلومة أو لأحد من رسله عليهم السلام أو لشيء مما جاؤوا به إذا كان ذلك الأمر المكذب به معلوما بالضرورة من الدين ولا خلاف أن هذا القدر (1/376)