تعليقه على الخلاصة وقيل في توجيه ذلك أن معناه أنه لا خلاف أن الوعيد مشروط لكن عند الوعيدية أنه مشروط بعدم التوبة من المعاصي لا سواء وعند أهل السنة بعدم التوبة أو عدم العفو وعند المرجئة بعدم الاسلام ولا قائل منهم بتجويز الكذب ألا ترى أن علماء التفسير وعلماء الاسلام قد يختلفون في بعض ما أخبر الله عنه أنه يفعله لاختلافهم في توقف ذلك الخبر على شرط منفصل كما اختلفوا في انزال المائدة مع قوله تعالى إني منزلها عليكم من غير تجويز كذب على الله تعالى كما اشتملت عليه كتب التفسير والله تعالى أعلم بل قد وعد الله الداعين بالاجابة في كتابه ووردت السنة بشروط في ذلك منها أن لا يعجل الداعي ويقول قد دعوت فلم أجب ونحو ذلك
وكذلك أجمعوا على أن الوعد يتوقف على شرط في كثير كوعد من أقرض الله قرضا حسنا بالمغفرة والمضاعفة فانه لابد فيه من شرط الموت على الاسلام اجماعا فلذلك لم يكن القول بتوقيف الوعيد على شرط منفصل كفرا لأنه ليس فيه نسبة قبيح إلى الله تعالى
ويدل على قول أهل السنة أن الوعيد مشروط بعدم التوبة وعدم العفو جميعا قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وهي أخص من قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به وأبين فيجب تقييدها بعدم العفو مثل تقييدها بعدم التوبة سواء وخاصة مع ما ورد بتفسيرها بذلك من حديث علي عليه السلام وفي تفسير من يعمل سوءا يجز به من حديث أبي بكر رضي الله عنه وما صح وتواتر من قول الله تعالى الحسنة بعشرة أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو والله أعلم
وممن روى عنه الارجاء من المعتزلة في كتب المعتزلة محمد بن شبيب وغيلان الدمشقي رأس الاعتزال ومويس بن عمران وأبو شمر وصالح قبه والرقاشي واسمه الفضل بن عيسى والصالحي واسمه صالح بن عمرو والخالدي وغيرهم ذكرهم القاضي في تعليق الخلاصة وزاد الشهرستاني (1/367)
مع هؤلاء من المعتزلة بشار بن عتاب المريسي والغياثي وقال القاضي في تعدادهم ومن الفقهاء القائلين بالعدل سعيد بن جبير وحماد بن سليمان وأبو حنيفة وأصحابه وأبو القاسم البستي من أصحاب المؤيد بالله وهو مذهب الامام الداعي إلى الله تعالى من أئمة الزيدية ذهب اليه واعترض عليه به
ورواه عنه السيد صلاح ابن الجلال رحمه الله تعالى وكذلك غير الامام الداعي من الزيدية مثل الفقيه محمد بن حسن السودي الصالح والسيد العلامة داود بن يحيى والفقيه العلامة علي بن عبد الله بن أبي الخير وغيرهم ممن عاصرته وأدركته
وفي الجامع الكافي على مذهب الزيدية عن محمد بن منصور في هذه المسألة أنه قال المؤمن المذنب لله تعالى فيه المشيئة إن غفر له فبفضله وإن عذبه فبعدله قلت فهذا رجاء لا ارجاء والرجاء مذهب أهل السنة والسلف وفي كتب الرجال نسبة الارجاء المذموم إلى جماعة من رجال البخاري ومسلم وغيرهما من الثقات الرفعاء منهم ذر بن عبد الله الهمداني أبو عمرو التابعي حديثه في كتب الجماعة كلهم وقال أحمد هو أول من تكلم في الارجاء وأيوب بن عائذ الطائي حديثه خ م ت د وسالم بن عجلان الافطس في خ د س ق وكان داعية إلى الارجاء وشبابة بن سوار أبو عمرو المديني وكان داعية وقيل أنه رجع عنه وابن عبد الرحمن أبو يحيى الحماني الكوفي حديثه عند خ م ت ق وكان داعية إلى ذلك وعثمان بن غياث الراسبي البصري في خ م د س وعمرو بن ذر الهمذاني الكوفي من كبار الزهاد والحافظ وكان رأسا في الارجاء حديثه في خ ت د س وعمرو بن مرة الجملي أحد الاثبات من كبار التابعين حديثه عند الجماعة كلهم وابراهيم بن طهمان الخراساني أحد الائمة حديثه عندهم وقيل رجع ومحمد بن خازم أبو معاوية الضرير أثبت أصحاب الاعمش حديثه عندهم وورقاء بن عمرو الكوفي اليشكري حديثه عندهم ويحيى بن صالح الوحاظي الحمصي حديثه عند خ م ت د ق وعبد العزيز بن أبي رواد الحمصي خرج له الاربعة واستشهد به البخاري فهؤلاء ممن ذكره ابن حجر في مقدمة شرح البخاري والذهبي في الميزان فكيف لو تتبع سائر الرواة من كتب الرجال الحافلة فلقد ذكر الذهبي في ترجمة هشام ابن (1/368)
حسان من الميزان على هدبة بن خالد أحد رجال البخاري ومسلم أنه يقول عن شعبة بن الحجاج على جلالته أنه يرى الارجاء دع عنك الرجاء بل ذكر الذهبي في ترجمة الفضل بن دكين عن ابن معين أن الفضل إذا قال في رجل كان مرجئا فانه صاحب سنة لا بأس به وإذا أثنى على رجل أنه جيد فهو شيعي قال الذهبي هذا القول من يحيى يدل على أنه كان مائلا إلى الارجاء وهو خير من القدر بكثير
قلت وهو يحتمل ان ابن معين يعني أن الفضل كان يسمي الرجاء ارجاء تحاملا على أهل السنة أو عدم معرفة بالفرق بينهما كما هو عمل كثير من المتأخرين بل هذا الاحتمال أقوى والالزم أن يكون ابن معين يعتقد أن الارجاء مذهب أهل السنة كلهم وهذا باطل بالضرورة فقد رد كل واحد من أهل دواوين الاسلام الستة على المرجئة في كتبهم المشهورة
وأما أول من تكلم فيه فقيل ذر بن عبد الله كما تقدم عن أحمد وقيل الحسن بن محمد بن الحنفية كما في الملل والنحل وفي تهذيب المزي وفي غيرهما وفي البخاري ومسلم عن ابن مسعود ما يقتضي أنه تكلم فيه فان فيهما عنه قال رسول الله وآله كلمة وقلت الثانية قال من مات يشرك بالله دخل النار وقلت من مات لا يشر بالله دخل الجنة وفي رواية فيهما أنه يرفع ذلك إلى رسول الله وآله ذكرهما ابن الأثير في جامعه ونسب ذلك الشهرستاني إلى سعيد بن جبير وجماعة غير من ذكرت هنا والله أعلم من يصح عنه الارجاء ومن غلط عليه في تسمية الرجاء ارجاء فان الرجاء هو القول بان الله تعالى لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء على الاجمال في المغفور لهم لا في المغفور كما أوضحته في العواصم وجودت الكلام على هذه الآية في أكثر من كراس كبير
وأما الارجاء فهو القول بأن الله تعالى يغفر ما دون ذلك لأهل التوحيد قطعا وحملوا وحملوا الأحمال على أنه جاء لاخراج مغفرة الكبائر التي دون الشرك للمشركين فانه لو لم يجمل ذلك بالشرط المذكور لزم ذلك وزعموا أن بيان ذلك ورد في السنة وأن الخوف صحيح ولكن زعموا أنه لسوء الخاتمة (1/369)
وخوف الموت على غير الاسلام وهذا القول الذي قالوه اسراف في القول ويخاف منه أن يقوي جانب الامان كما أن قول الوعيدية يخاف منه أن يقوي جانب القنوط وخير الأمور أوساطها والذي جاء في السنة مما يقتضي مذهب الارجاء معارض بأحاديث الشفاعة وفيها التصريح بدخول عصاة الموحدين النار ثم بخروجهم منها بالشفاعة والجمع بينها وبين تلك الأحاديث مذكور في العواصم فقد جاءت هذه المسألة فيه في مجلد ونسأل الله تعالى أوفر حظ ونصيب من خوفه ورجائه وطاعته وفضله العظيم ورحمته الواسعة السابقة الغالبة التي كتبها على نفسه أنه هو الغفور الرحيم
المسألة الثامنة في الولاء والبراء والتكفير والتفسيق وما يتعلق بذلك على طريق الاختصار قال الله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون وهي من قواعد هذا الباب والدواعي إلى المحافظة عليه وقال تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون وصح بلا خلاف حديث المرء مع من أحب وشواهده وطرقه كثيرة
وفي سنن أبي داود من حديث أبي ذر مرفوعا أفضل الاعمال الحب في الله تعالى والبغض في الله تعالى وللحاكم من حديث عائشة مرفوعا الشرك في هذه الامة أخفى من دبيب النمل وأدناه أن يحب على شيء من الحور ويبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب والبغض رواه الحاكم في تفسير آل عمران من المستدرك وقال صحيح الاسناد وفي مسند البراء من مسند أحمد حدثنا اسماعيل هو ابن ابراهيم بن علية قال حدثنا ليث عن عمرو بن مرة عن معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء ابن عازب قال كنا جلوسا عند النبي وآله فقال أي عرى الاسلام (1/370)
أوثق قالوا الصلاة قال حسنة وما هي بها قالوا الزكاة قال حسنة وما هي بها قالوا صيام رمضان قال حسن وما هو به قالوا الحج قال حسن وما هو به قالوا الجهاد قال حسن وما هو به قال إن أوثق عرى الاسلام أن تحب في الله وتبغض في الله عز و جل
وفي هذا فروع مفيدة الاول أن هذا كله في الحب الذي هو في القلب وخالصة لأجل الدين وذلك للمؤمنين المتقين بالاجماع وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل اسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة كما يأتي وأما المخالفة والمنافعة وبذل المعروف وكظم الغيظ وحسن الخلق واكرام الضيف ونحو ذلك فيستحب بذله لجميع الخلق إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة فلا يبذل للعدو في حال الحرب كما اشارت اليه الآية لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين كما يأتي وأما التقية فتجوز للخائف من الظالمين القادرين وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز وهو المنافعة وربما عبر عنه بالمداهنة والمداراة والمخالفة وما كان من أمر الدين فهو الرباء الحرام ويأتي ما يدل على ذلك في الأدلة المذكورة في هذه المسألة
ومن كلام الامام الداعي إلى الله تعالى يحيى بن المحسن عليه السلام في الرسالة المخرسة لأهل المدرسة لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه لأن كثيرا من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك فتولى الناصر الكثير منهم وصلى بهم الجمعة جعفر الصادق وصلى الحسن السبط على جنائزهم وأقام علي بن موسى الرضا مع المأمون وكثر جماعته وتزوج ابنه محمد ابنة المأمون وغير ذلك والوجه فيه أن الفعل لا ظاهر له فتأويله ممكن وذكر الامام المهدي محمد بن المطهر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالاجماع هي موالاة الكافر لكفره والعاصي لمعصيته ونحو ذلك
قلت وهو كلام صحيح والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك (1/371)