وقال للآخر أكنت بي عالما أكنت على ما في يدي قادرا اذهبوا به إلى النار قال فوالذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أذهبت دنياه وآخرته اه . ويشهد له أحاديث ذم التألي على الله تعالى والنهي عن ذلك كما ذكره ابن الأثير في النهاية ويعضده الحديث الصحيح صدفة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
وقد جمعت في هذا المعنى مصنفا مفردا سميته قبول البشرى وشرط الاحتياط أن لا يكون فيه مخافة وفي القنوط واليأس من رحمة الله تعالى وتقنيط الناس منها مع نصه على أنها كالعلم في سعتها أعظم مخافة فامتنع أن يكون ذلك وما يستلزمه أو شيء منه أو يقاربه هو الاحوط خصوصا وقد ينتهي ذلك إلى الكفر في صورتين أحدهما أن يرد ذلك أحد بعد التواتر له ومعرفته بتواتره عنادا لخصمه ويقرب منه من يكذب مع تجويزه أنه صدر من رسول الله وآله فانه لا يؤمن مع صحته أن يكون كفرا على اعتبار الانتهاء كمن يستخف بمصحف وقد أخبر أنه مصحف وهو يجوز صدق من أخبره ولأن فيه مضارعة للاستهانة بأمر النبوة حين أقدم على التكذيب من غير ملجئ اليه مع تجويز أنه كلام رسول الله وآله ولذلك حرم تكذيب ما يجوز صدقه من أخبار أهل الكتاب لكن لا يقطع أنه كفر لا مكان أن يكون الحق اعتبار الابتداء دون الانتهاء أو يسامح فيه لعدم تحققه
الوجه الرابع أنه لو اعتبر الاحتياط على ما توهمه السائل لكان الاحوط هو مذهب الخوارج من الوعيدية لأنهم يجعلون الصغائر المتعمدة كبائر ويجعلون جميع المعاصي كفرا إلا لسهو ونحوه وبه فسروا الصغائر وبعضهم يستثنى من ذلك ما فيه حد لأن الكفر لا يجب معه حد لكن الأدلة قامت على بطلان قولهم والنصوص تواترت بمروقهم والامر بقتلهم فصح أن الأحوط اتباع البراهين الصحيحة دون مجرد التشديد (1/362)
أحاديث الرجاء في كتب أهل البيت وجميع فرق الاسلام كما تقدم واختلفت الملائكة فيها وكان الحق فيها مع ملائكة الرحمة كما مضي
الوجه السادس أن الرجاء شرع للمصلحة الدينية لا للمفسدة وما شرع للمصلحة الدينية لم يكن تركه أحوط وتلك المصلحة هي قوة دعاء الرغبة الممدوح في قوله تعالى ويدعوننا رغبا ورهبا وتضعيف مفسدة القنوط المذموم بالنص والاجماع وعدم الكبر على العصاة المذموم بالنص في تفسير الكبر والتخلق بأعدل الاخلاق وأدلها على الانصاف وهو تغليب الرجاء على الخوف في حق الغير وتغليب الخوف على الرجاء في حق النفس وهذا هو معظم المصلحة فيه وإنما يلزم الفساد لو عكسنا ذلك وجعلناه وسيلة إلي المعاصي وأما مع إثبات الخوف وترجيحه في حق النفس فهو سبب الصلاح للأخلاق والاعمال وسنة الانبياء والأولياء
بيان ذلك أن الخليل عليه السلام جادل عن قوم لوط على جهة الرجاء لفضل الله ورحمته لعله يمهلهم حتى يتوبوا اليه أو غير ذلك مما كان يسوغ ويحتمل في شريعته عليه السلام فمدحه الله تعالى بذلك وقال في ذلك إن إبراهيم لحليم أواه منيب مع خوفه على نفسه كما تقدم حيث قال والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ولم يقل والذي يغفر لي وكذلك قال عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا وكذالك قال عيسى عليه السلام فيمن أشرك بعبادة عيسى إن تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم وقال إبراهيم عليه السلام أيضا ومن عصاني فانك غفور رحيم فدل على أن سعة الرجاء للخلق مع التجويز لا تخالف الاحوط وأنه لا ذم فيه ولا شبهة لأنه لا أبعد من الذم والشبهة من مثل خليل الله وروحه عليهما السلام ولذلك قال علي عليه السلام الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم مكر الله تعالى
الوجه السابع : إن الرجاء مقتضي اسماء الله تعالى وممادحة الغالية السابقة المكتوبة الواجبة أسماء الرحمة المحكمة والفضل العظيم التي هي (1/363)
أم الكتاب والمقصود الأول باجماع الحكماء والسلف الصالح كما تقدم في إثبات حكمة الله تعالى وإن الخبر هو المراد لذاته والمراد الأول كما بسط في أواخر حادي الأرواح فينظر فيه فانه من أنفس المصنفات في ذلك والخوف إنما وجب لأمر عارض وهو خوف فساد العبد وغلبة هواه عليه فجعل وازعا له عنه أو صارفا ولذلك كره عند أمان المعصية عند النزع وترقب لقاء الله تعالى وقال وآله لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه فعلى قدر الخوف من الوقوع في المعاصي يحسن تقوية الخوف من العذاب ولا شك في غلبة الهوى للابتلاء فيجب تقوية الخوف واللجأ إلي الله تعالى في ذلك وهو نعم المعين
ثم إن هذه المسألة مما لا تجب معرفتها على كل مكلف لكن من عرف الحق فيما لا يجب لم يحل له جحده ولا يصح أن يسمى جحده احتياطا وإن كان قد سوغ كتمه في هذه المسألة في بعض المواضع حيث يخاف منه مفسدة كما ورد في بعض الاخبار ولا يجوز أن يقال أنه مفسدة مطلقا لأن ذلك يكون ردا على الله تعالى وعلى رسوله وآله وقد سمعه أصحابه والتابعون من أصحابه ولم يفسدوا به بل قد بشر بالجنة منهم جماعة بأسمائهم فلم يفسدوا بذلك فمن فسد فبسوء اختياره ونسبته لفساده إلي بشرى الله ورسوله وحسني أسمائه جناية أعظم من جنايته وذلك بمنزلة من يقول من الخوارج إن اثبات الصغائر مفسدة أو يمنزلة من يقول إن قبول التوبة مفسدة
فان قيل إن الرجاء يؤدي إلي تجويز أن الايمان قول بلا عمل وأن الجنة ترجى بغير استحقاق لها بالعمل ولاول مذموم عند الجمهور والثاني خلاف النص في قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون
فالجواب أن هذا غلط فاحش لأن القول من الاعمال نصا وإجماعا إذ لا خلاف معتبر إن النار لا تدخل بغير عمل ونصوص القرآن في ذلك لا تحصى وإن الشرك بالقول عمل موجب لعذاب النار فمن قال بذلك كيف يستطيع ان ينكر أن يكون التوحيد عملا مثل ما ان الشرك عمل هذا مع ما ورد في الحديث الصحيح أن لا إله إلا الله أفضل العمل وأجمعت (1/364)
الامة على ذلك حيث يموت من قالها عقيب قولها وعلى أنه لا يرد عليه هذا السؤال بل هو معلوم ضرورة من دين الإسلام وأما قول القائل أن الجنة لا تدخل ألا بالاستحقاق بالعمل بالنص فهذا كلام من لم يعرف النص لأن شرطه عدم الاشتراك والاشتراك في معنى الباء معلوم فقد تكون للثمن وللسبب وهو أولى هنا للحديث المتواتر ولتسمية الجنة فضل الله في كثير من الآيات كما بين في موضعه فالخلاف إذا في كيفية الجمع بين الآيات ونحوها (1/365)
فصل في ذكر من يقول بالرجاء ومن يقول بالارجاء والفرق بينهما
ثم إن القول بالرجاء مشهور في كل مذهب ذكره الحاكم في شرح العيون عن جماعة من المعتزلة وذكر أن المعتزلي ليس هو الذي لا يقول بذلك ونسب ما يقتضي ذلك إلى زيد بن علي عليه السلام في ترجمة له غير ترجمته المبسوطة وتقدم شهرة ذلك أو تواتره عن علي عليه السلام لروايته عنه من بضعة عشر طريقا
وفي تذكرة القاضي شرف الدين الحسن بن محمد النحوي عن زيد بن علي ما يدل على ذلك وهو قوله بالصلاة على الفاسق وفي اللمع في الصلاة على الملتبس حاله إن المصلي عليه يقول في الدعاء له اللهم إن كان محسنا فزده إحسانا وإن كان مسيئا فأنت أولى بالعفو عنه وهذا تجويز للعفو عنه بل تحسين له وترجيح لا يوافق قول الوعيدية بل هو عين الرجاء ولذلك اعترضه بعض الوعيدية المتأخرين وفي التذكرة أيضا أن الارجاء ليس بكفر ولا فسق ذكره حيث ذكر أن المبتدع بما لا يتضمن الكفر والفسق مقبول الشهادة ومثل ذلك بالارجاء مع أن الارجاء غير الرجاء فان الارجاء عند أهل السنة مذموم وإن لم يصح في ذمه حديث
وقال الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى في الكلام في التكفير في المسألة السابعة ما لفظه لم تكفر شيوخنا المرجئة لأنهم يوافقونهم في جميع قواعد الاسلام لكنهم قالوا عني الله بآيات الوعيد الكفرة دون بعض الفسقة أو التخويف دون التحقيق وإن ذلك ليس بكفر اه . وذكر نحو ذلك الحاكم في شرح العيون وذكره نحوه القاضي عبد الله بن حسن الدواري في (1/366)