ومنها قوله تعالى بعد ذكر المتقين والفراغ منه ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا
ومنها قوله تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن في أربع آيات فانها أخص وأبين من وصف المؤمنين بعمل الصالحات إذ لا يمكن إحاطة الواحد منهم بها كلها كما اعترف بها الزمخشري وإن المعنى في عملها عمل بعضها فأما قول الكوفيين إن من قد تكون زائدة في الاثبات فلا يقطع الرجاء لو سلم لأن الاكثر أنها فيه للتبعيض عند الجميع ومجرد تجويز أنها للتبعيض يوجب الرجاء لو كان نادرا كيف وهو الأكثر إذ لا يجوز القطع في موضع الاشتراك بغير قاطع فثبت الرجاء على كل تقدير ويعضده الوعد على الواحد منها كقوله تعالى ومن يوق شح نفسه و إن تقرضوا الله قرضا حسنا مع شهادة السنة لذلك مثل حديث أربعين خصلة وحديث اتقوا النار ولو بشق تمرة وقد بسط في العواصم
ومنها قوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وقد أوضحت هنالك وفي الاجادة أن الاستثناء من الشر للنقصان ومن الخير للزيادة لقوله في أهل الحسنى لهم الحسنى وزيادة وفي آية لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد وفي أخرى ويزيدهم من فضله
وفي دواوين الاسلام الصحاح من غير طريق يقول الله الحسنة بعشرة أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو رواه ابن عباس وأبو سعيد وأبو ذر وأبو رزين أربعتهم عن رسول الله وآله ولذلك قال الله تعالى بعد الاستثناء من خلود أهل الجنة عطاء غير مجذوذ فأشار إلى أن الاستثناء فيها للزيادة كما ثبت في سائر الآيات والأحاديث وكما (1/352)


قال بعد ذكر ثواب المؤمنين بالجنة ورضوان من الله أكبر ويشهد لذلك قوله تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله ولم يقل هنا إلا هو كما قال في كشف الضر وهذا من لطف هذا الباب وأوضح منه قوله تعالى ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ولم يقل ليجزي الصادقين إن شاء كما قال في العذاب وفي سورة الليل تخصيص الحسنى وهي الجنة بالوعد على التصديق بها والوعيد على التكذيب بها وفي الصحيح المتفق على صحته حديث لم تمسه النار إلا تحلة القسم وفيه مأخذ قوي في معرفة القدر المقسم عليه منه والله أعلم
ولهذا شواهد في القرآن والسنة يحصل بمجموعها قوة كثيرة ومما قيل أنه وقع من ذلك قصة يونس لقوله تعالى الا قوم يونس الآية والوقوع فرع الصحة وأدل منها فكم من ممكن لم يقع ولا يقع ويستحيل فيما وقع أن يكون غير ممكن وقد جود القرطبي الكلام في قصتهم في تذكرته وقال إن توبة الله عليهم محض التفضل لأنهم قد كانوا مضطرين إليها بمشاهدتهم العذاب الذي وعدهم به يونس صلوات الله وسلامه عليه والله سبحانه أعلم لكن يعارض ما ذكره قصة فرعون فانه لم يقبل إيمانه حينئذ بل قال الله تعالى له آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين
والحق أن الله لا يخلف الوعيد الا أن يكون استثنى فيه وليس كل من شاهد العذاب اضطر إلى الايمان لأنه قد يشك في أنه عذاب من الله أو من مصائب الدنيا كما كان من ابن نوح فانه قال بعد مشاهدة الغرق الخارق والوعيد به : سآوي إلي جبل يعصمني من الماء فدل علي (1/353)


اختلاف أحوال الخلق في ذلك وبعد فالاضطرار فعل الله تعالي بالاتفاق فلا ينكر أنه يفعله لبعض دون بعض
وأصح التفسير تفسير القرآن بالقرآن ثم بالحديث فاذا اجتمعا وكثرت الأحاديث وصحت كان ذلك نورا علي نور يهدي الله لنوره من يشاء وكل ذلك رجاء مقرون بالخوف مقطوع عن الامان لجهل الخواتم ولقوله تعالي لمن يشاء بعد قوله ويغفر ما دون ذلك ولقوله في الصالحين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون وفي آية إن عذاب ربك كان محذورا فلا يقتضي شيء من ذلك الاغراء والفساد لأن الشفاعة إنما هي شفاعة من النار بعد دخولها وذلك من أعظم الصوارف عن المعاصي مع ما يقع بسبب المعاصي في الدنيا والقبر ويوم القيامة من المؤاخذة علي ما شهدت به الآيات والأخبار وكفي بقوله تعالي في مصائد الدنيا وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وفي قراءة فبما كسبت أيديكم
وقد ذكرت في العواصم في التخويف أكثر من عشرين آية من كتاب الله تعالي مما يختص بعصاة المسلمين وذكرت هنالك أيضا حديثا كثيرا في التحذير من مكر الله وشديد عقابه أعاذنا الله منه وختمت بذلك الكلام في الرجاء كيلا يظن الجهال أن المقصود بالرجاء هو الامان والتفريط وتضييع الاعمال واطراح التقوي وقد جود الكلام في هذا المعني الشيخ العلامة الشهير بابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه الجواب الكافي فليطالع فانه مفيد جدا
والجمع بين الخوف والرجاء سنة الله وسنة رسله عليهم السلام وسنة دين الاسلام والاولي للانسان تغليب الخوف في حق نفسه إلا عند اقتراب الاجل الاقتراب الخاص أعني عند ظهور امارات الموت في المرض الشديد (1/354)


وإلا فالموت قريب غير بعيد وذلك لما صح أن الله تعالي يقول أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ولهذا الحديث لم يكن تقديم عمومات الوعيد أولي من تقديم خصوص آيات الرجاء وأحاديثه مع ما عضد هذا الحديث من نحو قول الملائكة عليهم السلام للخليل عليه السلام فلا تكن من القانطين وقوله في جوابهم ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون مع ما ورد في كتاب الله تعالي من شواهد ذلك كقوله تعالي يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون الذين لا يعلمون هذه الآية تفسير قوله إنما يخشي الله من عباده العلماء لأنه قصر الخشية عليهم حيث علموا الدار الآخرة دون الكافرين كما دل عليه أول الآية ولم يقصرهم علي الخشية دون الرجاء كما دل عليه وصفهم برجاء رحمة الله تعالي في غير آية وقوله تعالي لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وقوله تعالي أولئك يرجون رحمت لله والله غفور رحيم وقوله تعالي يرجون تجارة لن تبور وقوله تعالي مالكم لا ترجون لله وقارا وقوله تعالى والذين أطمع أن يغفر لى خطيئتي يوم الدين وقوله تعالي وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين إلي بما قالوا وقوله تعالى وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين فأكد الطمع بقوله إن رحمت الله قريب من المحسنين وهم المخلصون لإيمانهم من النفاق كما قرر في موضعه وقوله تعالى ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين فأكد الرهب بذكر الخشوع فبين أنه المقصود لا القنوط (1/355)


وقول الخليل عليه السلام ومن عصاني فانك غفور رحيم وقول عيسي عليه السلام وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم وفي الخوف أكثر من ذلك كقوله ولمن خاف مقام ربه جنتان وقوله تعالي ذلك لمن خشي ربه وقوله تعالى إنما يخشي الله من عباده العلماء وقوله تعالي في الملائكة يخافون ربهم من فوقهم وقوله تعالى في الصالحين إن عذاب ربهم غير مأمون وقوله تعالى وفي نسختها هدي ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وقول رسول الله وآله والله إني لأخشاكم لله وأمثال ذلك مما يطول ذكره
والجمع بين الرجاء والخوف من وجهين أحدهما أن يرجو حين يذكر صفات ربه ويخاف حين يذكر صفات نفسه لقوله تعالى من خشي الرحمن فسماه بالرحمن في حال خوفه وثانيهما أن يخاف على نفسه ويرجو لغيره وتأمل قول الخليل عليه السلام في خوفه على نفسه والذين أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ولم يقل والذي يغفر لي كما قال والذين هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين وكذا قوله عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا وقال عليه السلام في حق غيره ومن عصاني فانك غفور رحيم فانظر ما أشد خوفه على نفسه وأوسع رجاءه لغيره وهذا عكس ما عليه الاكثرون والله المستعان
فان قيل هذا الكتاب مبني على الاحتياط ومذهب الوعيدية أحوط فكيف لم تلتزمه في هذه المسألة
فالجواب أن الاحتياط باق مع الرجاء والخوف لوجهين أحدهما أن المفسدة إنما هي في الأمان لكن من لم يتأمل لم يفرق بين الامان والرجاء والفرق بينهما واضح ولذلك قيل من رجا خاف ومن خاف رجا ومن قديم ما قلت في هذا المعني هذه الأبيات (1/356)

70 / 83
ع
En
A+
A-