المحال ما صح سمع ولا عقل ولا كشف ولا نظر ولا علم شيء ألبتة وكأن هؤلاء القوم لم يفرقوا بين المحارة والمحال فأما من عرف ما هو المحال وجوزه لم يصح منه بعد ذلك دعوى أنه محق وأن خصمه مبطل أبدا لأنه لا يمنع من كون المحق مبطلا والمبطل محقا والتوحيد شركا والشرك توحيدا إلا كون ذلك محالا والمحال لا يقع ألبتة فمن فتح باب تجويز المحال لم يمتنع شيء من ذلك وانسد باب الانكار على كل كافر وجاحد ولم يبق فرق بين أعرف العارفين وأجن المجانين فيا عجبا كيف يدعي مثل هؤلاء مراتب العارفين ولا تغني عنهم دعوى دقة التفرقة بين العلم والظن فإن الفرق بينهما في الضروريات ضروري بل من الضرورة انقسام جميع ما يمكن الخبر عنه والاعتقاد له إلى ما جمع الجزم والمطابقة والثبات عند التشكيك وإلى ما لم يجمعها فالجامع لها هو العلم وإن اختل الثبات فاعتقاد مقلد المحق أو المطابقة فالاعتقاد الفاسد أو الجزم فمع الاستواء الشك ومع الرجحان الراجح الظن والمرجوح الوهم فعلمت كلها بالضرورة وإن اختلفت العبارات عنها فإن اختلاف اللغات والعبارات لا يحيل المعاني
خاتمة المقدمة
واعلم أن منكري العلوم لم ينازعوا في حسن العمل بها بل ولا في وجوبه فإنهم انتفعوا بالابصار وتوقوا بسببها الوقوع في الماء والنار وسائر المهلكات والأخطار
ومن عجائب ما يروى عنهم أن بعضهم صنف كتابا في نفي العلوم ومات له ولد قد قارب الحلم فقال إنه إنما أسف لموت ولده قبل أن يقرأ كتابه في نفي العلوم فقيل له وما يدريك أنه كان لك ولد وأنه مات وأنه لم يقرأ وإنك موجود وإنك صنفت كتابا فلم يدر ما يقول
ومن سخف هؤلاء لم يذكر الله سبحانه الرد عليهم في كتابه ولا رسله صلوات الله عليهم وإنما قدمت ذكرهم عبرة لك حتى لا تحتفل بوجود المخالفين للحق الجلي وتظن أنه لو كان حقا جليا لم يمكن أن يكون فيه مخالف عاقل بل مدع لمرتبة الكمال في الاسلام كنفاة جميع العلوم (1/39)
والأدلة عقلا وسمعا إلا من طريق الكشف ونفاة وجوب الرب والخلق إلا الوجود المطلق الذي هو ذات الأحد والحضرة الأحدية عندهم وما عداه من مراتب وجود الله وأسمائه الحسنى كلها وهي الحضرة الواحدية عندهم ووجود خلقه ملائكتهم ورسلهم وكتبهم وجنهم وانسهم والدنيا والآخرة كل ذلك خيال لا حقيقة له أبدا ما عدا الوجود المطلق الذي هو الأحد والحضرة الأحدية عندهم هو عدم محض لا وجود له إلا في اللفظ والذهن عند سائر المحققين من العقلاء فهو الموجود على الحقيقة عندهم وكل موجود عندهم ما عداه خيال منه كطيف الاحلام لكن أحب أن يرى نفسه فيه ونسبة كل شيء إليه نسبة صورة دحية إلى جبريل فهو هو من وجه وما هو هو من وجه فكذلك فليكن الضلال المبين وكفى في بيان ضلالهم فرقهم بين الاحد والواحد وبين الأحد وبين الله ولزوم قولهم لإلهين اثنين أحد حقيقي وواحد خيالي ولم يذكر هؤلاء الغزالي في الرد على الاتحادية في المقصد الاسنى لتأخر حدوث ضلالهم الفاحش نعوذ بالله من الغرور
فإذا تقرر أن اثبات العلوم هو الحق والاحوط وهو الذي عليه الشرائع والفطر وعمل الخلق وان الاضطرار إليه وإلى العمل به حاصل وإنه لا خطر في العمل بهذه العلوم عند جاحدها أيضا ثبت أن العمل بها نهج السلامة بغير شك ولا خلاف فهذا أولى خلاف تخلصت منه بطيبة نفس وأول حق واجب ظفرت بمعرفته لأن مخالف الحق هنا يكفر بانكار جميع المعارف الدينية المتعلقة بالقطع باثبات الربوبية والنبوات والشرائع الواجبات وهذا أيضا أول كفر نجوت برحمة الله منه والحمد لله رب العالمين وبعد ثبوت العلم نذكر شيئا من صحيح فضائله والترغيب فيه (1/40)
فصل من فضائل العلم النافع وأهله
فمن العقل أصل النجاة والسعادة إذ هو الداعي إلى أسباب الخير الصارف عن أسباب الشر ومن خصائصه اجماع العقلاء والملل والنحل على فضله وإنه تمدح به الخالق سبحانه وأنه سبحانه مدح عباده بما وهب لهم منه وفضل آدم عليه السلام بعلم الاسماء على الملائكة واختار تفضيله به على تفضيله بالعمل بكشف الشبهة عن ملائكته وإيضاح الحجة عليهم ولم يزهد فيه بل قال لأعلم خلقه وقل رب زدني علما وحتى فضل الكلاب المعلمة على غيرها فأحل صيدها وهو الذي صال به الهدهد على سليمان عليه السلام مع عظيم ملكه وقويت حجته مع ضعفه وحقارته حيث قال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سباء بنباء يقين ومن أعظم فضائله القرآنية تعليل خلق العالم به في قوله تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيئ علما ثم تعليل البعث في الدار الآخرة به في قوله تعالى وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ولذلك ذم الله من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وقال تعالى فإنها لا تعمي الابصار الآية وقال وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وقال ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وقال تعالى ولقد آتينا (1/41)
داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ومنه قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ومنه قصة موسى مع الخضر وقوله على أن تعلمن ورحلته إليه في نافلة العلم وعزمه على أن يمضي حقبا في طلب نافلته والحقب ثمانون سنة وذلك يشهد بصحة حديث عبد الله ابن عمر مرفوعا العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل الحديث خرجه أبو داود وابن ماجه ومنه قال الذي عنده علم من الكتاب
ومنه ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ومنه وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ومنه ووجدك ضالا فهدى ومنه ألم نشرح لك صدرك ومنه فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ومنه تشبيه العالم بالحي والنور والجاهل بالميت والظلمات ومنه هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ومنه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ومنه الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان ومنه الذي علم بالقلم ومنه وبشرناه بغلام حليم ومنه قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ومنه وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ومنه والملائكة وأولوا العلم ومنه والذين أوتوا العلم (1/42)
درجات ومنه ان في ذلك لآية لقوم يعلمون ومنه بل أنتم قوم تجهلون وشرف الشيء يؤخذ من خساسة ضده ومنه في موسى ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ومنه كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ومنه ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ومنه وزاده بسطة في العلم والجسم ومنه ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ومنه إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ومنه قول أهل النار لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ومنه ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا الآية إلى قوله هم الغافلون ومنه ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ومنه لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال حكاية عن ابراهيم واسماعيل ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم فهذه نيف وأربعون آية من محكم كتاب الله تعالى مع ما في السنة من ذلك فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أوفر عباده حظا من جميع مواهبه في العلم والعمل وهذا كله في العلم أنه هو الملك الوهاب المعطي من يشاء بغير (1/43)