ولا شك أن رسول الله وآله مبين لكتاب الله عز و جل أمين على تأويله وأن المرجع في بيان كتاب الله تعالى إلى السنة الصحيحة فليس في كتاب الله تعالى من تفاصيل الصلاة والزكاة والصوم والحج وأمثالها إلا اليسير ولا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول إما على جهة الجمع ولا شك في جوازه وصحته وحسنه والاجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الامة وخلفها بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح فان تعذر الجمع فالترجيح فان وضح عمل به وإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم ولذلك اخترت الوقف في حكم قاتل المؤمن بعد الانتصاف منه للمظلوم والقطع على أنه فاسق ملعون واجب قتله والبراءة منه والقطع أن جزاءه جهنم خالدا فيها كما قال الله تعالى على ما أراد وإنما وقفت في محل التعارض الذي أوضحته في العواصم لا على حسب ما قيل في أن الله تعالى في هذه الآية هل بين جزاءه الذي له أن يفعله إن شاء أو بين جزاءه الذي تخير له في تنجيزه حين لم يبق إلا حقه بعد استيفاء حق المظلوم المقتول والله سبحانه أعلم
فمن رجح الجمع بين وعيد القاتل وبين قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وسائر آيات الرجاء وأحاديثه قال بالاول ومن رجح وعيد القاتل في هذه الآية وفي الاحاديث المخصصة لقتل المؤمن بقطع الرجاء كما أوضحته في العواصم رجح وعيد القاتل ومن تعارضت عليه ولم ير في تنجيز الاعتقاد مصلحة ولا له موجبا ولا اليه ضرورة رجح الوقف والله عند لسان كل قائل ونيته
ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه وعليه عمل علماء الاسلام في أدلة الشريعة ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع واضطر إلى التحكم والتلون من غير حجة بينة وقد أجمع من يعتد به من المسلمين على تخصيص الصغائر من آيات الوعيد العامة على جميع المعاصي متى كان أهل الصغائر من المسلمين ولم يلزم من ذلك خلف في آيات الوعيد ولا كذب ولا تكذيب لشيء منها فكذلك (1/347)
سائر ما صح من أحاديث الرجاء ليس فيه مناقضة لعمومات آيات الوعيد ولا يستلزم تجويز الخلف على الله تعالى وذلك باب واحد ولذلك اشتهرت أحاديث الرجاء في عصر الصحابة والتابعين ولم ينكرها أحد بل رواتها أكابرهم وأئمتهم
وفي العواصم من ذلك عن علي عليه السلام بضعة عشر أثرا بل المخصصات للعمومات في ذلك قرآنية وعمومات الوعد مانعة قبل تخصيص الوعيد من الجزم على وقوع عمومه دون عموم الوعد على أن الخلف عند جماعات كثيرة لا يكون إلا عدم الوفاء بالوعد بالخير وأما الوعيد بالشر فقد اختلف في تركه وأجمعوا على أنه يسمى عفوا كما قال كعب ابن زهير
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
وإنما اختلفوا مع تسميته عفوا هل يسمى خلفا أم لا ومن منع من ذلك منع صحة النقل له لغة واحتج على امتناعه بأنه لا يصح اجتماع اسم مدح واسم ذم على مسمى واحد وقد تقدم زيادة في هذا في مسألة الحكمة فلينظر هناك
ويستثنى من هذا كل وعيد جعله الله تعالى نصر للانبياء والمؤمنين ووعدهم به فانه يكون حينئذ وعدا لا يجوز خلفه كما قال صالح عليه السلام لقومه تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ولذلك سماه وعدا
وأما قصة يونس عليه السلام فقد تقدم الكلام عليها في مسألة الحكمة وكذلك اختلفوا في قوله تعالى ما يبدل القول لدي هل هي خاصة فيمن نزلت فيه من الكفار وهل فيها شيء من ذلك لقوله تعالى انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (1/348)
أم لا فمن قال بعمومها لم ينظر إلى سبب نزولها في الكفار وجعلها كقوله تعالى وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ومن قصرها عليهم نظر إلى الجمع بين هاتين الآيتين وبين قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية وقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وخاصة إذا جوز أن نفي التبديل مقيد بيوم نقول لجهنم هل امتلأت وأنه ظرف له فهؤلاء فهموا من مجموع الآيات أن التبديل ينقسم إلى مذموم ومحمود فالمذموم ما كان من خير إلى شر والمحمود ما كان من شر إلى خير أو من خير إلى خير أفضل منه أو مثله وجعلوا العفو خيرا من العقوبة في حق المسلمين لما ورد في الاحاديث في هذا بعينه وفي من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها وأجمعت عليه الأمة في من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها
وينبغي هنا تحقيق النظر في الفرق بين الوعيد والخبر المحض عن الواقع في المستقبل وذلك أن الوعيد يحسن ممن لا يعلم الغيب بخلاف الخبر المحض وإذا لم يفعله لتوبة أو رحمة لم يعد في لغة العرب من الكذابين المذمومين فكيف إذا كان إنما بين مراده ولم يرجع عنه لأنه عند هؤلاء في خطاب المسخوطين خاصة كقول يوسف معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون ولو كان له رغبة في رحمتهم وإسعادهم وجد اليه السبيل والله سبحانه أعلم وأحكم
ومن أمثلة ذلك الحالف على أن لا يفعل ما يستحب فعله فان كان له حكمة مرجحة لتركه وهو يخفيها كان له في اليمين عذر وإن أحب أن يفعل المستحب كان له فيه المخرج ولله تعالى من ذلك كله أجمله وأحسنه وأكثره حمدا وثناء
وقد ذكرت في العواصم من أحاديث الرجاء المبينة للمراد في عمومات الوعيد أكثر من أربعمائة حديث من دواوين الاسلام المعروفة مع ما شهد لها من الآيات القرآنية ومن أعظمها بشرى حديث معاذ المتفق عليه وفيه (1/349)
أنه قال أفلا أبشر الناس قال دعهم يعملوا فدل على أنه على ظاهره وعلى أن جانب الرجاء مكتوم للمصلحة يوضحه حديث من مات له ثلاثة لم تمسه النار قالوا واثنان قال واثنان فقد كان أوهمهم بمفهوم العدد أن الرجاء يختص بالثلاثة ولم يبدأهم بالبشرى بالاثنين لمصلحة التخويف ومنه قوله في ذلك لم تسمه النار إلا تحلة القسم فدل على أن القدر الواجب المقسم عليه مجرد الورود في حق المسلمين ولله الحمد
ومن ذلك أحاديث خروج من دخل النار من الموحدين برحمة الله تعالى ثم بشفاعة رسول الله وآله وشفاعته من رحمة الله تعالى والذي حضرني الآن من الأحاديث المصرحة بخروجهم من النار أحاديث كثيرة جدا عن أكثر من عشرين من كبار أصحاب رسول الله وآله من ذلك في علوم آل محمد وآله عن علي بن أبي طالب عليه السلام في باب ما يقال بعد الصلاة وفي مسند أحمد عن أبي بكر رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وأبي هريرة وفي البخاري وحده عن عمران بن حصين وفي صحيح مسلم وحده عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وفي مستدرك الحاكم عن أبي موسى عشرتهم عن رسول الله وآله بذلك بألفاظ صريحة ضرورية لا تحتمل التأويل
وفي مجمع الزوائد مثل ذلك عن عشرة من الصحابة غير هؤلاء الذين ذكرتهم ذكرتهم في العواصم والتواتر يحصل بهذا بل بدون ذلك ولا يشترط في رجاله العدالة كيف وقد اجتمعا غالبا وما زالوا يروون ذلك في عهد رسول الله وآله وبعده لا ينكره منكر ولا يزجر عنه أحد ثم وافقهم جماعة كثيرة على هذا المعنى لكن بغير لفظ الخروج من النار وذلك كثير جدا منهم من روى أن الشفاعة نائلة من مات لا يشرك بالله شيئا كعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبي ذر الغفاري وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك وأبي هريرة وابن عباس ومعاذ وأبي موسى وأنس وأبي أيوب وأبي سعيد ومنهم من روى حديث شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي كما ثبت ذلك من حديث جابر بن عبد الله (1/350)
وأنس بن مالك وابن عمرو رواه الحاكم في المستدرك من حديث جعفر ابن محمد الصادق عن أبيه الباقر عن جابر وفي حديث ابن عمر حرب بن شريح وثقه جماعة وفيه خلاف يسير ينجبر بالشواهد وروى عنه نحو ذلك بغير لفظه من طريق النعمان بن قراد وهو ثقة رواهما الهيثمي في مجمعه ولفظ حديث النعمان أن شفاعتي ليست للمؤمنين المتقين لكنها للمذنبين الخاطئين المتلوثين وروى الهيثمي نحو ذلك عن أم سلمة وعبد الله ابن بسر وأبي أمامة ومنهم من روى أن الله يفدي كل مسلم بكافر كما رواه مسلم من حديث أبي موسى بأسانيد على شرط الجماعة
ومن ذلك ما ورد فيمن كان آخر كلامه لا أله إلا الله وقد تقصاها الحافظ ابن حجر في تلخيصه في كتاب الجنائز ثم ما ورد في الرجاء لأهل الأمراض والفقر والمصائب وفي موت الاولاد والاصفياء وفي هذا النوع وحده عن ثمانية عشر صحابيا ثم ما جاء في فضائل الايمان والاسلام والوضوء والصلوات والصدقة والصلة والجهاد والشهادة والاذكار وسائر الاعمال الصالحة مع ما شهد لذلك من سعة رحمة الله تعالى المنصوصة في الكتاب والسنة وأنها الموجبة دخول الجنة لا العمل في أربعة عشر حديثا ويشهد لها أن الله تعالى سمى الجنة فضله في غير آية وأن المائة الرحمة أعدت ليوم القيامة في عشرة أحاديث ويشهد لها قوله تعالى كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه وما دل على جواز ورود ذلك من آيات القرآن الكريم وهي أنواع كثيرة
منها قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وهي أبين آية في الوعد والوعيد وقد جودت الكلام عليها في العواصم بحمد الله تعالى (1/351)