أن يمكنها من مفارقه ما نهاها عنه كما ذكره وابن عباس رضي الله عنه في تكليف الواحد بقتال عشرة أنهم لو صبروا عليها لطوقوها رواه البخاري ولو سلمنا أن ظاهر التحريم توجه إلى ما لا يطاق لوجب تأويله لوضوحه لأنه متشابه على ما يوافق المحكم الذي هو أم الكتاب كما ثبت في تحريم النياحة أنه لا يؤاخذ بما كان من العين والقلب فثبت أن سلمنا أنه للتحريم أن المراد النهي عن الاسترسال مع الطبيعة البشرية ومقابلتها ومدافعتها بما علمنا الله تعالى من نحو قوله وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وتذكير عظيم ثوابه وخفي ألطافه وصدق مواعيده وأنه كاشف الكروب علام الغيوب وما يحصل به الرضا لدون أم موسى
وقد ذكر بعض المفسرين نحو هذا الوجه الثالث في تفسير خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون فقال أنهم أقدروا ومكنوا من مدافعه الطبيعة المخلوقة فلذلك نهوا عن الاستعجال وقد خلقوا على هذه الطبيعة كما أن المخلوق على طبع الشح مأمور باخراج الزكاة ممكن من ذلك فانه يتصرف في شهواته أضعافها
وإنما ذكرت مثل هذه الأشياء على جهة التقرب إلى الله وإلا فجوابها لا يخفى على أهل الممارسة للجمع بين المتعارضات ورد الفروع الى الأصول والمظنون إلى المعلوم (1/338)
ومن العجب صدور هذا من قوم تعلموا صنعة الكلام وحذق الجدل لكي يجيدوا في الذب عن الاسلام ويفحموا الملاحدة الطغام وتسموا بالسنية واتسموا بحماتها من أهل البدعة فسلموا لاعداء الاسلام نسبة كل قبيح مذموم إلى الله تعالى وأنه منه لا من غيره وإن ذلك وجميع أفعاله صدرت منه لغير حكمة ولا عاقبة حميدة وأنه لا يعاقب العصاة لأجل المعصية ولا يثيب المحسنين لأجل الاحسان بل تصدر أفعاله عنه كما تصدر المعلولات عن عللها الموجبة لها وإلاتفاقيات الاختياريات من الصبيان والمجانين وإنه قد وقع منه تكليف المحال وإنه ليس هو أولى به من تكليف الممكن وأمثال هذا مما لم تكن الملاحدة تطمع أن يمضي لهم طرفة عين فقد صار ذلك من آكد عقائد هؤلاء الحماة عن السنة والاسلام يوصون به في (1/0)
المختصرات عموم المسلمين فيوهمون أن ذلك من أركان الاسلام فلولا أن هذا قد وقع منهم ما كان العاقل يصدق بوقوعه ممن هو دونهم فنسأل الله تعالى العافية
وإنما أوضحت هذا الكلام أيها السنى لتغتبط بعلم القرآن والاثر ولتصونه عن شوبه بأمثال هذا من بدع أهل الدعاوى للحذق في النظر فقد صارت أقوالهم في الركة أمثالا وعبرا لمن اعتبر وجميع ما يرد على هذا من الأسئلة وأجوبتها تقدم في المسألة الأولى في إثبات حكمة الله تعالى فخذه إن احتجت اليه والحمد لله رب العالمين
خاتمة تشتمل على فائدة نفيسة
وهي أن هذه المسألة وأمثالها مما بالغت في نصرته مثل اثبات حكمة الله تعالى وتعظيم قدرته عز و جل من قبيل الثناء الحسن بحيث لو قدرنا الخطأ في شيء منها ما كان يخاف منه الكفر والعذاب قطعا وأما أضدادها فانه يخاف ذلك عند تقدير الخطأ فيها لاستلزامها ما لا يجوز على الله تعالى من النقص المضاد لاسمائه الحسنى التي هي جمع تأنيث الاحسن من كل ثناء لا جمع تانيث الحسن كما مر تقريره فاعرض هذه الفائدة النفيسة على كل عقيدة لك وشد عليها يديك في كل ما لم يعارض المعلوم ضرورة من الدين والله الموفق والهادي إلى الصواب
المسألة الخامسة أن الله تعالى لا يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم ولا بغير ذنب وهذه من فروع اثبات الحكمة وهي أخت التي قبلها وهو مذهب جماهير الاسلام بل لم يعرف فيه خلاف بين السلف فانهم كانوا مجمعين على عدل الله تعالى وحكمته في الجملة والاجماع على ذلك يتقضي المنع من كل ما يضاده وممن صرح باختيار هذا البخاري في صحيحه والنووي في شرح مسلم وقواه واحتج عليه ونسبه إلى المحققين وكذلك اختاره علي بن عبد الكافي الشهير بالسبكي في كتاب جمعه في هذه المسألة وهما من عيون أئمة السنة والطائفة الشافعية وكذلك اختار ذلك العلامة أبو (1/339)
عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد وهو من أئمة السنة واختاره غير واحد منهم دع عنك خصومهم في ذلك من الشيعة والمعتزلة
واحتج النووي وغيره على ذلك بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وبما رواه البخاري في صحيحه عن سمرة في حديثه الطويل وفيه ذكر رؤيا النبي وآله وفيها ما لفظه والشيخ في أصل الشجرة ابراهيم عليه السلام والصبيان حوله أولاد قالوا يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين وهذا نص في موضع النزاع من أصح كتب الاسلام عند أئمة الحديث وأما كونه رؤيا فلا يضر لوجهين أحدهما أن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي وحق ولذلك عزم الخليل عليه السلام على ذبح ولده بسببها وهذا إجماع وثانيهما أن هذا السؤال عن أولاد المشركين وجوابه كان في اليقظة لا في الرؤيا
وقد أوضحت في العواصم أنه لم يصح في تعذيب الأطفال بغير ذنب منهم حديث قط ولا صح ذلك عمن ينظر اليه من أئمة السنة وإنما قالت طوائف منهم بأقوال محتملة منها أن الله تعالى يكمل عقول الصبيان ويكلفهم في عرصة من عرصات يوم القيامة بتكيلف يناسب ذلك اليوم مثل ما روى أنه يخرج لهم عنقا من النار فيأمرهم بورودها فمن كان سعيدا في علم الله تعالى لو أدرك العمل وردها فكانت عليه بردا وسلاما ومن كان شقيا في علم الله تعالى لو أدرك العمل امتنع وعصى فيقول الله تعالى لهم عصيتموني اليوم كيف رسلي لو أتتكم أو كما ورد
وسبب مصير من صار منهم إلى هذا القول أحاديث كثيرة وردت بذلك منها عن أبي سعيد وأنس ومعاذ والاسود بن سريع وأبي هريرة وثوبان وروى ذلك أيضا أحمد بن عيسى بن زيد بن علي عليه السلام عن جده زيد بن علي ذكره صاحب الجامع الكافي وقال السبكي في كتابه في ذلك أن أسانيد هذه الأحاديث صالحة
قلت وفسروا بهذه الاحاديث حديث الله أعلم بما كانوا عاملين وهو الذي اتفق على صحته في الباب وسنة الله في إقامة الحجج على خلقه (1/340)
لا تحيل هذا احالة قاطعة كما تحيل تكليف المحال ولا حجة واضحة على أن هذه الاحاديث موضوعة يجوز الجزم بتكذيبها وقد قال الله تعالى يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون فأثبت تكليفا بذلك السجود يوم القيامة وصح وتواتر أن الميت يمتحن في قبره في المسألة عن الشهادتين وأن المؤمن يثبت فيقولهما والكافر والمنافق يتلجلج أو يقول لا أدري
وفي الصحيحين من حديث البراء أن قوله تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة نزلت في ذلك وكذلك أجمع أهل السنة على أن للبرزخ حكما بين حكم الدنيا والآخرة ومنه أن موسى عليه السلام كان يصلي في قبره رواه مسلم ومنه ضمة القبر ونحوها فنكل علم تلك الاخبار إلى الله ولا نجوز على الله تعالى ظلما لأحد من عباده ولا عبثا ولا لعبا ولا مباحا لا يستحق عليه الثناء والحمد وإنما نجوز عليه ما يستحق عليه الثناء والحمد سواء علمنا وجهه أم لا وكذلك لا نجوز عليه تعذيب الميت ببكاء أهله عليه من غير حكمة ولا ذنب ولا عوض لكن قد روى ذلك ابن عمر عن النبي وآله وردته عليه عائشة رضي الله عنها ورواه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم غير ابن عمر فاحتمل تأويله على أحد وجوه
الوجه الأول أن يكون الميت أوصى بذلك وعلى ذلك حمله البخاري وغيره لأن ذلك كان عادتهم وهي قرينة قوية لهذا التأويل
الوجه الثاني أن يكون العذاب مستحقا للميت على ذنوبه لما ثبت في الصحيح أن من نوقش الحساب عذب وأن أحدا لا يدخل الجنة بعمله وإنما يدخلها برحمة الله تعالى وإن الباء في قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون باء السبب لا باء الثمن جمعا بين النصوص وهو من حمل المشترك على أحد الحقيقتين بالحجة لا من صرف الظاهر إلى (1/341)