وتعالى فلله الحمد وذلك أنه ذكر فيه أن المراد بذلك مجرد اعتقاد المكلف أنه مخاطب بذلك لا أنه مطلوب منه لكن خوطب به ليعتقد توجه الطلب اللفظي اليه لا أنه أريد منه فعله ولا يجب عليه إلا مجرد ذلك الاعتقاد
قلت وهذا على نحو قول الله تعالى للمصورين يوم القيامة أحيوا ما خلقتم للتعجيز لا لطلب ذلك منهم ومنه حديث من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة وقد أشار إلى هذا الجويني في مقدمات البرهان فقال إن كان المراد ورود صيغة الامر لا حقيقته فذلك جائز كقوله تعالى كونوا قردة خاسئين فان معناه كوناهم قردة فكانوا كما شئنا وإن كان المراد تحصيل المأمور به فذلك ممتنع قلت قد صرح الغزالي في الاقتصاد أن الأول هو المراد وعلى هذا فلا يكون اعلام أبي لهب بأنه سيصلي نارا ذات لهب بعد كفره العظيم محل النزاع لوجوه
الوجه الأول إن النزاع إنما هو في تكليف يقع عليه الجزاء والعقوبة وحده كما لو كلف أعمى بنقط مصحف على الصواب ولم يكلفه الله تعالى بغير ذلك ولا عاقبة على سواه وكان الاعمى يود أنه تمكن من ذلك وامتثل ثم يخلد في عذاب النار بترك ذلك فهذا ما لم ينسبه أحد إلى معبوده من جميع العقلاء بل هذا ما لم ينسبه إلى أحد من رؤساء المخلوقين حتى تفاحشت البدع ورذلت حتى تكلم في مهمات قواعد الإسلام بالآراء والأوهام وضربت فيها المقاييس والأمثال وتجارى فيها أهل الاهواء مجاراة المتنافسين وتجاروا على ذلك مجاراة المتعادين فظن بعضهم أن هذا ليس بصفة نقص عقلا مع موافقتهم على أن الكذب صفة نقص عقلا والكذب دون هذا النقص بكثير لا سيما الكذب النافع ثم تجاسروا بعد ذلك على تجويزه على الله تعالى ثم ادعوا وقوعه من الله تعالى
واعلم أنه لا استبعاد أن يعاقب الله تعالى بذلك في الآخرة من جوز عليه التكليف بالمحال الذي لا يطاق كما صح أن يقال للمصورين يوم (1/333)


القيامة أحيوا ما خلقتم وأن الكفار يؤمرون بالسجود ويحال بينهم وبينه فلا يستطيعون بل مجوز ذلك على الله تعالى في دار التكليف أولى بهذه العقوبة لما ثبت عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما أن الله تعالى يقول أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء ولما ثبت من مناسبة العقوبات للمعاصي حتى أن من تردى من جبل فهو يتردى في النار من جبل ومن طعن نفسه بحديدة فهو يطعنها في النار بحديدة وحتى رأى رسول الله وآله امرأة حبست هرة حتى قتلتها والهرة تنهشها في النار وحتى ثبت أن الله تعالى يقول أليس عدلا مني أن أولى كلاما تولى فيقول الخلق بلى فيرى كل عابد لغير الله معبوده ويأمره باتباعه حتى يوردهم النار ويمثل لمن عبد عيسى صورة عيسى عليه السلام وأمثاله من الصالحين كذلك وحتى قيل للمصورين أحيوا ما خلقتم وحتى يكفر من قال الآخر يا كافر وليس كذلك ويعفى يوم الخميس والاثنين عن كل مسلم إلا المتهاجرين حتى يصطلحا لأنهما أختارا عدم العفو مذهبا ونحو ذلك فليحذر من هذه العقوبة الخاصة مع سائر أنواع العذاب صاحب هذا المذهب بل يحذر من أهون من هذا وهو أن يناقشه الله تعالى الحساب على جميع ما أقدره عليه ومكنه منه ولا يسامحه في قليل ولا كثير ويقول له أنت جوزت مني تكليف ما لا يطاق وظننت ذلك في فلا أقل من أن أحاسبك على التكليف الذي لا يطاق ولا أسامحك بشيء منه وفي ذلك هلاكه كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله وآله أنه قال من نوقش الحساب عذب وشواهده معلومة وكفى بقول الله تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة وفي آية أخرى ما ترك عليها
الوجه الثاني أن الله لم يعلم أبا لهب بذلك بالنص ولا ظاهر القرآن يقتضي ذلك أيضا وإنما أعلم رسوله وآله بذلك فمن أين أن أبا لهب علم ذلك يقينا والله قادر على أن لا يعلمه ذلك لتزداد الحجة عليه وقد ذكر هذا ابن الحاجب وقال أنه مثل إعلام نوح عليه السلام أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن (1/334)


الوجه الثالث أنه وإن علم ذلك فانه خارج مخرج الوعيد لا مخرج الاخبار المحض والفرق بينهما واضح فان الوعيد مشروط بعدم التوبة مثل وعيد جميع الكافرين
الوجه الرابع أنه لا مانع من أن يكون الخبر والقضاء والقدر والكتابة في مثل ذلك مشروطة ويكون مما يجوز أن يدخل في قوله تعالى يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ويدل عليه حديث لا يرد القضاء إلا الدعاء رواه الحاكم وفي الباب عن معاذ وعائشة وأبي هريرة ذكرها الهيثمي وروي عن أبي قلابة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول اللهم إن كنت كتبتني في أهل الشقاء فامحني وأثبتني في أهل السعادة وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا قلابة لم يدرك ابن مسعود وهذا باب واسع وقد ذكره الغزالي وغيره في الجواب على ما من قال ما فائدة الدعاء والعمل مع سبق الاقدار وجوده ابن قيم الجوزية في الجواب الكافي ونقلته في العواصم وزدت عليه زيادات مفيدة
الوجه الخامس أنه ليس في الخبر أنه لا يؤمن فيجوز أبو لهب في نفسه حين يسمعه أن يكون لو آمن من المؤمنين العصاة وأن يدخل النار بذلك ويطمع في العفو بعد دخولها على الاصل في حسن ذلك عقلا أو لسماعه أن السمع ورد بذلك فانه لا مانع من ذلك فاذا جوز أبو لهب ومن في حكمة هذه الأمور أو بعضها قامت عليه الحجة والعذر الحق الذي هو سنة الله تعالى في عدله وحكمته يوم القيامة فكيف مع هذه الأمور واحتمالها يجوز للعاقل أن يقطع على أن تكليف المحال قد وقع والتقول على الله بما لم يقل كالكذب عليه والتوصل إلى ذلك بالشبه الواهيات صنيع المخذولين من أهل الضلالات فان الاجتراء على الابتداع في الدين ذنب عظيم وربما أدى صاحبه إلى الكفر والعياذ بالله وهل ذلك إلا كالاحتجاج على تجويز الولد بقوله تعالى قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين مع وجود النصوص الجمة على بطلان ذلك وتعظيم تقبيحه بنحو قوله تعالى (1/335)


وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا الى آخر الآيات ولو سلمنا أن النصوص تعارضت في مثل هذه المسألة كان الواجب على العالم أن يرجح منها المحكم الموافق الاكثر ثناء على الله تعالى ومدحا لله تعالى ومناسبة لاسمائه الحميدة المحكمة الحسنى لقوله تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم وقوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب فما الموجب لترجيح تشبيه أفعال أحكم الحاكمين بأفعال المجانين والاطفال حين لاح لذلك أدنى خيال وتقديم أضعف الأوهام وأبعد الاحتمالات والجزم بوقوع ذلك دون نقيضه الذي هو منطوق به في نصوص القرآن الصادعة معلوم احكامه واثباته في البراهين القاطعة داخل في الأسماء الحسنى غرة في الحمد والمدح والثناء وأعجب من ذلك كله المحافظة من الغزالي على الوصية باعتقاد ذلك لأهل الجمل في الاعتقاد من المتعبدين والزهاد والذين لم يعرفوا الخلاف في دقائق الكلام مع نهي الغزالي عن علم الكلام وذكر مساويه وما يؤدي اليه الخوض فيه لأنه ذكر هذا في الرسالة القدسية من مقدمات الاحياء الذي بالغ فيه في ذم علم الكلام لما جر اليه من البدع فاي بدعة بديعة ومحدثة شنيعة أبدع وأشنع من وصية الزهاد والصالحين من عوام المسلمين باعتقاد ذلك في أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وإيهامهم أن اعتقاده من الفرائض المؤكدة في دين الله تعالى وان من لم يعتقد ذلك كان على أعظم خطر من عذاب الله ولقد مضى أكثر عمر الدنيا على مالا يحصى من الظلمة والفجرة والفسقة والكفرة والخلفاء والسفهاء فما علم أن أحدا منهم فعل ذلك على الوجه الذي جوزه المخالف على الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإنما كانوا يعاقبون من لا ذنب له لحاجتهم إلى تحصيل الاموال أو لدفع المضار أو لمجموعهما أو تشفيا من عدو مضر انتصافا منه ونقما للثأر ونحو ذلك مما ألف وعرف من عادات الفجار وهذا أيضا غير تكليف المحال إنما هذا أنزل المضار ممن لا يستحقها وأما ان أحدا من جميع ما ذكرناه من أنواع الاشرار (1/336)


وجد مريضا ليس بينه وبينه عداوة ولا له في تعذيبه حاجة ألبتة ولا غرض له ولا داعي ولا له ذنب ولا عليه حجة فأمر بتكليفه حمل الجبال أو ما لا يطيق من الاحمال ومسابقة الرياح والحيل السابقة فان لم يفعل ما لا يطيق من ذلك عذب أشد العذاب وعوقب أفحش العقاب فما كان هذا من فاجر ولا كافر ولا خليع ولا سخيف ولا يجوز أن يكون منهم ولو فعل مخلوق لكان الله تعالى هو الذي يشتد عليه غضبه وسخطه ويتولى عقوبته وملامته وإذاقته أعظم الخزي الهوان والمقت والفضوح فكيف ينسب جواز ذلك بل وقوعه وتجويز أفحش ما يكون من جميع أنواعه الفاحشة إلى الملك العلي الحميد الصمد المجيد السبوح القدوس الذي كره ذلك وسخطه وحرمه ويعادي على أقل منه كل جبار عنيد وقال في كتابه المجيد وما ربك بظلام للعبيد وقال على لسان رسوله وآله يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظلموا كما رواه مسلم في الصحيح عن حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
ومن الشبه في ذلك قوله تعالى فاذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني قالوا فحرم عليها الخوف والحزن في هذه الحال وكلفها اعدامهما عن قلبها وهي لا تستطيع ذلك
والجواب أن النهي هنا لم يرد للتحريم فقد ذكر السبكي في جمع الجوامع للنهي ثمانية معان أحدها بيان العاقبة كما في هذه الآية الشريفة وذلك أن النهي فيها إنما ورد للبشرى بوقوع ما لا ينبغي عنده الخوف والحزن فانه مقام تكريم لا مقام تكليف ولذلك عقبه بقوله إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين وهاتان بشارتان عظيمتان ممن علمت صدقه في كل خبر وقدرته على كل شيء واحاطة علمه بكل غيب فهي تقابل ما في طبعها البشري مع ما ذكره الله تعالى بعد ذلك من ربطه على قلبها
يوضحه أنه مقام لطف وتشريف لا مقام تحريج وتعنيف ولو سلمنا أنه نهي تحريم لوجب في حكمة الله تعالى وعوائده مع عباده المؤمنين (1/337)

66 / 83
ع
En
A+
A-