كما قال سبحانه وتعالى أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون فأوضح أنه لم يبق لهم عذرا يتعللون به إذ لا معنى لنفي المغرم الثقيل مع وجود التكليف الممتنع لذاته المستحيل ثم تمدح سبحانه وتعالى بالقضاء الحق يوم القيامة في غير آية
فالعجب ممن لم يفهم أن ذلك ينافي تكليف ما لا يطاق ويضاده ممن يدعي الانصاف وفهم الدقائق والغوص على غوامض الحقائق وأنه في رتبة الذب عن الاسلام ونحو ذلك كثير جدا في كتاب الله تعالى فكيف يقدم على هذا كله مفهوم ظني مرجوح مختلف في معناه كما ذكره الغزالي في قوله تعالى حاكيا عن عباده ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به والله تعالى يقول واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم ويقول فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذي هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ولا شك في وضوح الآيات في نفي ذلك وحسنها سمعا وعقلا وفضلا وعدلا
وأما الآية التي احتج بها فقد ذكر البغوي وغيره من هل السنة اختلاف المفسرين في معناها وفيها احتمالان لا دافع لهما وأيهما كان تفسيرها فالثاني تفسير التي قبلها فافهم أحدهما أن يكون المراد التكاليف الشاقة مع دخولها تحت القدرة وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه خرجه مسلم في الصحيح وغير مسلم وفيه أن رسول الله سئل عمن يصوم الدهر فقال لا صام ولا أفطر فقيل كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوما قال أو يطيق ذلك أحد إلى قوله فيمن يصوم يوما ويفطر يوما وددت أني طوقت ذلك
وقد نص ابن الأثير في النهاية على أنه لم يعجز عن ذلك لضعف (1/328)


وأعظم من ذلك نفي رسول الله أن يطيق أحد على صوم يومين وفطر يوم وذلك واضح في أنه فسر الطاقة هنا بما لا مشقة فيه ولا حرج فدل على أن الشاق يسمى غير مطاق في عرفهم ولا أصح من اثبات اللغة بالسند الصحيح بل المتفق على صحته من طريق تلقتها الامة بالقبول وادعى الاجماع على صحتها باطنا وظاهرا عدد كثير من أئمة الاسلام وعادة اللغويين والمفسرين الاكتفاء في مثل ذلك برواية بعض أهل اللغة بغير سند ولا توثيق
الاحتمال الثاني أن يكون من تحميل عقوبات الذنوب في الدارين مثل المصائب في الدنيا وعذاب القبر في البرزخ وعذاب النار في الآخرة ومن ذلك قوله تعالى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى وهذا صريح في هذا المعنى والحمد لله رب العالمين وكذلك قوله تعالى ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء
ومنه حديث عبد الملك في ابن الزبير وددت أني تركته وما يحمل من الاثم في هدمها وبنائها ذكره ابن الأثير في نهاية الغريب في مادة ح م ل وهو معنى صحيح فصيح وقد فسر بهذا المعنى العلامة المتفق على علمه وجلالته عبد الملك بن جريج فقال هو مسخ القردة والخنازير رواه البغوي عنه في تفسير هذه الآية فجعله من قبيل ما لا يطاق من عقوبات الذنوب وجعله كثير من المفسرين من الاول أعني الشاق فقال مجاهد هو الغلمة وقال ابراهيم هو الحب وقيل شماتة الأعداء وقال محمد بن عبد الوهاب العشق وقيل هو الفرقة والقطيعة ذكر ذلك كله البغوي ولم يذكر قط عن أحد من المفسرين أنه تكليف المحال وهو من أهل السنة فكيف يرى هذا المعنى المتسع لمثل هذه الاحتمالات والمعاني المختلفة يقدم على النص الجلي الذي أثنى الله تعالى به على نفسه وتمدح به من قوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وما في معناها وما في معنى ذلك من أسماء الله الحسنى وما ذكرناه من الحديث ولا سيما ونزول قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها كل ذلك مع قوله تعالى ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة (1/329)


لنا به في آية واحدة وفي وقت واحد فلا يجوز أن يتناقض فيكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا وكونهما نزلا معا أمر ثابت في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن أبي هريرة كلاهما عن رسول الله على أنا لو سلمنا لمن احتج بها ما توهمه من أن المراد لا تحملنا ما لا نطيقه من التكاليف المحال وقوعها لما سلمنا أن الدعاء بذلك يستلزم جواز وقوعه من الله تعالى فقد دل الدليل على جواز الدعاء بما لا يجوز على الله تعالى خلافه كقوله تعالى قال رب احكم بالحق فانه دعاء إلى الله تعالى بما لا يقع سواه وكذلك قوله تعالى قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين فانه معلوم أن الله تعالى لا يجعل رسوله الكريم عليه الحبيب اليه مع خصومه المكذبين به المعاندين له فيه وكذلك استغفاره من ذنوبه فانه مأمور به في سورة النصر وهي نزلت بعد قوله تعالى في سورة الفتح ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فهو سؤال لما لا يقع وكذلك قال لعلي عليه السلام ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك مع أنه مغفور لك رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديثه عليه السلام فيكون الدعاء حينئذ عبادة يحصل بها الثواب والتشريف للعبد والتقريب وتحصيل المسؤول بسببين لما لله تعالى في ذلك من الحكمة فأولى وأحرى قوله تعالى ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وهذا أمر شهير كثير جدا ومنه قول القائل
وهذا دعاء لو سكت كفيته ... لأني سألت الله ما هو فاعل
وأعجب من ذلك قول الغزالي في الاحياء أن ذلك وقع جازما به محتجا عليه بتكليف أبي لهب بالإيمان مع قوله تعالى سيصلى نارا ذات لهب وقد رد هذا ابن الحاجب في مختصر المنتهى بأنه مثل خبر قوم نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن قلت بل هو والعلم السابق سواء والكل مسألة واحدة وهي المعروفة في علم الأصول بالممتنع لغيره لا لذاته والتكليف بذلك جائز بالاجماع ولا يسمى محالا وفاقا (1/330)


وقد بين الحلي المعتزلي الشيعي في مختصر المنتهى ذلك هو الذي جوزه الغزالي وابن الحاجب لا المحال لنفسه قلت بل ذلك جائز عند المعتزلة وجميع المسلمين أجمعين إلا من زعم أن الله تعالى لا يعلم الغيب ممن يدعي الاسلام من الغلاة في نفي القدر وقد بين ذلك العلامة ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة في شرح قوله عليه السلام اقتلوه ولن تقتلوه فكيف أوهم الغزالي في الاحياء أنه يجوز التكليف بالمحال مطلقا وأوهم أن ذلك وقع
وقد قال السبكي في جمع الجوامع والحق وقوع الممتنع بالغير لا بالذات وتسميتهم لهذا الجنس بالممتنع من قبيل المجاز وهو مما لا يجوز إلا مع البيان لأن العلم غير مانع بنفسه عند جميع المحققين
وقد نص الشهرستاني من كبار الأشعرية على أن العلم غير مؤثر بالاجماع وصحح ذلك غير واحد منهم دع عنك المعتزلة واحتج الجويني على ذلك بأنه لو كان العلم يؤثر في المعلوم لما تعلق العلم بالقديم نفسه سبحانه وتعالى لأنه لا يصح أن يؤثر في الله تعالى شيء
واحتج الرازي على ذلك بوجوه كثيرة منها أن ذلك يؤدي إلى نفي قدرة الله تعالى وذلك كفر بالاجماع وإنما كان يؤدي إلى ذلك لأن علم الله تعالى متعلق بجميع أفعاله وتروكه فكان يلزم أن ما علم الله أنه يفعله في وقت لم يوصف بالقدرة على تركه ولا تقديمه ولا تأخيره وما علم أنه يتركه لم يوصف بالقدرة على فعله وذلك يستلزم استقلال العلم بالتأثير واستغناء العالم عن القدرة وذلك يستلزم انقلاب العلم قدرة وانقلاب الفاعل المختار غير مختار وذلك محال
وذكر ابن الحاجب أن مثل هذا يؤدي إلى أن التكاليف كلها تكليف بالمحال قال وذلك خلاف الاجماع وقال أيضا أن الممكن لا يخرج عن امكانه بخبر أو علم انتهى (1/331)


واعلم أنهم إنما أرادوا أن العلم لا يؤثر تأثير القدرة في إيجاد المعلومات وفعل المأمورات ولم يريدوا نفي كل تأثير للعلم مطلقا فان العلم يؤثر تأثير الدواعي والصوارف مثاله أن من علم أن العقاب يحصل على ترك الصلوات والثواب العظيم يحصل على فعلها كان علمه ذلك مرجحا لفعلها على تركها مؤثرا في وقوعها من العالم بذلك ألا تراه لا يتركها مع أن تركها أسهل ما ذاك إلا لترجيح العلم نعم وقد ذكرت في العواصم غير هذه الوجوه في أن العلم غير مؤثر تأثير القدرة وكذلك الشيخ مختار في المجتبى جود الكلام في ذلك وذكرت في العواصم وجها حسنا في افحام من يحتج على الله تعالى بالعلم من المبتدعة والملاحدة وذلك أنا لو سلمنا تسليم جدل أنه مؤثر ومانع من خلافه منع استحالة لزم أن تكون حجة الله تعالى على عذاب العصاة لأن العلم بأفعال الله تعالى كما يتعلق بأفعال عباده إجماعا فكما أنهم لا يستحسنون من الله تعالى يوم القيامة أن يقول إنما عذبتكم لسبق علمي بذلك فكذلك لا يحسن منهم أن يقولوا إنما عصيناك لسبق علمك بذلك وإن حسن ذلك منهم كان من الله أحسن
ويلحق بهذه أمور يشتد تعجب العاقل منها
أحدها أن مذهب الغزالي نفسه أن التكليف بالمحال لذاته لا يجوز على الله وهو مشهور عنه في شرح المنتهى وجمع الجوامع وغيرهما حتى ذكروا أن حجته على ذلك هي حجة ابن الحاجب وإنما أراد الغزالي بالوصية بذلك في إحياء علوم الدين الموافقة لعقيدة الاشعرية على أن ذلك لم يصح قط عن الاشعري ولا لذلك عنه أصل صحيح كما أوضحته في العواصم ولذلك صدر ابن الحاجب المسألة بأن التكليف بالمحال لا يجوز ثم قال ونسب خلافه إلى الاشعري على صيغة ما لم يسم فاعله ثم ذكر أن ذلك نسب إلى الأشعري على جهة الالزام له لا أنه نص على ذلك ثم تعصب أصحاب الاشعري له على توهم أنه مذهبه وقدموه على نصوص كتاب الله تعالى ونصوص رسوله وعلى البراهين العقلية فانا لله وإنا إليه راجعون
وثانيهما أن الغزالي ذكر في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد تأويل ذلك بما يخرجه عن محل النزاع ويقتضي جمع الكلمة على نفيه عن الله سبحانه (1/332)

65 / 83
ع
En
A+
A-