عليه السلام من حسن العبارة وإيضاح الحجة ألا ترى إلى قوله عليه السلام فيما حكى عنه من حجاجهم في سورة العنكبوت إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا كيف عقب بطلان ما هم عليه ما يدل على سوء اختيارهم في اختلافهم الافك افتراء من عند أنفسهم فهذا هو المناسب لحال المناظرة ألا تراه لا يصلح أن يقول عوض قوله وتخلقون افكا والله الذي خلق هذا الافك فيكم وأراده منكم لأنه يكون بذلك كالمعتذر لهم في حال النكير عليهم فيكون مناقضا لقصده فكذلك لو جعلنا الخلق بمعنى انشاء العين في قوله والله خلقكم وما تعملون والقرآن يفسر بعضه بعضا كما قال المفسرون في تفسير قوله تعالى كتابا متشابها أي يشبه بعضه بعضا في معانيه وأحكامه فهذه الوجوه ترجح أن ما تعملون بمعنى لذي تعملون على أحد وجهين إما أن تجعل الأصنام هي المعمولة لأنها لا تسمى أصناما الا بعد عملهم أو على أن تجعل معمولا فيها ولولا ما شهد لذلك من القرآن والسنة والمرجحات الضرورية ما رضيت أن أتكلم في كتاب الله تعالى بغير علم وأقصى ما في الباب أن يكون الذي ذكرته محتملا غير راجح فكيف يجوز القطع بأنه غير مراد الله تعالى والقطع على أن نقيضه هو المراد والاحتجاج بذلك على مسألة كبرى قطعية من مهمات مسائل الاعتقاد التي أوقعت الفرقة بين المسلمين والعداوة والله تعالى يوفق الجميع إلى ما أمرنا به ربنا سبحانه وتعالى من الاجتماع ويعصمنا عما نهانا عنه من التفرق ولن يوجد إلى ذلك سبيل أوضح من ترك ما لم يتضح والرجوع إلى ما استبان من الكتاب والسنة والتقديم له على ما وقع فيه الاحتمال والاختلاف والله عند لسان كل قائل ونيته وهو حسبنا ونعم الوكيل
وقد أوضحت في العواصم بقية المباحث وبطلان دعوى الاجماع على خلق الأعمال إلا بمعنى التقدير وسبق القضاء وجفوف الاقلام كما قد ورد في كتاب الله تعالى وعن رسول الله واتفقت الامة المرحومة المعصومة على صحة معناه أنه لا يقتضي افحام الرسل ولا يناقض كمال (1/323)
حجة الحكيم العليم على ما عصاه من عباده وذكر ذلك كله هنا يخرجنا عن قصد الاختصار بالمرة
ولا نزاع في أن الأفعال مخلوقة بمعنى مقدرة وأما بغير ذلك المعنى فان سلمنا أن ذنوبنا تسمى مخلوقة لله تعالى في اللغة بغير ذلك المعنى مع صدورها منا باختيارنا على وجه تقوم الحجة به علينا فلا وجه لادخال ذلك في مسائل الاعتقاد وأركان الاسلام وواجبات الايمان ولا حجة على ذلك ولا شبهة ولا حرج على من لم يؤمن بذلك لجهله به فليس كل حق يجب أن يدخل ذلك من وجود الموجودات وعدم المعدومات وقد علمنا نبينا محمد ديننا كما علمه ربه عز و جل وحصر لنا أركان الاسلام وعلمنا الايمان والاحسان فما عد فيه خلق الافعال وإنما عد فيه سبق الاقدار كما تواتر في الاخبار ولذلك لم يذكره مالك في الموطأ كما ذكر القدر وغيره في أواخره ثم انظر مع تسليم نفي الجبر وتسليم قيام الحجة لله تعالى بخلق القدرة وتمكين المكلفين أي ثمرة تبقي لاعتقاد أن الأفعال مخلوقة وإنما حافظ على ذلك في الأصل من يقول بالجبر ثم ظن كثير من أهل الكلام والحديث بعد ذلك أنه من لوازم عقائد السنة فقالوه مع نفي الجبر ولذلك ذكر ابن الحاجب في مختصر المنتهى أن الأشعري ألزم من قوله بذلك القول بتكليف ما لا يطاق وفي كلامه هذا دلالة على أن القول مما يختص بالأشعري وحده في أول الأمر والله أعلم
وعلى تسليم ذلك كله فاعتقاد أنها مخلوقة بمعنى مقدرة يكفي وهو صحيح بالاجماع كما تقدم وفيه الحيطة والعصمة عن تعديه إلى مواقع الخلاف ومظان البدعة ولكن يعبر عنها بأنها مقدرة لأنها صريح عبارة الكتاب والسنة والصحابة والتابعين ولا يعبر عنها بأنها مخلوقة لأنها توهم خلاف الصواب ولأنها عبارة الجبرية وأهل الكلام المتأخرين عن عصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ولأنها مختلف فيها وقد نهينا عن الاختلاف واختياره مع التمكن من تركه وقد نهى الله تعالى عن قولهم راعنا وأمر أن يقولوا مكانه انظرنا لمصلحة يسيرة كيف ما نحن فيه والله الهادي والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم (1/324)
المسألة الرابعة أن الله تعالى لا يكلف ما لا يطاق
وهو قول الجماهير من جميع طوائف المسلمين وإجماع العترة والشيعة والمعتزلة ورواه ابن بطال في شرح البخاري عن الفقهاء أجمعين ونسب السبكي المنع منه إلى الغزالي والشيخ أبي حامد والشيخ تقي الدين الشهير بابن دقيق العيد وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني والآمدي على تفصيل ذكره في الفرق بين المحال لذاته ولغيره
واعلم أن هذا ما لا شك فيه ولا ريب وإنما يتعجب من وقوع الخلاف الشاذ في ذلك وأي شك في ذلك والله تعالى قد نص في كتابه الكريم على ذلك في غير موضع كقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وفي آية أخرى لا نكلف نفسا إلا وسعها بالنون وفي آية أخرى إلا ما آتاها ومنه أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ومنه قوله تعالى ولقد مكناهم في الأرض وفي آية ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة الآية وأمثال ذلك مما لا يحصى
والمراد بالاحتجاج بهذه الآيات ونحوها أنها شاهدة على اعتبار ما يسمى حجة في عرف العقلاء وامتناع نقيض ذلك على أحكم الحاكمين وأن هذا معلوم ضرورة من كتب الله تعالى وأديان رسله عليهم السلام ونص على ما يستلزم ذلك مما لا يحصى كثرة من سعة رحمته وظهور عدله وعظيم فضله وعدل أحكامه وظهور حكمته وشمول نعمته وقوله من أتاني يمشي أتيته أسعى ومن تقرب إلي شبرا تقربت اليه ذراعا بل سمح سبحانه من الوسع الممكن المقدور ما لا يحصى ونص على ذلك فقال تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج وقال يريد الله (1/325)
بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فسمح سبحانه وتعالى مما يطاق الكثير الذي لا يعلم مقداره إلا هو ولم يبق من التكاليف إلا ما جعله سببا لرحمته وفضله وكرامته كما جعل البذر في الدنيا سببا للزرع الذي لا ينميه ويتمه سواه وبشر سبحانه ويسر ونهى عن التعسير والتنفير وجاء على لسان نبيه نبي الرحمة أنه المبعوث بالحنيفية السمحة وتلقى ذلك علماء الاسلام بالتصديق والاشاعة وعملوا في الاحكام بحسب ذلك واحتجوا به وشاع فيما بينهم وذاع وانعقد على عدم انكاره الاجماع ولم يعارض ذلك عقل ولا شرع ولا نص ولا ظاهر وناسب هذا كله تمدح أصدق القائلين بأنه أرحم الراحمين وخير الراحمين وأكرم الأكرمين ولا يختص المؤمنين من رحمته تعالى إلا كتابتها ووجوبها لهم ونحو ذلك دون سعتها فانها لكل شيء كما تبين في قوله تعالى ورحمتي وسعت كل شيء الآية ومن حرمها فذلك لاستحقاقه ولحكمه بالغة وهي تأويل المتشابه على ما نص على أن الخصوم جوزوا تكليف المؤمنين المرحومين بما لا يطاق عقلا وسمعا بل جوزوا عقلا عقابهم بذنوب أعدائهم المشركين بل جوزوا ذلك في حق الأنبياء والمرسلين والله تعالى تمدح بضد ذلك وبأن له الأسماء الحسنى وله أعظم الحمد والمجد والشكر والثناء دع عنك العدل في الحكم والجزاء وعضد ذلك الثناء العظيم من رسوله الكريم بأنه لا أحد أحب اليه العذر منه سبحانه وتعالى من أجل ذلك أرسل رسله إلى العالمين وأنزل كتبه على المرسلين وجعل رسله تترى إلى خلقه مبشرين ومنذرين ومعلمين ومحتجين وميسرين غير معسرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
والعجب ممن يدعي الفقه والفهم بل الامامة العظمى في العلم كيف لم يعلم أن مراد الله تعالى هو أطيب الثناء وأحسن الأسماء وأجمل الحمد وأتم العدل وأحمد الأمور كلها أو قد فهم هذا كله ولكن ظن أن تكليف ما لا يطاق وطلب تنجيزه من العبد الضعيف وعقوبته عليه أشد العقوبة وأدومها هو أنسب بأطيب الثناء والممادح الربانية والمحامد الرحمانية من (1/326)
عكس ذلك كأنه لم يعرف القرآن والسنة قط قال سبحانه وتعالى في ذلك ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى وقال عز و جل أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وقال في الزمر أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت الآيات إلى قوله بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وقال تعالى ذكري وما كنا ظالمين وقال تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم فجعل القسط الذي هو العدل مما هو لازم لتوحيده في الالهية ومما هو قائم به ومما شهد به لنفسه وشهد له به خواص خلقه وأهل معرفته والعدل هو ضد الجور والعنف والعسف وذلك كله دون تكليف ما لا يطاق فانه قد وصف بذلك كثير من ملوك الجور ولم يوصف أحد منهم قط بتكليف ما لا يطاق كما يأتي تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا أفلا يخاف المخالف أن لا يكون من العلماء الذين شهدوا لله بهذه الشهادة إلى غير ذلك
وأوضح من ذلك أنه سبحانه وتعالى كتب الاعمال في الكتب وأشهد على خلقه ملائكته الكرام ثم نصب الموازين القسط ليوم القيامة وأنطق الجلود والاعضاء بعد شهادة الملائكة وصالحي خلقه بعد رسله عليهم السلام كل ذلك ليقيم الحجة حجة عدله وعظيم فضله ويقطع اعذار المعاندين والجاهلين والمتجاهلين وكم احتج الله تعالى بذلك وتمدح به في كريم كتابه كقوله تعالى ثم السبيل يسره وقوله تعالى وهديناه النجدين وقوله عز سلطانه إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا بل نفى سبحانه وتعالى ما يستلزم ذلك أو يقاربه (1/327)