الجماهير وأهل التحقيق كابن تيمية وأصحابه منهم وأبو الحسين وأصحابه من المعتزلة ومن لا يحصى كثرة من سائر طوائف الشيعة والمتكلمين وثالثها أنه لا يسلم لهم أنه لا يقدر على شيء من الذوات إلا الله تعالى بل قد خالفهم في ذلك امامهم الكبير أبو المعالي الجويني والشيخ أبو إسحاق وأصحابهما فقالوا أنه يقدر على ذلك من أقدره الله تعالى عليه ومكنه منه وأراده له كما تقدم
إذا تقرر هذا فلنكمل الفائدة بما بقي لهم من الأدلة التي يمكن أن يغتر بها أحد فمن ذلك قول الخليل عليه السلام في مجادلة عباد الاصنام وذلك قوله تعالى حكاية عنه قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون وقد احتج بها أبو عبيد لهم وأنكر عليه ابن قتيبة كما ذكره في مشكل القرآن وكلاهما من أهل السنة وقال ابن كثير الشافعي في أول البداية والنهاية في قصة إبراهيم عليه السلام وسواء كانت ما مصدرية أو بمعنى الذي فمقتضى الكلام أنكم مخلوقون والاصنام مخلوقة فكيف عبادة مخلوق لمخلوق فأشار إلى مثال الخلاف ولم يتعرض لترجيح
واعلم أن من يتأمل هذا توهم أن الآية من النصوص على خلق الافعال ولذلك يستروح كثير من القائلين بذلك اليها ويستأنسون بها ولو أنصفوا ما استحلوا ذلك فان القول في تفسير كتاب الله تعالى بغير علم حرام بالنص وفيه حديثان معروفان عن ابن عباس وجندب بن عبد الله ولا خلاف في أن في الآية اجمالا واشتراكا بالنظر إلى لفظة ما تعملون فانها محتملة أن تكون بمعنى الذي تعملون كقوله تعالى في سورة يس ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم فجعل ما عملته أيديهم مأكولا وكل مأكول مخلوق لله وحده لا عمل للعبد فيه ألبته وقد سماه معمولا لأيديهم لمباشرتهم له وأن تكون مصدرية بمعنى وعملكم ولما كان ذلك كذلك ولم يحل أن يتقول على الله تعالى إلا بوجه صحيح وإلا وجب الوقف ورد ذلك إلى الله تعالى لقوله ولا تقف ما ليس لك به علم لكن هنا وجوه ترجح أنها بمعنى الذي تعملون وهو الاصنام التي خلقها الله تعالى حجارة وعملونا أصناما (1/318)


فهي معمولة مصنوعة حقيقة وقد يسمى المعمول عملا مجازا وحقيقة عرفية ولا حاجة بنا إلى ذلك فكونها معمولة كاف في ذلك
وأصل ذلك أن فعل العبد ينقسم إلى ما يكون لازما في محل القدرة مثل حركة يد الصانع وإلى ما يتعدى إلى مخلوقات الله تعالى مثل تصوير الصانع الذي يبقى أثره في الحجارة وغيرها وهو الذي منع ثمامة المعتزلي والمطرفية أن تكون فعلا للعبد فالآية تحتمل بالنظر إلى لفظها ثلاثة أشياء أحدها أنه تعالى خلق جميع أفعال العباد على العموم كما قال المخالف الثاني أنه خلق الاصنام التي هي معمولات العباد ومصنوعاتهم لما فيها من أثر تصويرهم وتشكيلهم
الثالث أنه خلق الاصنام التي فيها عملهم وتصويرهم وعلى هذا الثالث يكون التقدير وما تعملون فيه والثاني من هذه الاحتمالات هو الراجح لوجوه
الوجه الأول أن الله تعالى ساق الآية في حجاج الخليل عليه السلام للمشركين وأورد حجته عليهم في بطلان ذلك وتقبيحه وليس في كون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى حجة على ذلك من هذه الجهة قط وفي كون الاصنام مخلوقة لله تعالى ذواتا وأعيانا معمولة للعباد نحتا وتصويرا أوضح برهان على بطلان ربوبيتها
الوجه الثاني أن الله تعالى نص على هذا المعنى في غير هذه الآية والقرآن يفسر بعضه بعضا وذلك في قوله تعالى في سورة الفرقان واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون وقال في سورة النحل والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون
الوجه الثالث أنه قد ورد في حديث رسول الله ما يقتضي ذلك وقد أجمع أهل التفسير ومن يحتج به من الجماهير إلى الرجوع إلى مثل ذلك في مثل هذه المواضع المجملة من كتاب الله تعالى وذلك ما أخرجه الحاكم أو عبد الله في المستدرك في أول كتاب البر منه فقال أخبرنا (1/319)


أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الاصبهاني أخبرنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل أخبرنا إبراهيم بن يحيى بن محمد المدني السجزي حدثني أبي عن عبيد بن يحيى عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه رفاعة ابن رافع وكان قد شهد بدرا مع رسول الله أنه خرج وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قدما مكة فلما هبطا من الثنية رأيا رجلا تحت الشجرة إلى قوله قلنا من أنت قال انزلوا فنزلنا فقلنا أين الرجل الذي يدعي ويقول ما يقول فقال أنا فقلت له فاعرض علي فعرض علينا الاسلام فقال من خلق السموات والجبال فقلنا الله فقال فمن خلقكم قلنا الله قال فمن عمل هذه الاصنام قلنا نحن قال فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق فأنتم عملتوها والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه قال الحاكم هذا حديث صحيح الاسناد فسماها رسول الله مخلوقة لله ومعمولة للعباد حيث قال إن الخالق أحق بالعبادة من المخلوق وقال إن الله أحق بالعبادة من شيء عملتموه فناسب حجة أبيه ابراهيم عليهما السلام وماثلها ففرق بين الخلق والعمل وجعل الاصنام مخلوقة من حيث هي من الجبال التي قد قرر عليهم أنها مخلوقة وجعلها معمولة من حيث أنها لا تسمى أصناما إلا بعد تصويرهم وتشكيلهم لها
الوجه الرابع أن المعنى إذا كان على ما ذكرنا حصل منه تنبيه المشركين على أنهم مثل الاصنام في كونهم مخلوقين وليس ينبغي أن يكون العبد والرب من جنس واحد لا سيما والعابد منهما أشرف من المعبود بالضرورة من جهتين الجهة الأولى أنه حي والصنم جماد والثانية أنه الذي عمل صورة معبودة من الأصنام ونحته وشابه صورته بخلق الله تعالى وهو من هذه الجهة يسمى معمولا له ومصنوعا كما يقال هذا السيف صنعة فلان وعمله وما أشبه ذلك من تصرف الصناع في خلق الله تعالى في الحلى والاصباغ وسائر المسببات وهي حقائق عرفية ولم ينكرها إلا ثمامة والمطرفية على ما تقدم بيانه
الوجه الخامس أن قرينة الحال وصيغة البيان تقتضي أن يكون قوله وما تعملون موافقا في المعنى لقوله تعالى ما تنحتون في أولها لأنه (1/320)


صدر الآية الكريمة بانكار عبادة المنحوت ثم أكد ذلك الانكار بكون العبادة له وقعت في حال خلق الله له لكنه سماه في آخر الآية معمولا وفي أولها منحوتا لكراهة تكرير الألفاظ المتقاربة في بلاغة بلغاء العرب كما خالف اللفظ في قوله فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين مع أن المسلمين في آخر الكلام هم المؤمنون المذكورون في أوله والذي يدل على ذلك أن الواو حالية في قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون فالمعنى كيف غفلتم عن قبح عبادتكم لها والحال هذه
وأنت إذا نظرت في طباق الكلام وسياقه لم يحسن قط أن يكون المعمول غير المنحوت ووجب أن يكون هو إياه أما أنه لا يحسن فلان الجملة الحالية تقتضي شدة النكارة في مثل هذا الموضع ولن يصح أن تقتضيها إلا بذلك كما تقول أتجفو زيدا وهو أبوك فلا يجوز أن يكون الأب غير زيد كما لا يجوز أن تقول أتجفو زيدا وأبوك خالد حيث لا يكون بينهما ما يوجب زيادة النكارة ولو كان المعمول غير المنحوت لم يكن الشرك معه أقبح إذا كان المعمول هو المنحوت كان الشرك معه أقبح وكذلك يكون الشرك أقبح مع عدم خلق الأعمال بخلاف الشرك مع خلق الاعمال فانه ليس بأقبح منه مع عدم خلقها بل يلزم أن لا يقبح وأما أنه يجب أن يكون المعمول هو المنحوت فلما في ذلك من زيادة قبح الشرك لأنه لا يخفي على عاقل أن أقبح الشرك أن يجعل العبد المخلوق شريكا لربه الخالق له وذلك الشريك مخلوق لربه باقرار العبد ولا سيما وذلك الشريك المخلوق جماد مسخر للعبد مصنوع له ينحته ويكسره ويشكله ويطمسه ويضعه ويرفعه ويدنيه ويقصيه ويتصرف أنواع التصرف فيه
الوجه السادس أن الآية الكريمة نزلت في خلق المفعول به المنفصل عن محل قدرة العبد لا في الفعل نفسه لقوله تعالى ليأكلوا من ثمرة وما عملته أيديهم ولا خلاف بين المعتزلة والأشعرية أنه مخلوق لله تعالى وكذلك صنعة المداد وسائر الاصباغ والمسببات مثل ازهاق الأرواح (1/321)


بالجراح والتغريق والتحريق ومثل السحر وآثاره ولذلك احتج الشهرستاني وغيره بهذه الصورة على المعتزلة حين أنكروا مقدورا بين قادرين مع اختلاف الوجوه على أنه لا يصح عنهم انكار مثل ذلك ومع نزول الآية في هذا بالاجماع كما ذكره ابن كثير بل كما هو معلوم فلا وجه للقطع بتعديتها بل لا يصح ظهور ذلك على جهة الظن لما في عموم ما من الخلاف ولما في تعدية العموم على غير ما نزل فيه من ذلك ولما في خلاف ذلك من المرجحات ولذلك وأمثاله لم تكن الآية نصا ولا ظاهرا بين الظهور في هذه المسألة
الوجه السابع أن النص على أن أعمالهم مخلوقة لله تعالى ينافي توبيخهم عليها والاستنكار الشديد لصدورها عنهم لأنه لا يخلو إما أن يكون ورد على مثل الشهرستاني والباقلاني من أئمة الأشعرية الذي عرفوا الكلام في اللطيف واعتقدوا صحة مقدور بين قادرين وأن أفعال العباد لا تنسب اليهم وحدهم لنقصان قدرتهم عن الاستقلال ولا إلى الله وحده لكمال حجته عليهم وقدسه عن نقائصهم فهؤلاء لو ورد عليهم النص على خلق الاعمال لم يشكل عليهم ظاهره ولكن يكون ذكره في هذا الموضع غير مناسب للبلاغة لأن الكلام البليغ لابد أن يناسب مقتضى الحال ومقتضى الحال هنا زيادة التقبيح والتوبيخ وهو لا يزيد على هذا التقدير ولكن هذا التقدير معلوم البطلان عند الجميع واما أن يكون الخطاب بهذا النص على خلق الاعمال ورد على أجهل العوام الطغام الذين عبدوا لشدة غباوتهم الاصنام فانهم إذا خوطبوا بأن أعمالهم مخلوقة لله تعالى لا يسبق إلى أفهامهم إلا أنه سبحانه وتعالى مستقل بها غير مشارك فيها وحينئذ ينقص ذلك التقبيح أو يبطل أو يتناقض الكلام وينفتح باب الاعتراض على الخليل عليه السلام حينئذ لاعدائه ويرفع الشيطان رأسه إلى الهامهم الزام الاحتجاج على الرسل بالقدر وافحامهم بذلك كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في غير آية وكل عاقل يريد افحام خصمه أو ارشاده لا يورد عند جداله أعظم شبه الخصم في حال الصولة عليه بالحجة القاطعة فلم يكن الخليل عليه السلام يلقنهم في هذه الحال أعظم شبههم التي ضل بها كثير من المسلمين بعد الاسلام ودق النظر عن جوابها على كثير من العلماء الاعلام مع ما أوتي الخليل (1/322)

63 / 83
ع
En
A+
A-