فأما إمام الحرمين والشيخ أبو إسحاق ومن تابعهم فقد وافقونا بحمد الله تعالى
وأما الجبرية الجهمية فليس هم من فرق أهل السنة على الحقيقة ولكن نتكلم معهم لنستقصي القول في هذه المسألة فنقول لهم قولكم أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وحده لا يشركه العبد فيه خلاف الضرورة العقلية والسمعية ويلزمكم على هذا أن لا تصح تسميته فاعلا ألبتة وذلك يستلزم أن لا يكون مطيعا ولا عاصيا لأن كونه مطيعا وعاصيا فرع على كونه فاعلا والالزم أن يكون اليهود الممسوخون قردة مطيعين بكونهم كانوا قردة هذا على جهة النافلة وإلا فالمختار عدم مناظرة من بلغ في الجهل والعناد إلى هذا الحد
وأما الاشعرية الذين قالوا أن فعل العبد الذي هو كسب متميز من فعل الله الذي هو خلق فان الحجة عليهم واضحة وذلك أن الأصل المعلوم أن لا يضاف إلى كل فاعل إلا ما هو أثر قدرته ولما كان أثر قدرة الله تعالى عندهم هو الذوات والأعيان وأثر قدرة العبد هو الاحوال والوجوه والاعتبارات لم يصح ولم يحسن أن يضاف فعل العبد إلى الله ولا فعل الله إلى العبد لأنه من قبيل الكذب الصريح المتفق على تحريمه ولو جاز أن يضاف فعل العبد القبيح إلى ربه الحميد المجيد لجاز أن يضاف فعل الله تعالى إلى عبده فيسمى العبد خالقا فأما تسمية أفعال العباد مخلوقة حقيقة فقد تعذروا واستحال على مذهبهم وأما تسميتها مخلوقة مجازا فهو الذي يمكن أن يقع فيه الغلط أو الغلاط والحق أنه ممنوع ودليل منعه وجوه
أولها أن للمجاز شرائط معلومة عند علماء المعاني والبيان من أوجبها الاشتراك في أمر جلي غير خفي يوجب المقاربة أو المشابهة بين الأمرين كاشتراك الشجاع والاسد في قوة القلب والكريم والبحر في كثرة النفع ونحو ذلك ولا مناسبة بين أفعال الرب السبوح القدوس الحكيم العليم وبين أفعال الشياطين والسفلة والسفهاء وأخبث الخلق
وثانيها أن جناب الملك العزيز أرفع مرتبة وأبعد قدرا من أن يجوز لنا أن نتصرف فيه مثل هذا التصرف من غير إذن شريف (1/313)
وثالثها انا متفقون على أن مثل هذا ممنوع وأن هذا المقام غير مباح ولا مسكوت عنه وذلك من جهتين الجهة الأولى أن البدعة ممنوعة والجهة الثانية أن الله تعالى لا يوصف إلا بما قد تحقق فيه أنه مدح وثناء دون ما فيه نقص أو ما ليس فيه نقص ولا ثناء
ورابعها أن هذا من قبيل اثبات اللغة بالنظر العقلي واللغة لا تثبت إلا بالنقل الصحيح عن أئمتها عند الجمهور في الحقائق الوضعية وعند طائفة في الحقائق والمجاز معا ولم ينقلوا في ذلك شيئا وهذه كتب اللغة موجودة وقد ذكرت فيما تقدم قريبا أن الجوهري لم يذكر في صحاحه للخلق معنى إلا التقدير أعني في هذا المعنى الذي نحن فيه وإن كان قد ذكر معاني أخر كالخلق بمعنى الكذب فافهم هذه النكتة
وخامسها أن أهل اللغة ولو أجازوا شيئا في أسمائنا وأحوالنا فان أسماء الله تعالى توقيفية ولذلك لا يسمى عاقلا ولا فاضلا ولا يجوز نحو ذلك لا حقيقة ولا مجازا بالاتفاق مع أنهما من أجل الاسماء وأحمدها وأشرفها فكيف يسمى خالق القبائح والفواحش والفضائح من غير إذن سمعي ممن لا يجيز عليه أن يوصف بوصف لا ذم فيه ولا مدح وما الملجئ إلى هذا والداعي اليه والله تعالى هو الملك العزيز الذي ليس لعبيده أن يتصرفوا في أنفسهم إلا باذنه فكيف في صفاته وأسمائه
وسادسها أن هذا ممنوع بالبرهان فلا يجوز التجوز فيه كما لا يجوز أن يسمى سبحانه وتعالى ظالما مجازا وذلك البرهان هو إخبار كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عن حسن جميع مخلوقات الله وذلك قوله عز و جل ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين وقال تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين فكيف يضاف إلى الحميد المجيد السبوح القدوس الذي تمدح بأنه أحسن الخالقين وأنه أحسن كل شيء خلقه بغير إذن منه أنه خالق جميع من في العالم من كل كذب (1/314)
وظلم وخبث وكفر وفحش وقد نص تعالى في كتابه الكريم على أن أسماءه كلها حسنى والحسنى تأنيث الاحسن والحسن الراجع إلى الحكمة أنسب أولى بكل مخلوقات الله الحسنة من الحسن الراجع إلى الصورة فما كان من الصورة الحسنة جمع الحسنين كما قال تعالى وصوركم فأحسن صوركم وما لم يظهر فيه حسن الصورة من الحجارة والتراب والجبال لم يخل من حسن الحكمة والله سبحانه وتعالى أعلم
ألا ترى أن جميع عبارات الكتاب والسنة وأهل اللغة في الجاهلية والاسلام والمسلمين من أهل السنة والبدعة من العامة والخاصة والصحابة والتابعين بل والجبرية الجهمية المبتدعة كلهم عبروا عن أفعال العباد بأسمائها الخاصة بها ويكسب العباد لها وفعلهم واختيارهم دون خلق الله تعالى لها فيهم فيقولون إذا زنى الزاني مختارا غير مكره وجب عليه الحد وكذلك إذا قتل وجب عليه القصاص وإذا كفر وجب جهاده ونحو ذلك ولا يقول أحد منهم حتى الجبرية الضلال إذا خلق الله الزنا في الزاني جلد وإذا خلق القتل في القاتل قتل وإذا خلق الكفر في الكافر حورب وهذه كتبهم شاهدة بذلك ولو أن أحدا قال ذلك وحافظ عليه فلم ينطق بمعصية منسوبة إلى فاعلها وبدل نسبة المعاصي إلى أهلها بنسبتها إلى خلق الله تعالى في أهلها في جميع كلامه أو كثير منه لكان ذلك من أوضح البدع وأشنع الشنع وشر الأمور المحدثات البدائع
وأما سائر من قال أن أفعال العباد مقدور بين قادرين من غير تمييز بالذات فالكلام معهم مثل الكلام مع الاشعرية لأنهم وإن لم يفرقوا بين فعل الرب عز و جل وفعل العبد بالذات فانهم يفرقون بينهما بالوجوه والاعتبارات وذلك أمر ضروري فانهم لابد أن يقولوا أن العبد فعل الطاعة على وجه الذلة والخضوع والامتثال والتقرب والرغبة والرهبة وإن الله تعالى منزه عن جميع هذه الوجوه وإن الله تعالى فعل ذلك الفعل إما لغير علة كما هو قول بعضهم وإما على جهة الحكمة والرحمة والنعمة أو على جهة الحكمة والابتلاء والامتحان فثبت بهذا أن فعل العبد مركب من أمرين اثنين أحدهما من (1/315)
الذات التي هي مقدور بين قادرين وثانيهما من تلك الوجوه والاعتبارات التي يكفر من أجازها على الله سبحانه أو سماه بها بالاجماع والله تعالى ما شارك العبد إلا في أجمل هذين الامرين وأحمدهما فكيف ينسب اليه أخبثهما وشرهما وأقبحهما بغير إذن منه وهم إنما فروا الجميع من قول الجبرية لما يلزم فيه من نحو هذه الأشياء فيجب عليهم أن يتموا النزاهة عن خبائث مذهب الجبرية وما يقاربه ويضارعه مما لم ترد النصوص الشرعية بوجوبه على المسلمين ودخوله في أركان الدين
واعلم أنه قد تقرر بالاتفاق أن اسم الخلق لا يطلق على شيء كالتخليق قال تعالى في المضغة مخلقة وغير مخلقة أي مصورة وغير مصورة ولذلك قال أهل السنة أن القرآن لا يدخل في قوله تعالى خالق كل شيء لقوله تعالى ألا له الخلق والأمر وهما شيئان فدل على أن قوله تعالى خالق كل شيء مخصوص بكل شيء يسمى مخلوقا وأن هذه الآية في عالم الخلق دون عالم الأمر فثبت أنه لا حجة لمن سمى الله خالقا لمعاصي العباد في قوله تعالى خالق كل شيء حتى يدل على أنها تسمى مخلوقة في اللغة وكيف وقد اتفقنا على انها تسمى كسبا وعملا وفعلا لا خلقا
ألا ترى أن من جعل العبد من أهل السنة مؤثرا في الذات باعانة الله تعالى لا يسميه خالقا باعانة الله تعالى ما ذلك إلا لأن هذه الذات هي الأكوان وكونها ذوات غير صحيح في لغة العرب وفي النظر الصحيح عند محققي أهل المعقول وتسمية الأشعرية لها خلقا لله تعالى لم تصح لغة يوضحه أن إمام الحرمين الجويني والشيخ أبا إسحاق ومن تابعهما من أهل السنة لم يسموا العبد خالقا مع أنهم يقولون أن قدرته هي التي أثرت في ذات فعله وحدها بتمكين الله تعالى ومشيئته تعالى من غير زيادة مشاركة بينه وبين قدرة الله تعالى في تلك الذات التي هي فعله وكسبه
فثبت أن المعنى أن الله خالق كل شيء مخلوق أي يسمى مخلوقا (1/316)
في لغة العرب التي نزل عليها القرآن ولم يكن أحد منهم يقول خلقت قياما ولا كلاما ولا صلاة ولا صياما ونحو ذلك ولذلك ورد الوعيد للمصورين المشبهين بخلق الله تعالى فلو كانت أفعالنا خلق الله تعالى لم يحرم علينا التشبيه بخلق الله تعالى وكذلك لعن الواشمات المغيرات خلق الله تعالى ولا شك في جواز تغييرنا لكثير من أفعالنا ووجوب ذلك في كثير منها وكذلك قال الله تعالى بعد ذكر مخلوقاته من الاجسام وتصويرها وسائر ما لا يقدر العباد عليه من الاعراض هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه وإنما يعرف الخلق في اللغة لايجاد الاجسام ويدل على ما ذكرته ما حكاه الله تعالى وذم الشيطان به من قوله ولآمرنهم فليغيرن خلق الله فدل على أن التغيير الذي هو فعلهم ليس هو خلق الله تعالى بل هو مغاير له ولذلك نظائر كثيرة ذكرتها في العواصم
وقد احتج البخاري في جامعه الصحيح بمثل هذا على أن الكلام لا يسمى مخلوقا فقال في باب قول الله عز و جل ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فرغ عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ولم يقل ما ذا خلق ربكم ذكره في آخر كتابه الجامع الصحيح في الباب الثاني بعد الثلاثين من أبواب الرد على الجهمية وقالت البغدادية الخلق اسم يختص الايجاد بغير مباشرة
فان قال جاهل حجة الاشعرية على أن أعمالنا مخلوقة أنها ذوات لا صفات ولا أحوال ولا يقدر على شيء من الذوات إلا الله تعالى
فالجواب من وجوه الأول أوضحها وهو أنهم لا يقولون بذلك بل يقولون أن أفعالنا هي الاحوال والوجوه والاعتبارات المتعلقة بتلك الذوات وذلك هو معنى الكسب كما تقدم
وثانيها أنهم منازعون في أن الأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ذوات بل هي صفات أو أحوال كما ذهبت اليه (1/317)