للتخصيص ولذلك قال به الدقاق والصيرفي وبعض الحنابلة وغيرهم وربما كان قبح هذه الصورة وأمثالها من أدلتهم على ذلك بخلاف ما نحن فيه وأيضا فأسماء الله وصفاته توقيفية شرعية وهو أعز من أن يطلق عليه عبيده الجهلة ما رأوا من ذلك فلا يجوز تسميته رب الكلاب والخنازير ونحو ذلك من غير إذن شرعي وإنما يسمى بما سمى به نفسه ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه وأما الآلام فيمكن أن تكون عقوبات على ذنوب فتحسن نسبتها إلى المذنب كقول أيوب عليه السلام إني مسنى الشيطان بنضب وعذاب وقال تعالى وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون وفي آية أخرى ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون فسمى عقوباتهم كسبا لهم وعملا وقال ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون إلى غير ذلك مما تقدم في آخر الكلام في الاسماء الحسنى وهذا يدل عليه كثير من الكتاب والسنة كقوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وفي قراءة فبما كسبت أيديكم وجاء ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في تفسير قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به جاء من وجوه شتى قاله أبو عمر بن عبد البر في التمهيد وقد طولت في هذا وجودته في العواصم وهو صحيح فقف عليه هنالك وعلى ما فيه من الآيات القرآنية الكثيرة فلكلام الخليل حينئذ وجه لطيف غير مجرد حسن الخطاب وأما إضافة المعاصي إلى الله تعالى وتسميته خالقها فهو عكس ذلك كله من كل وجه ولا هو معلوم من ضرورة الدين ولا من إجماع المسلمين ولا من الأدلة القاطعة ولا من الأدلة الظاهرة ولا البدعة فيه مأمونة بل ولا هو من المسكوت عنه حتى تكون البدعة فيه لغوية والدلالة ظنية بل مصادم النصوص كتابا وسنة وإجماعا من خير الامة وكونه نقصا مضادا للمادح الربانية ظاهر منه غير خاف فيه فوجب فيه لزوم عبارات (1/308)
الكتاب والسنة والسلف وعدم التمحل لتأويلاتها البعيدة المتعسفة المشكرهة
الوجه الثاني أن الدلالة على بطلان الجبر قاضية بصحة ما ذكرنا من إضافة القبائح والفضائح إلى فاعلها الراغب فيها المختار لعارها وما فيها من الذم والخزي وقبح اضافتها إلى السبوح القدوس المحرم لها الناهي عنها الكاره لها البريء من لومها وذمها ونقصها أصح البراءة ظاهرا وباطنا وحقا وصدقا لا كأكاذيب المداهنين للظلمة المطرين لهم بالممادح الكاذبة فان ذلك إلى الذم أقرب منه إلى المدح لما فيه من التذكير بصحيح القدح ولذلك قيل شعرا
إذا أثنى عليك المراء يوما ... بما هو ليس فيك فذاك هاجي
فكيف برد تمدح الرب عز و جل بالبراءة من ذلك ونسبته إلى أعدائه وتسميته بالسبوح القدوس إلى نحو ذلك
الوجه الثالث إنا قد قررنا غير مرة أن العادة تحيل وقوع مثل هذا وظاهره الخطأ والقبح ولا يظهر تأويله ولا تعارض فيه الاقوال وذلك إن كل ما كثر وتكرر من كلام السلف ولم تعارض فيه الاقوال ولم ينبهوا على تأويله ولم يحذروا من ظاهره ومفهومه وجب أن يكون على ظاهره كأحاديث الاقدار وآيات الارادة ونفوذ المشيئة ومن ذلك كون المعاصي والقبائح والفواحش والفضائح من عبيد السوء المذمومين بها في الدنيا والموعودين بالجزاء في الآخرة عليها
الوجه الرابع إن في ما ذكرناه عن السلف الصالح التصريح بنفي القبائح عن الله تعالى في قول ابن مسعود رضي الله عنه وإن كان خطأ فمن الشيطان والله ورسوله منه بريئان وذلك دليل الحقيقة ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال على جهة الادب أن الكلاب والخنازير ليست من خلق الله تعالى ولا هو ربها وخالقها ومن قال ذلك كفر باجماع المسلمين وهو نظير قول ابن مسعود والله ورسوله منه بريئان أترى ابن مسعود يكون كافرا ويصرح بالكفر بين خير أمة أخرجت للناس وهم سكوت ثم يدونه أئمة المسلمين مقررين له غير منكرين له وابن مسعود هو الذي رضي رسول الله لأمته ما رضي لهم والذي قال فيه عليه السلام إن الله أجاره من (1/309)
الشيطان على أنا لم نقل أن المعاصي من العباد على جهة المغالبة لارادته وإنما قلنا أنها منهم أفعال وذنوب وسوء اختيار كما اجتمعت عليه كلمة أهل السنة والمعتزلة كما علمنا نبينا أن نقول في حديث أبي ذر الذي خرجه مسلم وغيره في الصحاح فيه فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه ولكنا لا نقول كما تقول المبتدعة أنه لا يقدر على هداية أهل الضلال بل نقول كما قال الله تعالى قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين كما تقدم مبسوطا في مسألة المشيئة
الوجه الخامس ان ذلك ان كان أدبا حسنا وثناء مناسبا لاسماء الله الحسى كان نقيضه حراما فقد تقرر عند الأشعرية أنه لا يضاف إلى الله تعالى إلا المدح والثناء دون ما فيه نقص أو ما ليس فيه نقص ولا ثناء وليس في ذلك ثناء ولذلك اعترفوا بأن الأدب تركه وتجنبه وكل ما كان كذلك حرم ولا معنى للادب باللسان دون الجنان وقد تقدم أن ذلك خلاف مذهب الأشعرية وجناية عليهم ولا يجوز خلاف ذلك إلا بدليل صحيح بخلق الكلاب والخنازير على وجه لا يوهم الخطأ
الوجه السادس أن تأويل ذلك على الادب مع الله تعالى لا يحتمل إلا فيما صدر من الرسول ومن أصحابه رضي الله عنهم على أنا قد ذكرنا ما يمنع من ذلك في حقهم أيضا لكن على تسليمه فانا قد ذكرنا من كلام الله تعالى في كتابه الكريم اثنتين وعشرين آية ولا يجوز حملها على ذلك لأن الادب من خواص العباد ولذلك ولا يجوز أن يسمى الله تعالى أديبا كما لا يسمى الادب من خواص العباد ولذلك لا يجوز أن يسمى الله تعالى أديبا كما لا يسمى عاقلا ولا فاضلا بالاجماع فانه أرفع وأعلى من ذلك جل وعلا
الوجه السابع أنه انعقد اجماع المسلمين على وجوب الرضى بما كان من الله تعالى وعلى تحريم الرضى بالمعاصي ووجوب كراهتها وهذا على الحقيقة لا يمكن حمله على الادب وهذا الوجه كان شاف في هذه المسألة وقد اعترف الغزالي به وهو أعظم حجة عليه وقال إنما يجب الرضى بالقضاء بالمعاصي لا بالمعاصي وطول فيه في باب الرضى بالقضاء (1/310)
فصل في تفسير خلق الافعال والاختلاف في ذلك وبيان الأحوط فيه لطالب السنة
اعلم أنا قد بينا فيما تقدم أن السنة هي ما صح واشتهر واستفاض في عهد رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم وتابعيهم وبلغنا متواترا أو مشهورا من غير معارضة ولا شبهة مثل الايمان بالاقدار لتواتره في الأخبار والآثار فليس خلق أفعال العباد من هذا ولا هو قريب منه فلا وجه لكونه من السنة لأن رسول الله حين علم أركان الاسلام والايمان والاحسان لم يذكره ثم لم يصح فيه حديث واحد ولا أثر وأما أخذه من خالق كل شيء فهو خلاف الاحتياط في مواضع الخطر حيث لا ضرورة وهو مثل أخذ المعتزلي من ذلك أن القرآن مخلوق وأمثال هذا مما لا يحصى ويوضح ذلك وجوه
الوجه الأول إن الخلق لفظة مشتركة وأشهر معانيها التقدير ولا نزاع في ذلك والافعال مخلوقة بهذا المعنى بلا نزاع كما هو قول الامام الجويني والشيخ أبي إسحاق واصحابهما من أهل السنة بل هو قول المعتزلة والشيعة ولم يذكر الجوهري في صحاحه للخلق معنى فيما نحن فيه إلا التقدير وكذلك ابن الأثير في نهاية الغريب فانه قال أصل الخلق التقدير ثم فسر خلق الله الاشياء بعد أن لم تكن وانه تعالى يسمى الخالق باعتبار تقدير وجود الأشياء منه أو باعتبار الايجاد على وفق التقدير هذا مع توسعه في النقل وعدم تهمته بعصبية ولا جهل فانه نقل كتابه من ستة عشر مصنفا لأئمة اللغة وهم أبو عبيدة والمازني والاصمعي والقاسم بن سلام وابن قتيبة وثعلب (1/311)
وشمر به حمدويه والأنباري وأحمد بن الحسن الكندي وأبو عمرو الزاهد والخطابي والهروي والأزهري والزمخشري والأصفهاني وابن الجوزي قال وغير هؤلاء من أئمة اللغة والنحو والفقه ولكن لا معنى لتسمية الافعال مخلوقة بهذا المعنى أعني إيجاب اعتقاد ذلك على كل مسلم وإيهام اختصاص أهل السنة به لوجهين أحدهما أنه لا ثمرة له لا خلافية ولا وفاقية وإنما هو مثل تسميتها معلومة ومكتوبة وثانيهما أن عبارات الكتاب والسنة هنا وردت بألفاظ بينة المعاني غير مشتركة بين ما يصح وما لا يصح وقد أجمعت الامة على أنه لا تجوز الرواية بالمعنى والتبديل لألفاظ المعصوم إلا عند الاستواء والمعلوم باليقين حتى لا يجوز تبديل الخفي بالجلي ولا العكس ولا الظاهر الظني بالنص القاطع ولا ما لا اشتراك فيه بالمشترك ولا العكس
الوجه الثاني ما تقدم الآن من اعتبار ما تجب كراهيته ويحرم الرضى به في دقائق هذه المسألة ومضائقها فانه ميزان حق ومعيار صدق وأنت إذا اعتبرته هنا وضح لك الصواب وانكشف لك الارتياب فانه يجب الرضى بخلق الله تعالى الذي هو فعله بالاجماع فلو كانت المعاصي من حيث هي معاص خلقا له وفعلا وجب الرضى بها وفاقا لكن الرضى بها حرام بالنصوص الجمة والاجماع المعلوم من الجميع وهذا وجه واضح لا غبار عليه ولا ريب فيه والحمد لله رب العالمين
الوجه الثالث إن أهل السنة كلهم قد وافقوا على أن أفعالنا لا تسمى مخلوقة من حيث نسبت الينا وإنما تسمى بذلك من حيث نسبت إلى الله تعالى ففارقوا الجبرية في المعاني مفارقة بعيدة وقاربوهم في العبارات مقاربة كثيرة حتى غلط عليهم خصومهم بسبب ذلك ونسبوهم إلى الجبر فينبغي منهم وممن ينصر مذهبهم تجنب العبارات التي توهم مذهب الجبرية ليتم بذلك نزاهتهم منه حتى لا يحتج عليهم بتلك العبارات جبري ولا معتزلي ولا يغلط بسببها عامي ولا سني فقد وقع بسببها خبط كثير وغلط فاحش وقد قال الله تعالى لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا لما وقع في أحد اللفظين من المفسدة دون اللفظ الآخر فلنتكلم مع كل فرقة من فرقهم (1/312)