فصل
ينبغي من كل مكلف أن يطرح العصبية ويصحح النية ويستعمل النظر بالفطرة التي فطر الله الناس عليها ولا يقدم عليها ما لقنه أهل مذهبه فإنه إذا نظر كذلك في كل أمرين متضادين فيما يحتاج إليه يجد ترجيح الحق منهما على الباطل بينا لا يدفع مكشوفا لا يتقنع فاقسم الأمور أولا إلى قسمين قسم لا يحتاج إلى معرفته في الدين الذي تسئل عنه في الآخرة كعلم الفلك ودقائقه وعلم الطبائع وعلم الطب وعلم الفراسة الدالة على الأخلاق الباطنة وعلم النجوم وعلم السحر وعلم الطلسمات وعلم السيمياء وعلم الكيمياء وعلم الرياضة وعلم الفلاحة وعلم الهندسة وعلم المرايا المحرقة وعلم المساحة وعلم الهيئة وعلم الارصاد وعلم الحساب وعلم الشعر وعلم العروض وعلم تجويد الكتابة وقوانينها وعلم اللطيف وعلم الزيجات من الفلك والتقاويم إلى سائر ما ذكر من علوم الأذكياء وأهل الرياضات وقد صنفت كتب في ذكر أعداد العلوم وأسمائها فبلغت مبلغا كثيرا ومن أحسن من صنف في ذلك الشيخ محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري فانه صنف في ذلك كتابا مفيدا سماه ارشاد القاصد إلى أسنى المقاصد وذكر من هذه الفنون التي لم يرد الشرع بوجوب معرفتها ولا ندب إليها قدر أربعين فنا أو تزيد من هذه العلوم وإنما أشرت إليها ونبهتك عليها لتعرف سهولة ما بقي عليك بعد تركها وتيقن صدق قول الله عز و جل يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وتحمد الحمد تعالى على ذلك وأنفعها علم الطب وعلم اللطيف أما علم الطب فنفعه بين لكن التوكل أفضل منه بالنص المتفق على صحته والأجر في الألم (1/34)


لمن صبر عظيم وأعظم مصائب الدنيا الموت والطب لا يمنع منه وهو مهون لما دونه كما قيل في ذلك المعنى شعرا
سلي عن العيش أنا لا ندوم له ... وهون الموت ما نلقى من العلل
لكن الصبر قليل فنسأل الله العافية ولا بأس بتعلم الجلي من الطب
وأما علم اللطيف فهو أساس علم الكلام وتحقيق بعض فوائده يكشف عوار كثير من البدع كما تأتي إليه الإشارة
والقسم الثاني من العلم ما يحتاج إليه في الدين وهو قسمان قسم لم يختلف في حسنه مثل النصوص في الحديث والإجماع من تفسير الإسلام والإيمان الواجب على الجميع دون ما عداه وعلم الزهد بما اشتملت عليه كتبه مما أجمع عليه دون ما اختلف فيه ومن أنفس كتبه رياض الصالحين للنووي لاقتصاره على الحديث القوي وأنفس منه الترهيب والترغيب للمنذري ونحوهما من الكتب الخالية من البدع فهذا القسم الأول لا نتعرض لذكره في هذا المختصر لعدم الاشكال فيه وإنما نتعرض لإيضاح ما فيه اشكال بأقرب الطرق أو أبعدها من الشبه ومن هذا القسم كتب الفروع التي كل مجتهد فيها مصيب أو مأجور وكتب العربية ونحو ذلك إذ لا يمكن رفع الإختلاف فيما اختلف في مثله موسى والخضر وسليمان وداود واختصم في مثله الملأ الأعلى لأنه مراد الله بالإجماع والقسم الثاني المختلف فيه اختلافا تخاف مضرته في الآخرة فما كان لا يجب شرعا (1/35)


الخوض فيه مع عظم الخطر في الخوض فيه فاضرب عنه وطالب من دعاك إليه بالدليل الواضح على الوجوب وأعرض ما أورد عليك فيه من الأدلة على النصحاء والأذكياء من العلماء حتى تعرف الوجوب يقينا من غير تقليد ثم حرر النية الصحيحة بعد ذلك في معرفة الحق وما أوجب الله معرفته طاعة لله لا لمباهاة ولا مراآة ولا مماراة ثم استعن بالله واستغث به وانظر في الخلوات خالطا للنظر بالدعاء والتضرع والاستعاذة من الفتن فإنك ترى بذلك من العون والسهولة ما وعد الله به الداعين له الراجعين إليه فإن الله تعالى إذا أوجب أمرا أعان عليه من أراد الأدلة بنية صحيحة كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإنه قال لو صبروا عليها لطوقوها فلما نقص من تكليفهم نقص من صبرهم رواه البخاري وله شواهد والعقل يشهد لذلك أيضا ومنه كلام معاذ رضي الله عنه حين احتضر رواه الحاكم في الفتن عن يزيد بن عميرة عنه وسيأتي ولا تستعن في ذلك إلا بمن يوثق بورعه ونصحه وتقواه وما أقلهم ولكن أستعن بالنظر في تآليف العلماء الحافلة الجامعة لأدلة الفرق فإن لم تجد كتابا كافلا جامعا لأدلة الفرق طالعت المسألة في كتب الفرق ورأيت حجة كل فرقة في كتبهم لا في كتب خصومهم الذين يسمون أدلة من خالفهم شبها ويوردونها غير مستوفاة ويجيبون عنها بأجوبة محتملة للنقض ولا يذكرون ما يرد على أجوبتهم وهذا عند الإضطرار إلى ذلك ومن القواعد المقربة لك إلى النجاة أن تنظر كل قولين مختلفين يخاف الكفر والعذاب الأخروي في أحدهما دون الآخر فابعد عنه واحذره ألا تراك تخاف الكفر في جحد العلوم لا في ثبوتها وفي جحد الرب لا في الإيمان وفي جحد النبوات لا في إثباتها وفي التفريق بين الرسل كما فعلت اليهود والنصارى لا في الإيمان بجميعهم وفي عدم الإيمان بما جاء به القرآن والسنة لأن خلاف السمع المعلوم كفر اجماعا لا في خلاف العقل المعلوم لأنه ليس كفرا بالإجماع فاعرف هذه القاعدة
واعلم أن الفطرة التي خلق الله لك تدرك القوي من الضعيف في تلك (1/36)


المباحث وإن كثرت إلا ما دق وغمض جدا كما أن عينك المبصرة تدرك جميع المبصرات وإن كثرت فما دق على فطرتك في العلوم تركته لا سيما مع دقته الشبه المعارضة له ولم تكلف فيه ما لم تعلم مثل ما إن دق على بصرك من المرئيات تركته كبعض الأهلة في أوائل الشهور سيما مع القتر والغيم الباب الأول إثبات العلوم
فأول شيء اختلف الخلق فيه اثبات العلوم في الجملة عقلا مع اجتماع الشرائع على ثبوتها فانظر هل يخفي عليك الصواب في ذلك فإن طوائف من الفلاسفة والاتحادية من الصوفية أنكروا صحة العلوم أما الفلاسفة فرأوا البصر الصحيح يخطئ لعوارض نادرة في مواضع كرؤية النجم ساكنا وهو يتحرك قطعا بدليل انتقاله وكذلك رؤية الظل ساكنا ورؤية المستقيم في الماء أعوج ورؤية الأحول الواحد اثنين ورؤية القائم فوق الماء منكوسا في الماء ورؤية السحر والنوم والكشف والمرض وإن كان في رؤية النوم والكشف صحيح وباطل والصحيح منهما قد يحتاج التأويل ولا يكون على ظاهره بكل حال ومن ذلك قوله تعالى ولكن شبه لهم فالذين قصدوا قتل عيسى عليه السلام رأوا مثله فاعتقدوا أنه هو وكذلك قوله تعالى وإذا يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا
والجواب أنا نعلم بالضرورة أن هذه الأشياء كانت لعوارض تختص بهذه المواضع ونحوها ولا يقدح ذلك في جملة الرؤية وجميعها ولا يمكن أن نشك لذلك في وجودنا ووجود العالم وشروق النيرات وإنها تجري فوقنا وتضيئنا وإن الأعمى فاقد لهذه النعمة والأليم مخالف للمعافى ولا يمكن دفع شبههم إلا بوجدان هذا العلم المخلوق فينا نعمة علينا من الله لا بتحرير دليل لأن الدليل إنما يصبح بعد تسليم العلوم الضرورية بل نقول (1/37)


ليس الجنون أكثر من اصغائنا إلى ذلك فلو قال أحد ما يؤمني أن يقظتي هذه نوم أو سحر أو كشف أو أن والدي وداري وأرضي شبهت لي وأن طعامي وشرابي سموم قتالة لكان إلى أن يكوى ويقيد أحوج منه إلى أن يناظر ويجادل
فإذا عرفت هذا بالفطرة مع اعتضادها بالقرآن والسنة والإجماع فاعلم أن هؤلاء إنما أتوا من شدة النظر والتدقيق فيما لا تعرفه العقول لأن دوام الفكرة في المحاورات يضعف الفهم ويمرض صحيحه ومن أمثلة ذلك المجربة بالضرورة كثرة الشك في النية والطهارة فإنه قد أورث الوسواس الفاحش مع جماعة من أكابر العلماء الفضلاء كالشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد ممن بلغ المرتبة الكبرى في العلوم وقد رأينا من أدركنا من كبار أهل العلم والصلاح من لا ينتفع بذلك بالمشاهدة وشك في الضرورة وذلك مستمر في العقلاء وهو عبرة للنظار فإن الوسواس إذا بلغ هذا المبلغ عند الإصغاء إليه فيما لا شك فيه فكيف بمن أصغى إليه فيما يشك في مثله وما أحسن قول القاسم عليه السلام في مثل هذا دواء الشك المرور عليه ولذلك ورد في الحديث المتفق على صحته الأمر بالإستعاذة من الشيطان عند حضور الوسواس أو سماعه سماعا من بعض الناس وهذا الحديث مناسب لقول الرسل صلوات الله عليهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض فيما حكاه الله عنهم في كتابه الكريم
وأما الاتحادية المدعون للتصوف وليس هم منه في شيء فهم الذين قالوا إن المكاشفة قد دلت على صحة المحال وهذا غاية التغقيل والضلال إن صح عن أحد فانه يقال لهم إن كان كذب المكاشفة محالا فقد دلت على صحته فيصح أن تكون كاذبة وإذا صح كذبها لم يوثق بها وإن كان كذبها ممكنا لم يوثق بها ولم يصح لها اسم الدلالة فثبت أنه لولا امتناع (1/38)

6 / 83
ع
En
A+
A-