فصل
في بطلان القول بأن المعاصي من الله تعالى الله عن ذلك على جميع هذه المذاهب الأربعة عشر مذهبا إلا على مذهب الجهمية الجبرية وهذا أوضح من أن يحتج عليه ويوضح الاجماع عليه أنه لا خلاف بين أحد من أهل الاسلام في وجوب كراهة معاصي الله تعالى ومساخطة من الاعمال ولا في وجوب الرضى والتحسين لجميع ما كان منه سبحانه وتعالى وذلك يوجب أن القبائح كلها ليست منه عز و جل كما سيأتي بيانه بعون الله تعالى ولكن فرق أهل السنة الاربع لما كانوا يحتجون مع فرقة الجبرية الجهمية في رد كثير من مذاهب المعتزلة المقدمة في مسألة المشيئة وفي هذه المسألة أخذ بعضهم من عبارات بعض وقل من يدرك التفاوت بين العبارات كما قدمت ذكره مطولا في مقدمات هذا المختصر وكانت هذه العبارة من عبارات الجبرية الجهمية وربما يوجد في كلام بعض السلف أن الخير والشر من الله يعنون به الصحة والسقم والغنى والفقر ونحو ذلك فجاء من بدل ذلك من الجهلة بالطاعات والمعاصي كما يدل ولو شاء الله ما أشركوا بأنه مريد للشرك وبدل مريدا براض محب وبدلت الاتحادية راض محب بآمر مثيب كما تقدم وكم وقع من الضلال العظيم من تبديل العبارات وظن تماثلها ولذلك بنيت هذا المختصر على منع ذلك بالمرة فلما كثر القول من الجهمية بأن المعاصي من الله تعالى ظن كثير من متكلمي السنة أنها في قوة أن المعاصي مقضية مقدرة سابقة في علم الله تعالى وقضائه وقدره الذي لا مرد له مع اختيار العباد في فعلها وقدرتهم عليها خصوصا من لم يكن منهم من أئمة علم العربية الذين ربما زادهم رسوخهم فيه عن مثل هذا الوهم الفاحش (1/298)
مثل الغزالي فانه اعترف أنه لم يعرف من العربية إلا القدر الذي يميز به شنيع اللحن ولذلك أكثر من التصريح بأن جميع المعاصي والكفر والفواحش من الله تعالى ولولا أنه صرح مع ذلك القول بالكسب وأن الجبر باطل بالضرورة ما استربت في أنه جبري وأكثر المغترون به من أهل السنة وعوامهم من ذلك حتى حملني ذلك على جمع شيء كثير في التعريف ببطلان ذلك وقد أودعته العواصم وإنما اختصرت منه اليسير واذكره هنا لعل الله ينفع به من بقيت فيه بقية من التمييز ولبيان الخطأ في هذه العبارة ذكرت المذاهب والفروق بينها وعنيت في تمييز بعضها من بعض وطولت في تلخيص ذلك ليتضح الحق من الباطل لأنه أعظم ما طلبه الله تعالى من عباده وأكثر ما بعثت له الرسل الكرام كما أقسم الله عليه في سورة العصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وكما قال تعالى بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وكما قال الله تعالى الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ولو لم ينزل في شرف العلم سواها لكانت كافية
أقول وبالله التوفيق الدليل على بطلان ذلك العقل والسمع
أما العقل فلأن القبائح عنده إما أن تكون من الله تعالى وحده تعالى عن عن ذلك علوا كبيرا ولا أثر فيها من العباد فهذا محض الجبر وقد اعترف أن الجبر باطل بالضرورة ولولا ذلك لذكرنا هنا ما يخزي الجبرية ويفضحهم ويعرف بأنهم من سقط المتاع الذين لا يستحقون مناظرة العلماء العارفين والاذكياء البارعين وإنما حقهم أن يجري عليهم أحكام أئمة العدل على حسب آرائهم من تنكيل وتطريد أو قتل فحين اعترف بالحق وناقضه في عبارته لم يكن له بد من أن يجعل لقدرة العبد نصيبا وأثرا وهو قوله فاما أن يجعله الكسب القبيح دون الخلق الحسن الذي هو من الله تعالى كما هو مذهب أصحابه الاشعرية وصح الامر في غلطه في قبح عبارته أو يجعل (1/299)
نصيب العبد من الفعل وحظه وأثر قدرته أمرا آخر غير المعاصي والقبائح وغير الخلق والايجاد فهذا شيء لا يعقل ولا يتصور فان ظن أن ذلك يصح على المذهب الأول من مذاهب أهل السنة وهو مذهب من لا يميز أثر قدرة العبد بالذات فقد غلط وأفحش في الجهل فقد ذكرنا قبل أنهم يميزون بينهما بالوجوه والاعتبارات وأنهم لا يميزون بينهما بالذات ومعنى ذلك أنهم يقولون أن العبد فعل مقدوره على جهة المخالفة لمولاه غير مستقل بنفسه فكان من هذا الوجه معصية والرب عز و جل فعل ذلك المقدور بعينه مستقلا على وجه الامتحان والابتلاء لحكمته البالغة وحجته الدامغة فلذلك يشتق له تعالى من فعله ذلك من الاسماء ما لا يشتق لعبده من نحو الخالق المبدع الحكيم المبتلي في المعاصي المعين في غيرها ويشتق للعبد من ذلك المقدور بعينه ما يستحيل على الله تعالى من الظالم الفاسق العاصي الخبيث العاجز المفتقر ونحو ذلك فلو لم تفترق الافعال بالوجوه والاعتبارات لم تفترق الاسماء المشتقات مع فرض اتحاد الوجوه والذات جميعا فان كان أراد بذلك الترجمة عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله وأصول الأشياء فكان يلزمه الاقتصار على عبارتهما فانها أصح وأشرف وأبرك وأسلم وإن كان أراد الترجمة عن مذهب الأشعرية فقد عظمت جنايته عليهم فان الرجال صرحوا بأن الأفعال لا تضاف إلى الله تعالى إلا خلقا وإيجادا وابداعا وذواتا وأعيانا مجردة عن الوجوه التي تعلق بها قدر العباد ويوقعونها عليها فتكون لأجلها معاصي قبيحة مستلزمة للذم والنقص في المنهيات وللذلة والخضوع في العبادات وللافتقار والحاجة إلى الله تعالى في التمام وقضاء الحاجات ونحو ذلك مما لا يجوز على بارئ البريات فكيف نجعلها من الله تعالى حيث تكون واقعة على هذه الوجوه والاعتبارات ولولا تنزيههم لله تعالى ما تكلفوا القول بالكسب ولا فارقوا أهل الجبر وردوا عليهم وترفعوا عن خسيس مقامهم وشنيع ضلالهم
ولو كانت المعاصي من الله تعالى كان عاصيا وقد تمدح بالمغفرة ولا تصح المغفرة منه لنفسه ولا لمن ليست الذنوب منه قطعا ولذلك قال تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم فمدحهم بذلك وصح في سيد (1/300)
الاستغفار أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي وأجمع أهل اللغة والغريب أن المعنى أقر واعترف بذنبي ومن المحال أن يكون المعنى أقر واعترف أنه ليس مني فان هذا مناقضة للاقرار والاعتراف
ومن زعم أن المفر المعترف بالذنب هو المتبرئ أن يكون منه ألبتة لم يكن أهلا للمناظرة ألا ترى أن المستغفرين إذا قالوا اللهم اغفر لنا ما كان منا كانت عبارة صحيحة بالاجماع بل بالضرورة ولو قالوا اللهم اغفر لنا ما كان منك كانت عبارة باطلة بالاجماع بل بالضرورة بل قد صرح القرآن بذلك في الطاعات التي تحسن اضافتها إلى الله تعالى كما يحسن منه تعالى أن يتفضل بالهداية اليها قال الله تعالى حكاية عن الخليل والذبيح عليها السلام ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ولم يقل ربنا تقبل منك وأمثال هذا كثير فكيف باضافة الفواحش والمخازي إلى السبوح القدوس بهذه العبارة جل وعز وتبارك وتعالى عن ذلك وتقدست أسماؤه الحسنى وله المثل الأعلى
وقد تتبعت القرآن والسنة النبوية والآثار الصحابية فلم أجد لما أدعوه في ذلك أصلا بل وجدت النصوص في جميع هذه الاصول رادة لهذه البدعة فمن القرآن قوله تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر فمن خاف من موص جنفا أو إثما فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله قل هو من عند أنفسكم وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأما قوله تعالى قبلها قل كل من عند الله فلأن المراد بالسيئة عقوبة الذنب وبالحسنة المثوبة على الحسنة ولذلك قال ما أصابك ولم يقل ما اصبت ولكنها تضاف إلى العبد اضافة المسبب إلى فاعل السبب كقول أيوب إني مسني الشيطان بنصب وعذاب لما كان عقوبة على ذنبه وقوله (1/301)
تعالى ذوقوا ما كنتم تعملون وفي آية تكسبون فالسيئة التي هي كسب العبد لا تضاف إلا اليه والسيئة التي هي عقوبة تجوز اضافتها الله تعالى وإلى فاعلها وإنما رد عليهم بقوله قل كل من عند الله اضافتهم العقوبة على الشرك إلى رسول الله حين تشاء مؤابة فلم يضيفوها إلى خالقها سبحانه وتعالى ولا إلى فاعل سببها
ومن الآيات في الباب الذي نحن فيه حسدا من عند أنفسهم ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم إلا بحبل من الله وحبل من الناس ففرق بين ما هو من الله وما هو من الناس إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وهذا الحلال كيف الحرام ولا تزال تطلع على خائنة منهم وإما تخافن من قوم خيانة ولكن يناله التقوى منكم كبرت كلمة تخرج من أفواههم فإن أتممت عشرا فمن عندك وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فتصيبكم منهم معرة بغير علم لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وهاتان الآيتان الاخيرتان مصدرتان بأنما التي تفيد الحصر وقصر هذا على أنه من الشيطان دون غيره على جهة الذم لما كان منه والكراهة له والبراءة منه من ذمه وخبثه وشرعه والامر به (1/302)