المخلصين بفتح اللام وكسرها فالفتح نسبة إلى الله تعالى والكسر نسبة إلى العبد وقوله تعالى وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وقوله فأخرجناهم من جنات وعيون مع أنهما فعل قوم فرعون حقيقة وقوله تعالى ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء وقوله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء وقول الله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين مع قوله لولا أن رأى برهان ربه وقوله قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وقوله تعالى ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا وقوله تعالى واصبر وما صبرك إلا بالله وقوله تعالى وقال الذين أوتوا العلم والايمان مع نسبة الايمان إلى فعل المؤمنين في آيات كثيرة وهذا باب واسع في السمع وهو صريح في الطاعات كما تقدم تحقيقه وأما في المعاصي فالذي تحقق في السمع أنه لو شاء ما عصى على ما مر ملخصا في الارادة وإضافة أفعال العباد اليهم أكثر وأوضح فأرادوا الجمع بنسبة ما يسى خلقا إلى الله تعالى ونسبة ما يسمى كسبا وطاعة ومعصية إلى العباد ولم يريدوا بكون الافعال خلق الله تعالى نفي كونها أفعال العباد كما لم يريدوا بكونها كسبا للعباد نفي أنها خلق الله
وبالجملة فلم يريدوا نسبتها إلى الله تعالى وحده من كل جهة إذ لم تكن كسبا ولا طاعة ولا معصية فان الطاعة والمعصية من الله تعالى وحده محالان ولا أرادوا نسبتها إلى العباد وحسم لاعتقادهم أنها تسمى مخلوقة وأن الخلق من العباد محال (1/288)


قال الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى قال صاحب المعتمد يعني أبا الحسين أن الجهم بن صفوان ذهب إلى أن الله تعالى خالق لأفعال العباد فيهم وليسوا محدثين لها ولا مكتسبين لها وذهب النجار والاشعري إلى أنه خالقها وهم يكسبونها وهو المشهور من مذهبهم وبه قال أكثر أهل السنة فنفرد لكل طائفة من الجبرية الخالقية والكسبية مسألة على حدة
والحاصل أن المخالفين كلهم قالوا بقدرة العبد لكن الفلاسفة زعموا أن القدرة هي علة الفعل مع الداعي والاسفرايني زعم أنها جزء من علة الفعل الموجود بالقدرتين والباقلاني زعم أنها علة الكسب والجهم زعم أنها معنى لا تأثير له في الفعل أصلا لكنه يوجد متعلقا به اه . وفيه تحقيق بالغ كما سيأتي بيانه ومثله ذكر ابن بطال في شرح البخاري فانه يسمي الجبرية جهمية ويخص الجهمية بالجبر ويوجه الردود اليهم خاصة كما هو معروف في شرحه لأبواب القدر
وقال الرازي في تفسيره مفاتح الغيب ان اثبات الاله يلجئ الى القول بالجبر واسال الرسل يلجئ الى القول بالقدر بل ههنا سر آخر وهو فوق الكل وهو أنا لما رجعنا الى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا ما استوى الوجود والعدم بالنسبة اليه لا يترجح أحدهما الا بمرجح وهذا يقتضي الجبر ونجد أيضا تفرقه بديهية بين الحركات الاختيارية والاضطرارية وجزما بديهيا بحسن المدح والذم والامر والنهي وذلك يقتضي مذهب المعتزلة فكان هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية وبحسب العلوم النظرية وبحسب تعظيم الله تعالى نظرا الى قدرته وبحسب تعظيمه سبحانه وتعالى نظرا الى حكمته وبحسب التوحيد والنبوة وبحسب الدلائل السمعية فلهذا الذي شرحناه والاسرار التي كشفنا حقائقها صعبت المسألة وعظمت فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق
وقال البيضاوي في كتابه طوالع الأنوار وقد ذكر احتجاج المعتزلة (1/289)


بالآيات الدالات على أن أفعال الله تعالى لا توصف بصفات أفعال العباد من الظلم ونحوه فيجب الفرق بينهما ثم قال ما لفظه واجيب بان كونه ظلما اعتبار يعرض في بعض الأحوال بالنسبة الينا لقصور ملكنا واستحقاقنا وذلك لا يمنع صدور أصل الفعل عن الباري تعالى مجردا عن هذا الاعتبار
وأعلم أن أصحابنا لما وجدوا تفرقة بديهية بين ما نزاوله وبين ما نحسه من الجمادات وزادهم قائم البرهان عن اضافة الفعل الى العبد مطلقا جمعوا بينهما وقالوا الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد على معنى أن العبد إذا صمم العزم فالله يخلق الفعل فيه وهو أيضا مشكل ولصعوبة هذا المقام أنكر السلف على الناظرين فيه ا ه بحروفه
وأعلم أن تسمية الرازي لمذهب الأشعرية جبرا شيء تفرد به دونهم ودون غيرهم وهو خلاف منه في العبارة فقد صرح في نهاية العقول ببقاء اختيار العبد مع هذا الذي يسميه جبرا والمرجع به عنده إلى وقوع الراجح بالدواعي فانه في النهاية لما ذكر انه يلزمهم قبح المدح والذم والامر والنهي أجاب بان مذهبهم ان الاختيار الى العبد فان اختار الطاعة خلقها الله فيه عقيب اختياره وكذلك المعصية كما تقول المعتزلة في المسببات كلون المداد وصبغ الثياب وازهاق الارواح والسحر ونحو ذلك وقد تطابق الرازي والبيضاوي والشهرستاني على نسبة هذا الى الاشعرية قال الرازي وهو الوجه في توجيه الأمر والنهي اليهم فقد أجمعوا بنقل أئمة مذهبهم هؤلاء على ثبوت الاختيار للعبد وان كان الاختيار واجبا بالداعي قال الرازي مثل ما أجمعت المعتزلة على ثبوت الاختيار لله تعالى وان كانت أفعاله واجبة بالدواعي فانه لا يجوز عليه اخلال بواجب ولا فعل لقبيح قطعا مع ثبوت الاختيار منه في ذلك
واعلم أن هذا القدر كاف في هذه المسألة دون زيادة عليه أعني معرفة اختيار العباد وتمكين الله تعالى لهم وقيام حجته بذلك عليهم مع سبق قضائه وقدره وقدرته على هدايتهم أجمعين وحكمته في ذلك كله
وأما بيان أقوالهم التفصيلية في ذلك فاعلم انهم اختلفوا في القدر المقابل بالجزاء والقدر المخلوق على قولين
القول الأول ان فعل العبد الاختياري كسب للعبد مخلوق لله تعالى (1/290)


مقدور بين قادرين وكذلك اختياره لذلك الكسب وهو مخاطب بالامر والنهي مجازى على أفعاله بالثواب والعقاب لما له في فعله واختياره من الكسب الاختياري لا لما الله فيهما من الخلق والتقدير السابق من غير تمييز للقدر المكسوب من القدر المخلوق الا بالوجوه والاعتبارات فان الفرق بها ضروري لان معنى ذلك ان العبد فعل ما فعله من ذلك طاعة وعصيانا ولولا انه اوقفه على ذلك بارادته لذلك ونيته لم يوصف بذلك ولا تميزت الطاعة من المعصية والله سبحانه فعل ما فعل من ذلك امتنانا وامتحانا على ما يأتي ولو فعله على الوجه الذي فعله العبد لسمى مطيعا وعاصيا وذلك محال في حقه وانما يسمى بأفعاله خالقا ومحسنا ومبتليا وحكيما وانما قالوا ذلك وتركوا التمييز جمعا بين الأدلة المتعارضة المتقدمة وفرارا من الخوض فيما لم يخض فيه السلف من الفروق الدقيقة بين هذه المعاني على نحو قول أبي علي الجبائي في تلاوتنا للقرآن انه كلام الله تعالى حقيقة وكلامنا حقيقة وأن الله يتكلم مع كل قارئ سواء كان صادق النية مطيعا أو مرائيا عاصيا قال بذلك جمعا بين الادلة أدلة العقل على ان التلاوة فعلنا وكلامنا ودلالة الاجماع على ان كلام الله تعالى هو المتلو في المحاريب المكتوب في المصاحف ولذلك التزم أن كلام الله في المصاحف حقيقة وان الصوت كامن في الحروف كما نقله عنه ابن متوية في التذكرة وغيره فلم تلزمه المعتزلة الجبر بذلك ولا الضلال والكفر فكذلك كثير من أهل الحديث والاثر اعتقدوا مثل ذلك في سائر أفعال العباد على جهة الايمان بأن الله خالق كل شيء
واختار هذا من متكلميهم جماعة وهو ظاهر عبارة البيضاوي في الطوالع والسبكي في جمع الجوامع والغزالي في الاحياء فانه نص فيه على بطلان الجبر بالضرورة وعلى خلق الاختيار والفعل وروى هذا صاحب الجامع الكافي من علماء أهل البيت المتقدمين عن الامام أحمد بن عيسى بن زيد بن علي عليهم السلام وروى فيه عن أحمد بن عيسى انه روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ان رجلا سأله عن أفعال العباد فقال هي من الله خلق ومن العباد فعل لا تسأل عنها أحدا بعدي قال أحمد بن عيسى بعد روايته انما يعذب الله العباد على فعلهم لا على خلقه (1/291)


قلت رواه منقطعا بغير اسناد ولو صح مثل هذا عن علي عليه السلام أو عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم ما غفل عن تدوينه أهل الحديث قاطبة وظاهر كلام السيد أبي عبد الله الحسني في الجامع الكافي ان هذا مذهب أهل ذلك العصر من أهل البيت وشيعتهم فانه ذكر ذلك عن محمد بن منصور عن أحمد ابن عيسى ولم يذكر خلافا لأحد
فاما الطاعة والخير فلا نكارة في مشاركة الرب لعبده فيه كما قال تعالى اياك نعبد واياك نستعين وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء ولكن لا حجة لهم في ذلك على عدم تمييز فعل العبد من فعل الله أصلا بل ظاهر الآيات يعطي التمييز بينهما وأكثر ما يلتبس مثل قول عيسى عليه السلام وأبرئ الاكمة والابرص واحيي الموتى باذن الله ولا شك ان الذي من عيسى عليه السلام انما هو الدعاء الى الله تعالى أو الأمر لهن بذلك كما قال لابراهيم عليه السلام ثم ادعهن يأتينك سعيا بل كما قال عيسى فانفخ فيه طائرا باذن الله فميز فعله الذي هو النفخ في الصورة فقط
وأما في المعاصي فهو المشكل والذي وجهوا فيه انه يمكن من طريق الابتلاء ان يفعل الله من ذلك ما يتم به تمكين العبد من فعل القبيح كخلقه للقدرة عند الجميع لكن عند هؤلاء انه لا يتم التمكين بها وحدها لاستحالة ذلك عندهم عقلا وسمعا فلابد من أمر زائد على خلق القدرة لحكمة الله تعالى في تمام الابتلاء ومثال ذلك قوله في السحر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله وقوله وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وقوله تعالى فأخرجناهم من جنات وعيون وتسمى في المعاصي ابتلاء وامتحانا وفي الطاعات لطفا ومعونة ومثال ذلك عند الجميع فعل (1/292)

57 / 83
ع
En
A+
A-