وللحق ويقضي الحق ولذلك تسمى سبحانه وتعالى بالحق وكان قوله الحق وحكمه الحق فهو سبحانه وتعالى الحق اسما ومعنى وقضاء وقصصا وفعلا وقولا وخلقا وأمرا وعدلا وفصلا وابتداء وانتهاء ودنيا وآخرة كل ذلك حقيقة لا مجازا ولا تخبيلا ولا استعارة ولا مبالغة وتفاصيل ذلك ما لا يحصيه الحاسبون ولا يجمعه الكاتبون ولا يحيط به الراسخون ولا يبلغه العارفون ولايستقصيه الحامدون
ولذلك قال رسول الله سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فهذا كلام سيد ولد آدم والذي تقدم للشفاعة حين تأخر من تقدم فكيف أيها العقلاء يكون هذا كلامه وهو إمامنا وقدوتنا ومعلمنا ورسوله ثم نتأول ممادح الرب الحميد المجيد نحن ونقول أنها تقتضي بحقائقها الذم وهو الذي لا أحد أحب اليه المدح منه ولذلك مدح نفسه فاتقوا الله وتأدبوا مع كتب الله ولا تضربوا بعضها ببعض ولا تبادروا إلى القدح في ظواهرها والتحكم في تأويلاتها والله سبحانه وتعالى هادينا الجميع وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهذا آخر الكلام في مسألة الارادة ومباحثها على حسب هذا المختصر والحمد لله رب العالمين
ويتعلق بهذه المسألة الكلام في القضاء والقدر وأنه لا يدل على الجبر بالنص والاجماع وقد كثرت الاحاديث في وجوب الايمان به كثرة توجب التواتر فقد ذكرت منها في العواصم أكثر من سبعين حديثا وذكرت مع ذلك نحو مائة وخمسين حديثا في صحة ذلك مما ليس فيه ذكر وجوب الايمان به وذكرت مما ورد من كتاب الله تعالى نحو مائة آية منها قوله تعالى إنا كل شئ خلقناه بقدر وقوله تعالى وكل شيء عنده بمقدار وقوله تعالى إلا امرأته قدرناها من الغابرين وفي آية أخرى قدرنا أنها لمن الغابرين وقوله تعالى (1/278)
كان على ربك حتما مقضيا وقوله تعالى وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لنفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كثيرا وقوله تعالى وأهلك إلا من سبق عليه القول وقوله قضي الأمر الذي فيه تستفتيان وقوله في هود وفي السجدة لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقوله وكان أمر الله قدرا مقدورا وقوله ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء وقوله تعالى ويقللكم في اعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وقوله تعالى ولو تواعدتم ثم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا وقال تعالى وتمت كلمة ربك لاملأن جهنم وأمثال ذلك وإنما المهم من ذلك معرفة معنى القضاء والقدر وأن أحدا لم يقل أن معناهما هو الجبر وسلب الاختيار وكيف يكون كذلك وقد ثبت تعلق القضاء والقدر بأفعال الله تعالى كما قال كان على ربك حتما مقضيا وهو سبحانه مختار بغير شك ولا خلاف
واعلم أن أكثر الاخبار وأقوال السلف تدل على أن القضاء يرجع إلى كتابة ما سبق في علم الله تعالى وتيسير كل لما خلق له على ما جاء في قوله تعالى فاما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى على ما مضى تفصيله في الخلاف الخامس من المبحث الثامن في الارادة
وقد ذكر الطبري أن الجبر هو الاكراه على الشيء كالمسحوب على وجهه وأن أهل المعاصي يأتونها برغبتهم اليها وهم مستلذون بها بل منهم من يقاتل من دفعه عنها وهذا نقيض الجبر في اللغة وبطلان الجبر معلوم بالضرورة على الصحيح وهو قول أبي الحسين من المعتزلة وأكثر أهل السنة والله سبحانه وتعالى أعلم وسيأتي في مسألة الافعال بيان ذلك إن شاء الله (1/279)
تعالى ثم أنه ورد النهي عن الخوض في القدر وفي أحاديث عرفت منها عشرة وليس فيها شيء متفق على صحته ولا خرج البخاري ولا مسلم منها شيئا لكن خرج أحمد بن حنبل منها حديثا من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي طريق مختلف فيها اختلافا كثيرا وهو يصلح مع الشواهد وخرج الترمذي منها حديثا عن أبي هريرة وقال غريب وفي سنده صالح المزي لكن خرج البزار له اسنادين آخرين قال الهيثمي رجال أحدهما رجال الصحيح غير عمر بن أبي خليفة وهو ثقة وإن لم يكن من رجال الصحيح وخرج الطبراني في المعجمين الاوسط والكبير والحاكم حديث ابن عباس في ذلك وقال الحاكم صحيح على شرطهما ولا نعلم له علة
قلت رواه السبكي موقوفا ولم يذكر رفعه وإن سلم من الاعلال بذلك كان أصلحها اسنادا ومعنى ذلك إذا صح إن شاء الله تعالى التحذير من مجاراة المبتدعة في القدر والمراء بغير علم على وجه يؤدي إلى إثارة الشر والشك كما هو ظاهر حديث أبي هريرة وأخر الكلام في القدر لشرار أمتي في آخر الزمان فالذي أخر هو ما ذكرته فأما الخوض فيه على جهة التعلم والتعرف لما جاءت به الشريعة ثم الايمان به بعد معرفته على الوجه المشروع فان هذا لم يؤخر لشرار الامة بل قد تواتر أن أصحاب رسول الله سألوا النبي وخاضوا في معرفته وفي وجوب الايمان به فلم يزجرهم عن ذلك القدر ولم يترك الجواب عليهم بالقدر الواجب على بيان ذلك
وقد احتج ابن عبد البر في التمهيد على ذلك بمحاجة آدم وموسى وهو من أثبت الاحاديث وأصح ما قيل في معناه أن لوم موسى لآدم كان على الخروج من الجنة واخراجه ذريته منها على جهة الأسف على فوات هذه النعمة وتلك في الحقيقة مصيبة من فعل الله قدرها بسبب ذنب آدم عليه السلام لحكمته في ذلك ولما قد علمه وقضاه من خلافة آدم عليه السلام في الأرض وإلا فذنب آدم عليه السلام صغير لأنه نبي معصوم عن الكبائر وقد تاب أيضا والمذنب التائب لا تجب عليه العقوبة بالخروج من داره ولا بغير ذلك فاحتج آدم بسبق القضاء في الخروج الحسن لأنه من فعل الله تعالى (1/280)
ولم يحتج به على حسن ذنبه أبدا وهو الذي قال ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
وقد أجمع أهل الاسلام على أن القدر يتعزى به أهل المصائب ولا يحتج به في المعائب فهذا معنى الحديث ووجهه وقد بسط في موضعه وحديث القدرية مجوس هذه الأمة ضعيف عند المؤيد بالله عليه السلام وعند المحدثين وقول الحاكم أنه صحيح على شرطهما إن صح سماع أبي حازم مع ابن عمر شره في التصحيح فانه لم يصح ذلك وتصحيح كل ضعيف على شروطه معدوم وإن فسر القدر بالعلم ونحوه فالمذموم من نفاه وإن فسر بالجبر والاكراه فالمذموم من أثبته وقد بسط هذا في موضعه
القول في مسألة الأفعال
وهي مسألة خلية عن الآثار وإنما خلت عنها لأن لها طرفين أحدهما جلي وكانوا لا يسألون عن الجلي لجلائه والآخر خفي وكانوا لا يتعرضون لأمثاله تارة لعدم الحاجة اليه وتارة لعدم الوقوف عليه ولأن ما لا يوقف عليه لا يحتاج اليه وهما داخلان في البدعة التي نهوا عنها وكانوا أبعد الناس منها ولأن الاشتغال بتقرير قواعد الاسلام وجهاد أعدائه الطغام وعبادة الملك العلام وأمثال هذه المهمات العظام كانت قد استغرقت السلف رضي الله عنهم وأعاد علينا من بركاتهم وردنا عن الزيغ والغلو إلى الاقتداء بهم
وأنا أذكر إن شاء الله تعالى طرفا صالحا من بيان هذين الطرفين وبيان أقوال الناس في هذه المسألة لفائدتين في الدين احداهما معرفة ما ابتدع في ذلك من الأقوال حتى يجتنب عن بصيرة فربما ظن بعض الناس في بعض البدع أنها سنة لعدم اهتمامه بتمييز السنة من البدعة وعدم تفرغه أو صلاحيته للبحث عن ذلك وثانيتهما ليترك الجاهل التكفير من غير بصيرة حين يعلم (1/281)
أنه لم يحط علما يقينا بماهية الاقوال أو يحكم بعلم حين يتحقق ذلك والله الموفق وفي حديث ابن مسعود عن رسول الله أنه قال أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم وأعلمهم أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العلم وإن كان يزحف على أسته الحديث خرجه الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على أسته الحديث خرجه الحاكم في التفسير في سورة الحديد وقال صحيح الاسناد وهو كما قال والله سبحانه أعلم
فأما الطرف الجلي الذي لم يبحثوا عنه لجلاله فهو أن لنا أفعالا متوقفة على همنا بها ودواعينا اليها واختيارنا لها ولذلك شذ المخالف لذلك من الجبرية ونسب إلى مخالفة الضرورة ولم يخالف في ذلك أحد من أهل السنة ولا من طوائف الأشعرية بل نسب الرازي الجبرية إلى البراءة من ذلك وانما أراد من تسمى باسم الجبرية من الاشعرية وهو شيء يختص به الرازي وحده فيما علمت فانه يصحح الجبر في كثير من عباراته ويعنى به وجوب وقوع الراجح من الفاعل المختار وصرح ببقاء الاختيار مع تسميته جبرا
وأما الخفي الذي عظم فيه الاختلاف ودق وكثر فهو معرفة حقيقة أفعال العباد على جهة التعيين والتمييز لها عن سائر الحقائق وقد اختلف في ذلك على أربعة عشر قولا أو يزيد للمعتزلة منها ثمانية وللسنية والاشعرية أربعة وللجبرية قولان وهي هذه مسرودة
الأول من أقوال المعتزلة أن الذوات كلها ثابتة في العدم أزلية غير مقدورة لله تعالى ولا بخلقه الاجسام منها والاعراض وذوات أفعال الله تعالى وذوات أفعال العباد أعني ذوات الحركات والسكنات وأنها في العدم والأزل ثابتة ثبوتا حقيقيا في الخارج ثبوتا يوجب تماثلها فيه واختلافها عنه وأن المقدور لله تعالى ولعباده أمر آخر غير الذات ولا وجودها ولا مجموعهما بل جعل الذات على صفة الوجود وقد ادعى الرازي وغيره من أصحاب أبي الحسين من المعتزلة أنه غير معقول فانه لا يتصور إلا برده إلى أحد الأمور الثلاثة وهو أيضا يبتني على ثبوت الذوات في الازل والعدم وعلى الفرق بين الثبوت والوجود وعلى ثبوت الدليل القاطع على أن الوجود أمر (1/282)