ويدل على ذلك قول يوسف عليه السلام وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين بل قول الله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء وقوله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين وأبو علي يحمل ذلك في الابتداء على فضله العام بخلقه
وروى الحاكم في تفسير سورة ص من حديث ابن عباس ان سبب ذنب داود عليه السلام انه قال اللهم انك تعلم انه لا يمضي ساعة من ليل أو نهار الا وهو يصعد اليك عمل صالح من آل داود يعني نفسه فعتب الله تعالى ذلك عليه وقال أما علمت انه لولا اعانتي لك الحديث وروى نحو ذلك في سبب ذنب آدم عليه السلام وروي الحاكم وأحمد من حديث زيد بن أرقم مرفوعا وان تكلني الى نفسي تكلني الى ضيعة وضعف وذنب وخطيئة وقال الحاكم فيها كلها انها صحاح والقرآن يدل على ذلك ويغني عنه كما تقدم وهذه التخلية في الابتداء لا تسمى اضلالا لقوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين ولقوله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم كما تقدم وانما تسمى ابتلاء كما قال تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا والله تعالى لم يقل انه لا يبتلي به إلا الفاسقين انما قال وما يضل به الا الفاسقين كما انه لا يعذب غيرهم فالاضلال من جنس العقاب وقد دل السمع على ان الله خلق الخلق في الابتداء على الفطرة نعمة ورحمة للأوليائه ونقمة وحجة على اعدائه كما خلقهم كذلك في الخلق الأول في عالم الذر كما جاء في الاحاديث التي لا مانع من صحتها وقد أوضحتها في كتاب العواصم في الوهم الثلاثين منه في تفسير قوله تعالى وله اسلم من في السموات والارض طوعا وكرها ثم دل القرآن على ان الله تعالى يبدأ باللطف ثم يعاقب من يشاء ممن لم يقبل اللطف (1/273)


قال الله تعالى إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا وقال ثم السبيل يسره وقال وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى وقال تعالى في بيان ذلك وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ودل السمع أيضا على انه تعالى يبتدي بالاحسان من غير استحقاق ولا يبتدي بالعقوبة من غير استحقاق بل يمهل بعد الاستحقاق ويحكم ويكرر الحجة ويعذر ويعفو عن كثير كما قال تعالى ثم ينتقم ممن يشاء بالحكمة البالغة ويعفو عمن يشاء بالرحمة الواسعة كما قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير والمصيبة في الدين أعظم المصائب وقد جاء ذلك في أمور الدين منصوصا في قوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وجعلنا قلوبهم قاسية وقوله وأضله الله على علم أي علم باستحقاقه الاضلال وأصرح من ذلك قوله وما يضل به إلا الفاسقين فما كان على جهة العقوبة لم يفعله الله به ابتداء قبل الاستحقاق وما كان على جهة الابتداء الذي لا يصح التكليف إلا به فعله وما زاد على ذلك مما يقع عنده المعاصي فهو مسألة الخلاف
فان قيل إن القول ان العبد يضل في الابتداء باختياره بغير اضلال من الله يؤدي إلى أنه يملك لنفسه نفعا وضرا على جهة الاستقلال وهذا مما يمنعه السمع
فالجواب من وجهين الأول أنه لا يؤدي إلى ذلك إلا لو قلنا أنه الذي خلق نفسه فسواها فألهمها فجورها وتقواها وخلق قدرته وتمكنه وقدر لنفسه أفعاله ومبدأه ومصيره وهداها النجدين ومكنها الأمرين وأما إذا (1/274)


كان ذلك فعل الله فمن أين له الاستقلال ولله الخلق والأمر واليه يرجع الأمر كله ولكن الله قد استثنى من تعجيز العباد حيث قال قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله وهذا الاستثناء هو الذي رددنا به قول الجبرية حيث احتجوا بقوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله فانهم تمسكوا بنفي المشيئة ونسوا الاستثناء وقد قال رسول الله اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك وقال موسى عليه السلام رب إني لا أملك إلا نفسي وذلك مثل كوننا لا نعلم إلا ما علمنا يؤتي الحكمة من يشاء ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ولم يؤد إلى استقلال العبد في العلم فلا بدعة في القول بأن العبد يملك بعض الامور بتمليك الله له ذلك لاقامة حجته أو سعة رحمته أو خفي حكمته
والقطع بأن ذلك محال غير ممكن يؤدي إلى تعجيز الله عنه ورجوع القهقري من مذهب السنة والمسلمين فانظر إلى الغلو في الأمور كيف ينتهي إلى الوقوع فيما كان الفرار منه فان السني إنما يحاول البقاء على تعظيم القدرة لله عز و جل فاذا غلا في مذهب رجع إلى تعجيز الله الذي كان يشنع به على المبتدعة فصار هذا التمليك من الله تعالى لمن يشاء من عباده من جملة أحكام ملكه وعطاياه التي لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع على معنى ما كان يقول رسول الله ليس لنا من أمرنا ما شئنا وإنما نأخذ ما أعطينا فجعل أخذهم ما أعطاهم الله تعالى من فعلهم ليكون فرق بين الحيوان المختار والجماد المسخر وهو فرق معلوم ضرورة وعقلا وشرعا مدرك بالفطرة التي فطر الله الخلق ولن تجد لسنة تبديلا فنسأل الله الاعتدال وترك بدع الجبر والاعتزال وهو حسبنا ونعم الوكيل
الوجه الثاني إن العبد لا يستقل في الخير لقول الله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولحديث أبي ذر رضي الله عنه من وجد خيرا فليحمد الله وأمثال ذلك كثير وأما الشر فسيأتي تحقيقه في مسألة الأفعال والظاهر أن اللطف (1/275)


ينقسم فمنه لطف هداية ومنه لطف حجة وازاحة عذر فمن وضح له في هذه المرتبة الخامسة من مواقع الخلاف شيء قال به وإلا فالموقف مع القطع بصحة القواعد الثلاث وهي عموم قدرة الله تعالى ونفوذ مشيئته وكمال حجته بالتمكين والبيان
وبالجملة فلله الحجة البالغة على العصاة في الابتداء والانتهاء علمنا تفاصيلها أو لم نعلمها مع ما له عليهم من النعم وله سبحانه وتعالى المنة البالغة على المطيعين في الابتداء والانتهاء علمنا تفاصيلها أو لم نعلمها مع تجاوزه عنهم من الذنوب وكل هذا معلوم من الدين وإنما نسعى في تقريره في القلوب وزيادة اليقين به ونفي الشبهات عنه ورفع الخصومات فيه والله سبحانه وتعالى أعلم
واعلم أن طريق المتكلمين في مثل هذه المشكلات المسارعة إلى القطع بأحد الاحتمالين وان خفي الامر والأولى عندي عدم المسارعة إلى ذلك وعدم الجراءة عليه لما ذكره المؤيد عليه السلام أن الخطأ في ذلك قد ينتهي إلى حد الكفر والخلود في العذاب وهذا خطر عظيم لا يسارع إلى ما يحتمله أدنى احتمال عاقل فان كان لابد من اختيار كان القول المختار أكثر الاقوال ملاءمة للسمع وأكثرها ثناء على الله تعالى وأبعدها من المتشابهات لقوله تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وقد ذكرت هذا غير مرة
البحث التاسع في الفرق بين المحبة والرضى والارادة والمشيئة فاعلم أن الفرق بينهما في اللغة واضح فالمحبة والرضى نقيض الكراهة والارادة والمشيئة معناهما واحد وهو ما يقع الفعل به على وجه دون وجه كما تقدم في أول المباحث
بيان ذلك أن الصائم العاطش يحب شرب الماء في حال صومه بالطبيعة ولا يريده بالعزيمة ونحو ذلك فاذا عرفت ذلك فاعلم أن المحبة قد يعبر عنها بالمشيئة والارادة كما تقدم قول الشاعر (1/276)


يريد المرء أن يعطي مناه ... ويأبى الله إلا ما أراد
أي يحب أن يعطى مناه فتأمل ذلك لتعرف مواضعه حيث يتعارض السمع فانه قد تقدم قول الشهرستاني أن الارادة المحضة التي ليست بمعنى المحبة لا تعلق بأفعال الغير وإنما تعلق من كل مريد بأفعال نفسه وأن الارادة التي تعلق بفعل الغير هي المحبة لكن أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة لا يجيزونها على الله تعالى وأهل السنة والمتكلمون منهم كابن تيمية ومن تابعه يجيزونها مجردة من نقائصها المختصة بالمخلوقين كسائر الصفات صفات الله تعالى اتباعا منهم لنصوص الكتاب والسنة والسلف وقد تقدم طريق أهل السنة في هذا وأمثاله عند الكلام على الرحمن الرحيم وسائر الأسماء الحسنى وإن مجرد الاشتراك في لفظ مع الاختلاف في المعنى لا يقتضي التشيبه
وقد تقدم كلام الغزالي في ذلك المنقول من المعصد الأسنى وهو كلام مجود وأجود منه كلام ابن تيمية في ذلك ومثال ذلك صفة الوجود والحي فانهما يطلقان على الله تعالى على صفة الكمال الذي لا يستلزم صفة نقص وعلى عباده على وجوه تستلزم جواز الفناء والموت والمرض واعتراض الآفات والعلل ولم يستلزم ذلك تشبيها وكذلك محبة الله تعالى ورحمته وسائر ما ورد منصوصا في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف هذه الأمة الصالح وشاع بينهم وذاع وكثر واستمر من غير تأويل ولا تحذير من اطلاقه بغير قرينة الله سبحانه أعلم
وأما موضع الاحتياط في هذه المباحث فانه ملاحظة إثبات صفات الكمال لله تعالى ونفي صفات النقص بتبين وفي الوقف حيث يخفى فمن صفات الكمال البينة المعلومة من الدين ومن إجماع المسلمين أن الله على كل شيء قدير وإن ما شاء كان وانه يهدي من يشاء وأن له الحجة الدامغة والحكمة البالغة ومن صفات النقص المنفية عنه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وليس بظلام للعبيد ولا يريد ظلما للعباد ولا يريد ظلما للعالمين كما قال في ذلك كله وانه لم يخلق السموات والارض باطلا ولا لعبا ولا عبثا بل خلق ذلك وغيره بالحق (1/277)

54 / 83
ع
En
A+
A-