وقد صرح الامام يحيى بن حمزة بابطال قولهم في كتابه التمهيد في أوائل الباب السابع من النبوات على ذلك وهو قول جماعة من قدماء محمد بن منصور الكوفي والسيد أبو عبد الله الحسيني في كتابه الجامع الكافي وهو قول غير واحد ممن عاصرت من أئمتهم عليه السلام
وهذه المسألة هفوة المعتزلة الكبرى في مقابلة هفوة الجبرية في نفسى الاختيار وبها تمكن خصومهم منهم ومن سلم منهم من هذه المسألة قارب أهل السنة في مسألة الأفعال بل كان منهم فان أمام الحرمين الجويني ما وافق أهل السنة في مسألة الأفعال الا فيها فعدوه من أئمتهم ولم يختلفوا في ذلك ولا شك في صحة قدرته على هداية الخلق أجمعين باللطف والاختيار عقلا وسمعا ولا شك انه أحوط وأولى من قول المعتزلة فانه يمكن في العقل أن يكون الله تعالى انما ترك ذلك لحكمة استأثر بعلمها مثل حكمته في خلق أهل النار والعقول تقصر عن الاحاطة بجميع حكمة الله تعالى ومعلوماته فيحسن في بعض ما لا تعرف العقول حسنه أن يكون حسنا عند الله لحكمة اختص بعلمها فيجب قصر استقباح العقول على من لم يعلم من الحكم في الغيوب المحجوبة الا ما يعلمه وليس يحسن أن يقال ان الله لا يقدر على شيء لوجه حسن استأثر الله بعلمه ولا نحو ذلك من الاعذار لان عدم القدرة نقص في الربوبية وان مثل الجهل ببعض الامور وأما التحسين والتقبيح فبابه واسع وتفاوت المعارف فيه غير واقف على حد ولا نهاية لانه موقوف على الوجوه والاعتبارات ومعرفة العواقب الحميدة والغاية الغيبية البعيدة
والمرجحات الخفية عند تعارض المصالح والمفاسد وهذا باب واسع يدخله التأويل القريب والبعيد بل قد اختلفوا في هذا أحوال المخلوقين كما أخبر الله تعالى عن موسى والخضر عليهما السلام ولا يزال العالم ينكر على الاعلم كيف الجاهل على العالم كيف المخلوق الظلوم الجهول على علام الغيوب كما تقدم في الحكمة في خلق الأشقياء فكما أن الحكمة في خلق الأشقياء لما خفيت لم يحسن من أحد أن يقول انه تعالى غير مختار في وجودهم ورد أهل الاسلام ذلك على الفلاسفة فكذلك في مسألتنا (1/268)
ثم ان المعتزلة رجعوا إلى قول أهل السنة في هذا بعد التعسف الشديد في تأويل القرآن والسنة واجتمعت الكلمة في الحقيقة على ان الله تعالى على كل شيء قدير وعلى ما يشاء لطيف وما بقي الا اللجاج في المراء بين أهل الكلام كما أوضحت ذلك في البحث الخامس من هذه المسألة أعني مسألة الارادة
ونزيد هنا وجها لم نذكره هناك وهو ان الله تعالى قد نص على دين الاسلام انه الفطرة قال تعالى فطرت الله التي فطر الناس عليها الا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم واتفق أهل الحديث على صحة حديث أبي هريرة في ذلك وهو قول رسول الله كل مولود يولد على الفطرة وانما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه وقد ذكر البغوي في تفسير هذه الآية عن أكثر أهل السنة أن الآية على عمومها في السعداء والاشقياء واحتج لهم بحديث أبي هريرة في ذلك وغيره وكيف لا يكون كذلك وقوله وانما يهودانه وينصرانه ويمجسانه انما هو في الاشقياء فلزم المعتزلة أن يقولوا به ويتركوا قولهم ان الله بني الاشقياء على بنية علم معها انه لم يبق لهم لطف في مقدوره ولزم أهل السنة أن يقولوا به ولا يعتقدوا ان أحاديث القضاء والقدر مبطلة للاختيار ولا لحجة الله تعالى وفي الحقيقة ان الجميع قد فعلوا بمقتضاه لكن أهل السنة بالنصوص الصريحة الكثيرة والمعتزلة في بعض المواضع كما تقدم في البحث الخامس على ان هذه الآية وهذا الحديث عند المعتزلة مما يصولون به على أهل السنة وليس كذلك بل هما على المعتزلة لا لهم
وانما ظنوا ذلك لانهما حجتان على الجبرية وهم يعتقدون الا العارفين منهم ان أهل السنة كلهم جبرية فهذا سبب وهمهم وأما كونهما على المعتزلة فلقولهم ان اللطف غير مقدور لله تعالى وتعليلهم ذلك بانه تعالى بنى الاشقياء على بنية لا تقبل اللطف ثم ان أهل السنة يلزمونهم تعجيز الرب تعالى بذلك وهم يأبون ذلك ويقولون انه غير قادر على اللطف ولا يوصف بالعجز وانما قالوا ذلك لاعتقادهم أن اللطف بالاشقياء محال كوجود ثان لله تعالى عن ذلك (1/269)
والقادر على كل شيء لا يوصف بالقدرة على المحالات لانها ليست بشيء والا لزم أن يوصف بالقدرة على لا شيء
وقولهم هذا ضعيف لان الاحالة لم تبين في اللطف بالعصاة ولو تبين ذلك لقبح تكليفهم على أصول المعتزلة فان خلقهم على تلك البنية مفسدة في التكليف وهم لا يجيزون المفسد فيه ولو جوزوها فيه ما أوجبوا اللطف فيه والا لتناقض انما المحال ما لا يمكن تصوره مثل كون الشيء قديما حادثا كما في تقديرهم ان الله لو خلق مثله تعالى عن ذلك لم يكن مثله قط لان المخلوق حادث مربوب بالضرورة والله تعالى رب قديم فقياس هذا باللطف بالعصاة واه لا يرضى في الفروع الظنية
وقد اعتذرت الفلاسفة بمثل عذرهم في هذا في قول الفلاسفة انه ليس في مقدورالله تعالى أحسن من هذا العالم مع انه على كل شيء قدير لانهم زعموا انه لو كان في مقدوره لا وجده على الفور والا كان بخيلا تعالى عن ذلك وأجيب عليهم بمثل ما أجيب على المعتزلة من ان حكمة الله تعالى أعظم من أن يحيط بها خلقه وانه قد بين منها انه يبلو عباده ليميز الخبيث من الطيب كما صرحت به الآيات القرآنية
واعلم ان قول أهل السنة في المشيئة والقضاء والقدر وسبقها للاعمال لا يقتضي الجبر كقول الجميع في سبق العلم بل كثير من أهل السنة فسروا القضاء والقدر بعلم الغيب السابق منهم القاضي عياض في شرحه لمسلم والنووي في شرحه له وابن بطال في شرح البخاري وغيرهم وانما وقع الخلاف فيما تعلق به الارادة السابقة كما تقدم تحقيقه في المباحث المتقدمة وانما مقصود أهل السنة بذلك نفي العجز والقصور عن قدرة الله تعالى فقد وقع الاتفاق على نفيه في الحقيقة ان شاء الله تعالى
وقد وضح بذكر هذه المباحث للخلاف هنا خمس مراتب قد بسطتها في العواصم ولا غنى عن الرمز اليها على سبيل الايجاز الكثير
الخلاف الأول هو الخلاف في قدرة الله تعالى على هداية الله العصاة ما داموا على بنيتهم التي خلقوا عليها حتى يغيرها الله تعالى وهو الذي فرغنا (1/270)
من ذكره وبيان الحجة على بطلانه وعلى ان المخالف فيه أخطأ في العبارة ووافق في المعنى لا قدرته تعالى على تغيير البنية هي قدرته على اللطف بعينها فارتفع الخلاف ولله الحمد
الخلاف الثاني القول بنفي قدرته تعالى على ذلك مطلقا ادعاه بعض أهل العصر على أصحاب أبي هاشم المعتزلي ولم ينصوا عليه وهو مما لا ينبغي ان يصدق عليهم حتى ينصوا عليه لمخالفته الأدلة الجلية من المعقول والمنقول كما أوضحته في العواصم وانما حمل هذا على دعواه ما رأى في اعتراف المعتزلة بخلافه من لزوم موافقة أهل السنة ففر من موافقة خصومه الى ما هو شر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقد تمدح الرب سبحانه وتعالى بانه لو شاء لجعل منا ملائكة وقال إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون وقال كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة وقد علم من الدين واجماع المسلمين انه تعالى قادر على تغيير صفات الأجسام مثل قلب خبث الحديد فضة أو ذهبا وقلب البهائم ناسا والناس بهائم مثل ما خسف باليهود قردة بقوله لهم كونوا قردة خاسئين فكذلك لو شاء خلق من الاشقياء أنبياء وملائكة وما السر في تغيير شيء منهم الا تليين قساوة قلوبهم كما أوضحته في العواصم فليراجع اذا احتيج الى ذلك
الخلاف الثالث خلاف من منع عقوبة العصاة بالاضلال وقد توهم كثير منهم أن ذلك يؤدي الى الجبر فيتأولونه بالخذلان ولا يعلم أن الاضلال ليس من الجبر في شيء انما هو الخذلان وسلب الالطاف ألا ترى أن من هداه الله تعالى فلم يقهره ولم يجبره على الهدى فكذلك من أضله فلم يقهره ولم يجبره على الضلال انما هو التيسير للعسرى عقوبة كما ان الهدى هو (1/271)
التيسير لليسرى مثوبة وأما من خالف في هذا فلانه لم يستحسن ارادة وقوع الذنب عقوبة مع كراهة الذنب نفسه وقد تقدم القول فيه مستوفي في الوجه الثالث من المبحث الثالث
الخلاف الرابع خلاف من يخالف في تجويز ارادة وقوع الذنب مع كراهة الواقع ليظهر كثير من اسمائه تعالى الحسنى مثل اسمائه تعالى العفو الغفور التواب الواسع الحليم الرحمن الرحيم وقد صحت النصوص النبوية بما يقتضي هذا كما خرجه مسلم عن أبي أيوب الانصاري وعن أبي هريرة كلاهما عن رسول الله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون كي يغفر لهم وفي حديث أبي هريرة كي يستغفروا فيغفر لهم وروى عن جماعة من الصحابة غيرهما كما ذكرته في العواصم وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وبعد ورود السمع بهذا فالحجة على من ادعى قبحه لان قبحه لا يعلم بالضرورة بالاجماع فإن الاجماع انما ينعقد على مثل قبح الكذب الضار وحسن الصدق النافع أما مثل الكذب النافع والصدق الضار فانه استدلالي والسمع فيه مقدم مقبول
الخلاف الخامس قال أهل السنة وأبو هاشم وجمهور المعتزلة يجوز أن يبتلي الله تعالى العبد في أول أحوال تكليفه قبل أن يعصي ويستحق العقوبة بما يعلم انه يعصي عنده مختارا لحكمة لا يعلمها الا هو كما يحسن ان يكلفه وهو يعلم ان يعصي حينئذ ولو لم تقع منه المعاصي ولم يفرقوا بينهما وخالف في ذلك أبو علي الجبائي من المعتزلة وغيره وهذه مسائل الخلاف بين أبي علي وبين ولده أبي هاشم فانه في هذه وأصحابه مع أهل السنة والمراد بهذا التجويز انه لو ورد به نص لا يحتمل التأويل وجب قبوله ولو ورد به ظاهر يحتمل التأويل لم يجب تأويله بل لم يحل وقيل في هذا ما دل عليه السمع والسمع أقوى الادلة في مثل هذه المحتملات في العقول وقيل انه لا يجوز في هذه الحال من الله تعالى الا التخلية بين العبد وبين نفسه بعد التمكين ومعنى التخلية ترك اللطف والخذلان معا وقد دل السمع على ان العبد لا يختار حينئذ إلا المعصية ودل على ان فعل اللطف حينئذ فضل من الله يؤتيه من يشاء كما يختص برحمته من يشاء بالنص وذلك التخصيص لحكمة بالغة (1/272)