منهم وورد في السنة النبوية مع ذلك كله غيره مما لا غنى عن ذكره فان الشيء قد يحسن مع غيره ولا يحسن وحده كما ذكره كثير من أهل العلم في جميع الآلام والمصائب لعظيم الجزاء مع عظيم الاعتبار
فمن أحسن ما ورد في ذلك في السنة حديث فداء كل مسلم من النار بيهودي أو نصراني خرجه مسلم واسناده على شرط الجماعة كلهم وله طرق جيدة كما أوضحته في العواصم والاجادة وغيرهما وأوضحت ما فيه من الحكمة والعدل واجماع العقلاء على نظائره
فمن العدل في ذلك أن اليهود والنصارى عادوا المسلمين في الدنيا وظلموهم وكذبوهم وفعلوا ما أمكنهم من مضارهم ومن لم يستطع ذلك منهم ورد انه تمكن منه وأنه فعله ووالى من فعله من أصحابه وقد ثبت وجوب القصاص بين المسلمين بعضهم من بعض بل بين الشاة الجماء والشاة القرناء فكيف لا ينتصف للمسلمين من أكفر الكافرين المكذبين البغضاء المعتدين والله تعالى يقول إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقد صح في الأحاديث الثابتة ان القصاص بالحسنات والسيئات ان كان للظالم حسنات أخذ منها للمظلوم وان لم يكن حمل الظالم من ذنوب المظلوم بقدر مظلمته وهذا عدل معقول وليس فيه مناقضة لقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى لان المعنى انها تظلم لا بتحميلها وزر الاخرى لا انه لا ينتصف منها بالحق وان شق فما كان على وجه الانتصاف من الظالم للمظلوم لم يكن من تحميل الذنوب من لم يفعلها ظلما وعدوانا بل هو من العدل الوارد في السمع المعلوم لقوله تعالى وأثقالا مع أثقالهم وقول ابن آدم الصالح لأخيه الكافر إني أريد أن تبوء باثمي وإثمك وهذه أدلة خاصة مفسرة لما أجمل من قوله تعالى ولا تزر وازرة أخرى وكذلك وردت الأحاديث الصحاح بأن من سن سنة سيئة كان عليه اثمها واثم من عمل بها من غير أن (1/263)


ينقص من آثامهم وان على ابن آدم اثم من قتل الى يوم القيامة لانه أول من سن القتل بل قد أشار القرآن العظيم الى هذا الحديث العظيم الى هذا حيث قال تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا وكذلك لا يناقض هذا قوله تعالى وان ليس للانسان إلا ما سعى لانه عموم مخصوص بالاجر على الآلام والاقتصاص من الظالم ويجوز أن يفضل الرب سبحانه وتعالى على من يشاء كما قال ويزيدهم من فضله لان فضله ليس هو مما هو حق لهم حتى يدخل في قوله وأن ليس للانسان إلا ما سعى فهذا ما في فداء المسلمين بالكافرين من العدل
وأما ما فيه من الحكمة ففيه صدق وعيد العصاة من المسلمين بذلك وعدم الخلف كما أشار اليه قوله تعالى وفديناه بذبح عظيم فانه لا معنى للفداء الا انه قد كان لزم ذبحه بالامر لان البداء لا يجوز على الله سبحانه وذبح الفداء يقوم مقام ذبح الذبيح عليه السلام ومنه فداء والد رسول الله بمائة من الابل كما هو مذكور في السيرة النبوية منه قوله تعالى ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل أي فدية لكنها في الكافرين كما قال سبحانه في سورة الحديد في خطاب المنافقين فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا وفي تخصيصهم بالذكر اشارة الى القبول من المسلمين بمقتضي مفهوم الصفة والمسلمون أيضا باقون على الإصل في حسن ذلك كما قرر في موضعه ويأتي منه في هذا المختصر ما فيه كفاية وقد استوفيت مطابقة ذلك لعمل الحكماء والعقلاء من جميع المسلمين بل من جميع الناس أجمعين في كتاب العواصم
ومما جاء في السنة من حكمة الله تعالى في خلق الكافرين في الدنيا ونفع المسلمين بهم ما رواه النسائي من حديث سلمة بن نفيل الكندي قال كنت (1/264)


جالسا عند رسول الله فقيل أزال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا لا جهاد قد وضعت الحرب أوزارها فاقبل رسول الله بوجهه وقال كذبوا الآن جاء القتال ولا تزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويزيغ الله قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة الحديث قال المزي في أطرافه رواه النسائي في السير وفي الخيل باسنادين الى أبي علقمة والوليد بن عبد الرحمن الجرشي كلاهما عن جبير بن نفيل عن سلمة
قلت واسناد النسائي جيد قوي رواه أحمد بن حنبل في المسند بطريق أخرى الى الوليد بن عبد الرحمن فصح الحديث ولله الحمد والمنة ويشهد لذلك من كتاب الله تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك ونصيرا وما استأثر الله تعالى بعلمه في ذلك من الحكم والعنايات الحميدة أكثر وأعظم والله سبحانه أعز وأعلم وأجل وأحكم آمنا به وبجميع أسمائه ومحامده وله المنة علينا في ذلك وله الحمد والشكر والثناء
البحث السابع قد ظهر من جماعة من المتكلمين استقباح الظواهر السمعية مثل قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس فأوجبوا تأويلها وأمثالها وشنعوا على من آمن بها من غير تأويل الا التأويل الذي استأثر الله بعلمه على ما تقدم والعجب من المقبحين لذلك من المخالفين أنهم قبحوا خلق أهل النار لها وارادة ذلك لهم في الابتداء مع تحسينهم لفعل ذلك بهم في الانتهاء بل أوجبوا ذلك على الله تعالى في الانتهاء وأوجبوا عليه تخليدهم في النار وقبحوا منه العفو عن أحد منهم فكيف قبحوا ارادة ذلك الواجب عندهم في الابتداء مع ان الارادة لا تزيد على المراد في الحسن والقبح عقلا وشرعا فان كان عذاب الآخرة من الحق الراجح المشتمل على العدل والمصالح كما هو الحق عقلا وسمعا كما يأتي فلا ينبغي تقبيح ارادته ولا تقبيح خلق أهله له في الابتداء لان ما حسن فعله حسنت ارادته فكيف بما وجب (1/265)


فعله والارادة أهون من التعذيب نفسه وأقل مضرة منه فكيف يعقل أن يكون التعذيب واجبا على الله تعالى وارادته منه قبيحة
فان قالوا انما قبحناها اذا وقعت متقدمة لمعاصيهم لانهم حينئذ غير مستحقين لذلك قلنا انها لم تعلق بهم حينئذ وانما تعلقت بهم حين الاستحقاق لانه لم يرد أن يوقع بهم العذاب قبل ذلك بل بعده والعزم على مثل ذلك من مثلنا حسن عقلا فكذلك الارادة المتقدمة في حقه تعالى وقد ورد السمع بتقدمها والدليل على من ادعى قبح ذلك
والقول بان عذاب الآخرة حق راجح مشتمل على العدل والمصالح التي هي تأويل المتشابه هو قول البغدادية وطائفة كثيرة من السلف والخلف ومن تبعهم من أهل السنة كما نصره ابن تيمة وأصحابه وأجاز ذلك الغزالي في المقصد الاسنى واحتج عليه كما تقدم ويدل على ذلك اقسام الله تعالى في غير آية على وقوعه وتسميته حقا في قوله تعالى ولكن حق القول مني لأملأن جهنم وانما يختلف هؤلاء في قدر العذاب المشتمل على المصالح الراجحة فمنهم من جوز ذلك فيه مطلقا ولو مع الخلود والدوام الذي لا نهاية له ومنهم من جوزه فيه مطلقا الا في الخلود
واختلفوا أيضا هل دلالة السمع على الخلود قاطعة أم لا لورود الاستثناء فيه في القرآن والحديث الا تحلة القسم ولغير ذلك كما تقدمت اليه الاشارة في مسألة الحكمة وهو مبسوط في مواضعه فقد صنفت في هذه المسألة مصنفات مستقلة
والعجب منهم كيف يمنعون تقدم إرادته مع مثل هذه الأقسام المؤكدة السابقة من الله تعالى على فعله وتسميته حقا ولم يبق بينهم خلاف وبين أهل السنة الا في تجويز تقدم ارادته لذلك والنصوص شاهدة لاهل السنة بتقدمها وكذلك العقول
أما النصوص فمثل قوله تعالى واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها (1/266)


ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وهي واضحة في تقدم الارادة قبل وقت قطع الاعذار والعذاب لا يقع قبل ذلك في حكم الله تعالى لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وكذلك قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وفي آية أخرى وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وفي آية اخرى وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا الاية وفي هذه الآيات الثلاث دلالة واضحة على أن عذاب الاخرة من قبيل الحق الراجح المتضمن للمصالح وهذه العبارات المؤكدة في وقوعه كلام من قد أراد ذلك فكيف يقسم عليه وهو لا يريده
وأما دليل العقول على ذلك فلان الارادة انما تتأخر في حقنا لتأخر العلم بالمرجحات وعدم العلم بانتفاء الموانع والمعارضات ولذلك قال أبو الحسين انها هي الداعي الراجح الراجع الى العلم لملازمة الفعل لذلك ولملازمة الارادة له وذلك منه يفضي الى نحو قول الاشعرية في قدم الارادة وأما الاثري السني فلا حاجة له الى الخوض في ذلك كما تقدم
البحث الثامن ان ارادة الله تعالى نافذة وانه لا راد لما أراد وقد تقدم كثير منها ولكن في هذا البحث فوائد مهمة لم تقدم ولا بأس ببعض التكرار للتأكيد والفائدة ولذلك ورد به كتاب الله تعالى وهو أكثر الكتب حكمة وأحكاما
وهذا البحث مبني على ان الله تعالى على كل شيء قدير وهذا ما لا شك فيه ولكن أكثر المعتزلة زعموا ان الله تعالى مريد لفعل جميع ما يقدر عليه من هداية المكلفين واللطف بهم بل اعتقدوا ان ذلك واجب عليه ولاجل اعتقادهم وجوبه عليه قطعوا حين لم يفعله انه غير قادر عليه تنزيها له من الاخلال بالواجب (1/267)

52 / 83
ع
En
A+
A-