ومنها حديث أبي خزامة قلت يا رسول الله أرأيت رقي نسترقي بها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال هو من قدر الله تعالى رواه الترمذي وابن ماجه من طرق عن ابن عيينة عن الزهري عنه قال المزي في أطرافه وكذلك رواه مالك ويونس بن يزيد وعمرو ابن الحارث والاوزاعي عن الزهري
ومنها أن هذا السؤال مما سئل عنه رسول الله وتولى جوابه كما ثبت في أحاديث الاقدار فقال في الجواب اعملوا فكل ميسر لما خلق له وقرأ قوله تعالى فأما من أعطى واتقى الآيتين والمعنى في الجواب النبوي أن الله تعالى قدر الجزاء وأسبابه وقدر أن تكونه أسبابه اختيارية من أفعال العبد وما قدره الله لابد أن يقع كما قدره فارتفع توهم الاشكال فانا لو لم نعمل مع سبق العلم بعملنا وسبق المقادير لكان محارة للعقول بل محالا فيها فوجب أن لا يكون العمل محارة ولا محالا ولا موضع شبهة فلا اشكال
وأما ما دلت عليه الفطرة من ذلك فهو أن الله تعالى قدر الجزاء في الآخرة مرتبا على أسباب وقدر وقوع تلك الأسباب على اختيارنا في الأعمال وتارة على اختياره تعالى في أسباب الاعمال وفي الآلام ونحوها وذلك كما قدر السبع بالأكل والري بالشرب وهما عملان اختياريان وكذلك قدر الولد بالوطئ وحصول الزرع بالبذر وخروج روح الحيوان بالذبح ذكر ذلك الغزالي مختصرا وابن قيم الجوزية وطوله وجوده هذا المعنى اسماعيل المقرى من علماء الشافعية في قصيدة له وعظية بليغة فقال وأجاد
تقول مع العصيان ربي غافر ... صدقت ولكن غافر بالمشيئة
وربك رزاق كما هو غافر ... فلم لم تصدق فيهما بالسوية
فانك ترجو العفو من غير توبة ... ولست براجي الرزق إلا بحيلة
على أنه بالرزق كفل نفسه ... لكل ولم يكفل لكل بجنة
فثبت أنه يلزم في قضية العقل من احتج بسبق القدر وسبق العلم على (1/258)
ذنوبه وتفريطه في عمل الخير إن يترك الاكل والشرب والبذر والوطئ والتوقي من الحر والبرد وسائر المضار وإلا فقد فضل الدنيا على الآخرة حيث توكل في الآخرة وما سعى لها سعيها وترك التوكل في الدنيا وسعى لها أكثر من سعيها ثم احتج على ضلاله بالباطل وهيهات
ثم أنه لابد مع التوكل من السعي كما قال الله تعالى وشاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله وذكر الزركشي في شرح جمع الجوامع عن الجنيد رحمه الله أنه قال كلمت يوما رجلا من القدرية فلما كان في الليل رأيت في النوم كأن قائلا يقول ما ينكر هؤلاء القوم أن يكون الله قبل خلقه للخلق علم أنه لو خلق الخلق ثم مكنهم أمورهم ثم رد الاختيار اليهم للزم كل امرئ منهم بعد أن خلقهم ما علم أنهم له مختارون
قلت بل قد أوجب ذلك الرازي بنظر عقلي معناه أن العلم تابع للمعلوم في الرتبة لا في الوجود مثل تبع حركة الخاتم للاصبع فلا يتصور حصول العلم متعلقا بالمعلوم إلا وللمعلوم ثبوت في الذهن لا في الخارج والنكتة في هذا أن الله تعالى غير مختار في علمه إجماعا فان كونه قادرا عالما من صفات الكمال اللازمة الواجبة وإنما يختار سبحانه في كونه فاعلا فان شاء فعل وإن شاء ترك وليس يقال إن شاء علم وإن شاء جهل فكذلك لا يقال إن شاء علم الموجود معدوما والمعدوم موجودا ونحو ذلك إنما يقال لو شاء لجعل ذلك كذلك لكنه لا يشاء خلاف ما علم كما سبق تقريره لكنه يقال إن كان المعلوم أسبق في الرتبة فانه راجع إلى أفعال الله تعالى وهي اختيارية وكان الاختيار تابعا للحكمة فهي أسبق في الرتبة وهذا نفيس جدا فتأمله
وسبق في مسألة الحكمة طرف صالح من الكلام في الحكمة في خلق الاشقياء فيراجع من هنالك ومن ذلك أن يقال انما يلزم في قضية العقل قطع أعذار الخلق في الربوبية وتقديسها عن كل عيب ونقص وظلم وعبث ولعب فمن أنكر شيئا من ذلك قامت عليه البراهين كما تقدم ومن اعترف بهذين الامرين فقد اعترف بان الله حكيم نافذ المشيئة غني كريم فلا يصح منه بعد هذا ان ينازع ربه تعالى في حكمة خفية لوجهين (1/259)
أحدهما أن علمه الجملي بحكمة ربه كاف شاف وثانيها ان علمه بكمال ربه في جميع أسمائه الحسنى مع نقص العبد في كل معنى وكثرة جهالاته وظلمه وخبث كثير من طباعه وغلبتها عليه يكفيه وازعا عن اتباع سنة الشيطان لعنه الله تعالى حيث نازع ربه تعالى في حسن سجوده لآدم وهذه هي سنة السفهاء من الناس الذين قالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ولو كانت تجب ازاحة كل عذر باطل لازاح الله تعالى اعذارهم حيث قالوا فأرجعنا نعمل صالحا واقتراحهم على الرسول أن يكون ملكا وان يفجر لهم الأنهار تفجيرا ونحو ذلك على ان الله تعالى لم يخل كتابه الكريم من الاشارة الى ما تحمله عقول البشر ويليق بعلومهم من ذلك فنقول بقدر ما وهب الله لنا من ذلك ان الله تعالى خلق الاشياء لحكم كثيرة شاهدة له سبحانه وتعالى بالنزاهة من الظلم واللعب والعبث بل شاهدة له سبحانه وتعالى بالحكمة البالغة والنعمة السابغة والحجة الدامغة فمن قال ان الله تعالى ما خلق الاشقياء الا لعمل القبائح في الدنيا وللعذاب في الآخرة أو كانت عبارته توهم ذلك فما أصاب الحق ولا أحسن الترجمة عن الكتاب والسنة ومن أراد اصابة الحق في ذلك تتبع متفرقات الحكمة المنصوصة بألفاظها وأداها بها والمعقولة بمعانيها وجمعها بل جمع ما يسر الله له منها لا يمكن البشر الاحاطة بجميعها
والذي حضرني منها سبعة أمور تفصيلية لفظية ومعنوية وأمر جملي يعمها
أما الأمر الجملي فما تقرر بالبراهين الجمة سمعا وعقلا من حكمة الله تعالى كما قال للملائكة اني أعلم ما لا تعملون قال في هذا المعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين وأما التفصيلية فانها وان رجعت في المعنى الى أقل من ذلك العد فقد أديت ما أمكنني تأديته بلفظه عسى أن أنال الدعوة النبوية لمن أدى ما سمع كما سمع من الأحاديث الثابتة في ذلك (1/260)
الأول خلق الله تعالى الاشقياء لعبادته بالنظر إلى أوامره اجماعا ونصا وبالنظر الى محبته للخير من حيث هو خير على الصحيح كما مر في اثبات الحكمة وقد أوضحت هذا في العواصم في تفسير قوله تعالى وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون وهو مذهب جمهور أهل السنة في قوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر وقوله تعالى والله لا يحب الفساد فانهم أقروهما وفرقوا بين الرضى والمحبة ومعنى الارادة والمشيئة ولذلك قال السبكي في جمع الجوامع في آخره في الاعتقاد ما لفظه والمحبة غير المشيئة والارادة فلا يرضى لعباده الكفر ولو شاء ربك ما فعلوه ولم يحك خلافا لشذوذه عنده ومن لم يبحث حوافل أهل السنة يظن ان هذا يخالف قواعدهم
الثاني الابتلاء بالنظر الى عدله وحجته كما يظهر من قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا كما مر في الحكمة في العمل مع القدر
الثالث لما يوجب عليهم شكره من احسانه اليهم بعظيم نعمه وسوابع مواهبه بالنظر الى تكليفهم شكر نعمته وقد ذكر غير واحد من الائمة الأذكياء ان فرار الحيوانات من الموت وحرصها على الحياة من أعظم الأدلة على عظم النعمة بها وعلى وجوب الشكر عليها ثم نعمة العافية والتمكين من الخير والمعارف باكمال العقول والاسماع والابصار والأيدي والبنية السوية الصحيحة والانفاس والارزاق الجارية
الرابع لما شاء بالنظر الى عزة ملكه وعظيم سلطانه وقاهر قدرته
الخامس لما لم يحط بجميعه الا هو سبحانه وتعالى بالنظر الى واسع علمه ورحمته
السادس للعذاب المستحق بكفر نعمته وجحد حجته بالنظر الى علمه واختياره وقدرته وقضائه وكتابته (1/261)
السابع الحكمة المرجحة فيهم بعقابه على عفوه وعدله على فضله الراجعة بعدله الى فضله التي هي تأويل المشابه وهو الخير المقصود بما ظهر للعقلاء من ارادة وقوع ما قبلها من المتشابه وهو الشرور التي لا يعلم فيها خير ان سلم وقوع ذلك
وهذا النوع السابع هو بالنظر الى خفي حكمته منتهى متعلق ارادته ومشيئته الذي هو المراد الاول وهو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه الا هو على المختار كما سبق بيانه ودليله في مقدمات هذا المختصر
وزادت المعتزلة على هذه الامور السبعة ثلاثة انفردت بها دون أهل السنة
أحدها تعريض الاشقياء لدرك ثوابه العظيم وسكون جنات النعيم فان التعريض لذلك نعمة وان لم يقبلوها كما ورد في حديث رواه البخاري عن أبي هريرة كل أمتي يدخلون الجنة الا من أبي قالوا ومن يأبى ذلك يا رسول الله قال من عصاني فقد أبى
وثانيها ارادة وقوع الطاعة منهم لظاهر قوله تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ومنعت هذين الاشعرية وغيرهم كما تقدم
وثالثها مصلحة الخوف لان العقلاء اذا علموا ان الله ما يخلق الا سعيدا غير معذب تجرؤا على الفساد والفسوق ذكرته البغدادية منهم وما هو بالضعيف ولا بالمخالف للقواعد فقد نص الله تعالى على أن بسط الرزق مفسدة للعباد فكيف يرفع الخوف والامان من التبعات في الدارين كذلك نص على أنه تخصيص الكافرين بالتوسيع الكثير في الغنى مفسدة وانه انما تركه لذلك كما في سورة الزخرف ولذلك قال ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فابهم المغفور له ليبقى الخوف وكذلك قال في حق الكفار أيضا في التوفيق للتوبة في الدنيا لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بانهم كانوا مجرمين فلم يقنطهم الجميع ولم يؤمنهم لانهما جميعا مفسدتان وتركهم في محل الخوف والرجاء لانهما جناحا الدواعي الناهضة للعباد الى طاعة ربهم وفيها الحجة الدامغة لمن عصى (1/262)