لزيادات في الشهوات والدواعي وقع الامتحان بها لشدة الابتلاء ومن ذلك خلق الشياطين عند هؤلاء وحينئذ تجويز أن الله تعالى قادر على هداية من وقعت منه المعاصي بتسبب هذه الزيادات والقدرة ووجه القدرة على اللطف به واضح وذلك أن يترك الله هذه الزيادات وتجويز قدرة الله تعالى على اللطف بهذا المعنى بين فثبت أن تأويلهم لآيات المشيئة بالاكراه ومحافظتهم على ذلك وقطعهم بتعينه وعدم احتمال غيره مجرد لجاج مع الخصوم وزيادة في المراء المذموم والله المستعان
وأما موافقة الاشعرية وأهل الأثر لهم في أن الله تعالى لا يريد المعاصي فان ذلك ثبت بالنص منهم والاقرار لا بالالزام والاستنباط وذلك أن إمام علومهم العقلية صاحب نهاية الاقدام المعروف بالشهرستاني ذكر في كتابه هذا أن ارادة الله تعالى عندهم لا يصح أن تعلق إلا بأفعاله سبحانه دون كسب العباد سواء كان طاعة أو معصية وأن معنى قولنا إن الطاعات مرادة ومحبوبة ومرضية هو أن الله تعالى يريد أفعاله التي تعلق بها وهي الأمر والثناء في الدنيا والثواب والثناء في الآخرة ومعنى قولنا أن المعاصي مكروهة ومسخوطة هو أن الله تعالى يريد أفعاله المتعلقة بها وهي النهي والذم في الدنيا والعقاب والذم في الآخرة وطول في هذا واحتج عليه بأن الارادة هي التي تخصص الفعل بوقت دون وقت وقدر دون قدر ووجه دون وجه قال ويستحيل أن تخصص فعل الغير وأن تقع غير مخصصة فيختلف عنها أثرها وذلك محال ثم قال وأنت إذا عرفت هذا هانت عليك تهويلات القدرية وتمويهات الجبرية وبين أيضا وميز فعل العبد الذي هو كسبه عن فعل الله تعالى الذي هو خلقه كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة الافعال
واعلم أن كلامه في ذلك قوي لأنه لو صح تعلق الارادة بفعل الغير لصح أن ينوي للغير لأن النية ارادة مقارنة وكذلك كان يلزم أن يعزم له لأن العزم ارادة متقدمة
فان قيل فنحن نحس ارادة فعل الغير بالضرورة قلنا تلك محبة لا إرادة لكن المحبة قد تسمى ارادة كما قال الشاعر (1/253)
يريد المرء أن يعطي مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا
والبيت عربي فصيح من شعر الحماسة وعلى الجملة أن هذا نقل لمذهب الأشعرية من بصير به بل من إمام فيه فقد صح أن هذا مذهبهم سواء كان صحيحا أو باطلا قويا أو ضعيفا وعبارتهم في جميع تصرفاتهم في تأويل الآيات والأحاديث مخالفة لهذا ومصرحة بارادة المعاصي فحين علمنا أن هذا حقيقة قولهم وإن ذلك مجاز لم نوجب حملها على الحقيقة بل لم نجوز ذلك كما أن الزمخشري قال إن الله يأمر بالفسق مجازا في تفسير قوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ومع ذلك لا يحل لمسلم أن يحمله على الحقيقة لما كان قد نص على أن ذلك مجاز فكذلك هؤلاء ولكن هذا منهم مجرد لجاج وشدة مراء وجدل قابلوا به ما وقع من خصومهم من مثل ذلك وقد نهى الله تعالى عن التفريق بنص القرآن وإجماع المسلمين فواجب على كل من عرف هذا من الفريقين ترك هذه العادة المكروهة في ابتداع العبارات المفرقة بين الجماعة والمخالفة للطاعة ولذلك نهى الامام ابراهيم بن عبد الله بن الحسن عن تسمية الفرق بهذه الاسماء المبتدعة وأمر أن يسموا بالمسلمين فانهم إذا اجتمعوا في ذلك بهذه الاسماء المبتدعة وأمر أن يسموا بالمسلمين فانهم إذا اجتمعوا في ذلك كان أدعى إلى محو آثار الحمية وترك التعادي والعصبية ولذلك أثنى الله تعالى على الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم
وقد كنت هممت أن أقتصر على هذا البحث في هذه المسألة ثم رجوت أن يكون في ذكر سائر المباحث مزيد فائدة وإلا فهذا أنفعها وأجلها وهو يكفي صاحب الجمل إن شاء الله تعالى وقد بالغ في تحريم التفرق وترك التكفير بالاختلاف في مسائل الكلام محمد بن منصور الكوفي محب أهل البيت وصنف فيه كتاب الجملة والالفة فأجاد رحمه الله تعالى ونقل فيه القول المفيدة عن كبراء أهل البيت عليهم السلام باختيار ذلك ونقل صاحب الجامع الكافي منه جملة شافية في آخره ينبغي معرفتها ذكرها في مسألة القرآن ومذاهب الناس فيه (1/254)
وهنا تحقيق بالغ وهو أن مراد أهل السنة في مسألة الارادة أن يكون الله تعالى غالبا غير مغلوب كما قال تعالى والله غالب على أمره ولم يصادم هذه القدرة المعتزلة إنما خالفوا في العبارة حيث قالوا إن الله تعالى إنما أراد مجرد تعريض الاشقياء للخير فقد حصل مراده الذي هو التعريض فلم يكن مغلوبا على مراده كما مضى وما يرد عليه قالوا وأراد تمكين العباد مع علمه بأنه يكون وسيلة إلى المعاصي فقد أراد عندهم سببها لعلمه بذلك بل أجاز جمهورهم أن يبتلي الله تعالى المكلفين بعد تمام التكليف بزيادة في خلق الشهوات والشياطين ومضلات الفتن بحيث تقع عندها المعاصي وهو يعلم أنه لو لم يفعل ذلك أطيع وما عصى وهذا هو الاضلال الذي تجيزه الأشعرية وتظن المعتزلة أنها تمنعه وهو الذي قد يسميه بعض الأشعرية ارادة لوقوع المعاصي أولها وإنما اختلفت عباراتهم فانهم الجميع قد اتفقوا على نفي الجبر وعلى ثبوت الاختيار وعلى أن الله تعالى ملك عزيز غالب غير مغلوب وعلى أن الاضلال إن كان من جنس العقوبات لا من جنس الابتلاء والامتحان لم يكن إلا بعد الاستحقاق بالذنوب كعقاب الآخرة لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فلولا اللجاج في المراء وتمكن التعادي في القلوب لكانوا فرقة واحدة واجتمعوا على جهاد أعدائهم من الكفار الملاحدة
وسر هذا التحقيق أنه لا خلاف أن سبب المعاصي مراد وهو خلق القدرة والتمكين والتكليف لكنه ليس بجبر محض بل الظاهر في سبب الشر أنه شر فمن نفى الحكمة قال هو مراد لنفسه ومن أثبتها قال لابد من مراد آخر وهو المسمى المراد الأول وغرض الغرض فمن قال هو الجنة في حق الكفار ورد عليه أن علم الغيب يمنع من طلب حصول ما علم أنه لا يحصل ومن قال هو التعريض لذلك ورد عليه أن التعريض ليس بخير محض مع العلم أنه سبب حصول نقيض المقصود ومن قال المعاصي فهو أجهل لأن سببها لم يكن شرا إلا لأجلها فثبت أنه اقامة الحجة في الظاهر وتأويل المتشابه في الباطن والحق أنه لا يعلمه إلا الله كما تقدم بدلائله (1/255)
البحث السادس في ذكر الفائدة في التكليف بالأعمال مع سبق الاقتدار وقد يذكر هذا جوابا على من قدح في صحة أحاديث الاقدار من المبتدعة فيقال الفائدة في العمل مع القدر مثل الفائدة في العمل مع سبق العلم إذ كل منهما غير مزيل للقدرة ولا مؤثر فيها ولو كان شيء من ذلك يؤثر فيها لما تعلق جميع ذلك بأفعال الله تعالى وهو متعلق بها وهي اختيارية بالنص والاجماع ألا ترى إلى قوله تعالى كان على ربك حتما مقضيا وأنه سبحانه قد علم وقت وقوع ذلك بعينه وهو موصوف بالقدرة على تقديمه وتأخيره بل على تركه لكنه لا يتركه
وقد قال الرازي أن القول بأن سبق العلم والقدر ينفي الاختيار يستلزم ذلك في حق الله تعالى وذلك يؤدي إلى رفع أثر القدرة وإلى أن تقع الأشياء بالعلم دون القدرة فينقلب العلم قدرة وذلك محال وقد يذكر هذا على سبيل التقوية للايمان الجملي بحكمة الله تعالى وقد ذكرت في ذلك وجوه كثيرة بسطتها في العواصم ولنقتصر على شيء يسير من الوارد في القرآن والسنة وفي الفطرة
أما القرآن فورد بان التكليف في حق الاشقياء اقامة الحجة وقطع العذر قال الله تعالى فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا وقال لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى وهذا المعنى كثير وفيه سر لم أر أحدا تنبه له وذلك أن لله تعالى حججا مناسبة لعرف العقلاء وحكمة مناسبة لعلمه الحق الذي تقصر عنه عقول العقلاء وهذه الآيات التي ذكرناها من القسم الاول ومنه إقامة الموازين القسط ليوم القيامة وإشهاد الملائكة والجوارح وكتابة الاعمال مع الغنى عن ذلك كله بعلم الله تعالى
فأما الحكمة المناسبة لعلمه الحق فهي الحكمة الداعية إلى إظهار هذه الحجج القاطعة للاعذار الباعثة على هذا العدل وهي التي لم يعلمها سني ولا (1/256)
مبتدع ولا أثري ولا متكلم ومن تعرض لها لم يحظ بطائل وقد يرد القرآن بهذه الحجة الظاهرة المناسبة لعرف العقلاء وحدها مثل آيات الوعيد وقد يرد بما يقتضي التعليل بحكمته الحقيقية المناسبة لعلمه الحق وحدها كقوله تعالى في سورة هود وتمت كلمة ربك لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وكذلك قوله تعالى وان منكم إلا واردها كان ربك على حتما مقضيا فانا نعلم أن هذه لم تكن سدى خالية عن الحكمة وقد يرد القرآن بهما جميعا كقوله تعالى جوابا على من قال فأرجعنا نعمل صالحا قال تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون فجمع بينهما حيث أجاب على الكفار قولهم أرجعنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل استدراكا منهم لما فات فأخبرهم أنه كان قادرا على تحصيل ذلك منهم فيما مضى ولو أرادوه لم يفته حتى يحتاج إلى الملافاة والاستدراك وحين علمنا حكمته في ذلك حسن أن نشير اليها في الجملة من غير بيان معين كما قال سبحانه وتعالى للملائكة إني أعلم مالا تعلمون جوابا على قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها
وأما ما ورد في ذلك من السنة فأنواع
منها حديث لا أحد أحب اليه العذر من الله تعالى من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب
ومنها عملهم بمقتضى قوله تعالى واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وقوله وخذوا حذركم (1/257)