والمتكلمين يفهمونها وإن دقت مع الصبر وطول الطلب فكيف لا يفهم طالب الحق مقاصد الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين مع الاهتمام بذلك وبذل الجهد في طلبه وحسن القصد ولطف أرحم الراحمين لمن هو كذلك بالنصوص والاتفاق ولا ينبغي أن يصغي إلى من يصده عن كتب الله وما أنزل فيها من الهدى والنور رحمة للمؤمنين ونعمة على الشاكرين
وليحذر كل الحذر من زخرفتهم للعبارات في ذلك وترغيبهم بأنواع المرغبات في تلك المسالك وليعتبر في ذلك بقوله تعالى لرسوله المعصوم وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحيوة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ويالها من موعظة موقظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد كما قال سبحانه وتعالى ولتعرف أهل الزيغ بذلك وأهل الحق بحلافه فإنهم كما وصفهم ربهم عز و جل في قوله ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ولا ينبغي أن يستوحش الظافر بالحق من كثرة المخالفين له كما لا يستوحش الزاهد من كثرة الراغبين ولا المتقي من كثرة العاصين ولا الذاكر من كثر الغافلين بل ينبغي منه أن يستعظم المنة باختصاصه بذلك مع كثرة الجاهلين له الغافلين عنه وليوطن نفسه على ذلك فقد صح عن رسول الله أنه قال إن هذا الدين بدا غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء رواه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة ورواه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال هذا حديث حسن صحيح ورواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد من حديث أنس وروى البخاري نحوه بغير لفظه من حديث ابن عمر وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام عن رسول الله أنه قال طلب الحق غربة رواه الحافظ الأنصاري في أول كتابه منازل السائرين إلى الله من حديث جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده وقال هذا حديث (1/29)
غريب لم أكتبه عاليا إلا من رواية علان ولذلك شواهد قوية عن تسعة من الصحابة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد فنسأل الله أن يرحم غربتنا في الحق ويهدي ضالنا ولا يردنا من أبواب رجائه ودعائه وطلبه محرومين إنه مجيب الداعين وهادي المهتدين وأرحم الراحمين
فإن قيل قد دل السمع كتابا وسنة على أن دين الاسلام هو الفطرة المخلوقة وطلب ذلك هو تحصيل الحاصل فما هذا التهويل
قلت لأنه قد اشتد تغييرها وصلاحها بعد شدة التغيير عسير فهي كالعافية والتغيير كالأمراض التي اخترنا أسبابها فاشتدت وتمكنت حتى عسر علاجها وهذا المختصر وأمثاله كأدوية تنفع من لم يستحكم عليه التغيير دون من استحكم عليه ولا يحتاجها المعافى ويدل على ذلك حديث حزام بن حكيم ابن حزام عن أبيه وعمه أن العبادة في صدر الاسلام أفضل من العلم وأن العلم في آخر الأمر أفضل من العبادة كما سيأتي قوة اسنادها وموافقتها في المعنى للنظر العقلي ياتيان في بيان فضل العلم النافع وخامسها وهو اصعبها المشاركة في العلم أو في التمييز والفهم لأهل الطبقة الوسطى ومن يقاربهم في المنزلة حتى يتمكن بذلك من معرفته مقدار ما يقف في هذا المختصر من الفوائد من غير تقليد فيرغب فيه أو يزهد حين يقيس على ما يألف ويعهد لأنه لا يعرف مقدار الشيء إلا ذو بصيرة يعرف أن له أجناسا كثيرة فيقيسها إليه أو يقيسه إليها فيفضلها عليه ويفضله عليها وذكي القلب يتمكن من ذلك وإن لم يسلك تلك المسالك لكن بكثرة المسألة لأهل المعارف والمقايسة بين المصنفات لعارف عارف وإلا كان الواقف عليه مثل من لا يعرف الجواهر الثمينة والفصوص النفيسة يجد فصا عظيم المقدار فيضيعه أو يبيعه بثمن نزر فقد بيع يوسف الصديق بذلك حين لم يوقف له على قدر فإن عرضت لطالب الحق محنة لم يتطير بطلب الحق فيكون من الذين يعبدون الله على حرف وليثق بقرب الفرج ويتوكل على الله كما قال تعالى فتوكل على الله إنك على الحق المبين وعلم وأيقن أن الله مع الصابرين ومع الصادقين (1/30)
وأن الله ناصر من ينصره وذاكر من يذكره وأن سر رسول الله في هذه الأمور عائد على متبعيه ونصره شامل لناصريه ولم أقصد بهذا المختصر هداية أهل اليقين التام من الأولياء الكرام أهل الكمال في المعارف من العلماء الاعلام ولا هداية أئمة الكفر المعاندين لأهل الاسلام أما أهل الكمال في العلم الذين بلغوا مرتبة الامامة الكبرى في علمي المعقول والمنقول وأهل اليقين التام من الأولياء الكرام نفع الله بهم فإن مهدي هذا المختصر إلى معارفهم كمهدي الحشف إلى هجرأ ونجران بل كمهدي الحضيض إلى أهل الدر والعقيان وإن كان قد ينزل عند بعضهم منزلة فاكهة البادية الطرية البرية التي هي من العلاجات الحضرية بريه فإنها قد تعجب أهل الحاضرة وإن كانت عما لديهم في النفاسة قاصرة وأما أئمة الكفر والسفه والتعلق بمذاهب الفلسفة فهم كمن استحكم الداء عليه فلا تنفعه الأدوية النافعة فالداعي لهم إلى حق حقائق الإيمان وإن جاء بأعظم برهان في اليأس منهم وعدم الطمع فيهم كالداعي للعميان إلى النور وللأموات إلى الخروج من القبور وكيف الطمع في هداية قوم قد أقام ربهم عليهم الحجة مرارا أولها بخلقهم على الفطرة وثانيها بطول المهلة وثالثها ببعثه الرسل بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة إلى غير ذلك من تجديد الدلائل بخلق المخلوقات المشاهد حدوثها من الغمام والأمطار والحيوان والأشجار فجحدوا الجميع وكفروا الكفر الفظيع مع إيمانهم بأبطل البواطل التي لا يتصور الإيمان بمثلها من عاقل حتى قال الله تعالى فيهم ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وقال تعالى فيهم قتل الإنسان ما أكفره الآيات وقال تعالى فبأي حديث بعده يؤمنون ثم أخبر عنهم علام الغيوب أنهم يجادلون في القيامة بعد بعثهم وعلمهم الضروري بصحة الربوبية فيجحدون الحق حتى تشهد عليهم جلودهم ثم يقولون بعد ذلك لم شهدتم علينا ولذلك لم نؤمر (1/31)
بإقامة الحجة عليهم لأن الله قد أقامها وإنما أمرنا بجهادهم ودعائهم قبل قبل الجهاد على خلاف في الدعاء قبل الجهاد موضعه كتب الفقه الفرعية ولا قصدت بهذا المختصر تفهيم من ليس يفهم فأكون كمستولد العقيم أو مقوم ظل ما ليس بمستقيم وكيف يقوم الظل والعود أعوج وإنما قصدت نفع الأوساط وامتثال أمر الله تعالى فقد أمر الله تعالى بالمعاونة على البر والتقوى وصح الترغيب في الدعاء إلى الحق والخير وإن الداعي إلى ذلك يؤتى مثل أجور من اتبعه ومن أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا وإن من أمر بالصلاح ابتغاء مرضات الله وإن لم يطع فسوف يؤتيه الله أجرا عظيما وفي حديث أنس عنه ما من رجل ينعش بلسانه حقا يعمل به إلا جرى عليه أجره إلى يوم القيامة ثم وفاه الله ثوابه يوم القيامة رواه أحمد وسنده جيد وهو 387 من مسند أنس من جامع المسانيد بل قد أنزل الله سبحانه وتعالى سورة العصر وقصر السلامة من الخسر على الذين آمنوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ثم إني غير مدع للعصمة من الخطأ والمناقضة ولا أدعي ذلك من هو أجل مني وأكمل وأعلم وأفهم من جميع العلماء بل العقلاء وقد قال تعالى في القرآن الكريم ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فدل على لزوم ذلك لما كان من عند غير الله فمن وجد خطأ فلينبه عليه مأجورا والقصد المعاونة على الخير وفق الله الجميع على ما يحب ويرضى
واعلم أني رأيت المصنفين في علم العقيدة الدينية قد سلكوا مسلك سبيل مصنفي كتب المذاهب التي ينتصر فيها المصنف لمذهب واحد في القوي والضعيف والدقيق والجلي ولم يسلك أحد منهم مسلك مصنفي كتب الإسلام التي تذكر فيها مذاهب أهل الملة الإسلامية ويقوي فيها ما قوته الدلائل البرهانية سواء كان لقريب أو بعيد أو صديق أو بغيض وكتب العقائد أحق بسلوك هذا المسلك من كتب الفروع فأما كون الحق فيها (1/32)
مع واحد فصحيح ولكن لا يستلزم أن يكون الصواب في جميع المواضع المتفرقة قد اجتمع لبعض الفرق إلا ما حصل فيه أحد الاجماعات القاطعة من الأئمة والعترة فيجب الترجيح له والنصرة فاستخرت الله تعالى وقصدت احياء هذه السنة الميتة التي هي ترك العصبية
ولذلك سميته إيثار الحق على الخلق جعله الله اسما موافقا لمسماه ولفظا مطابقا لمعناه وجدير أن يكون فيه ما يستدرك علي فإن كل أسلوب ابتدئ لا يكمل إلا بمعاونة جماعة وتتابعهم عليه وتكميل المتأخر لما أهمل المتقدم ولذلك كانت أوائل كل علم وأسلوب قليلة أو ناقصة فليبسط العذر الواقف على ما يستدرك فيه لما كان أسلوبا غريبا بالنسبة إلى هذه الازمنة المتأخرة
واعلم أنه ليس بصرف الاكثرين عن هذه الطريقة إلا أحد أمور أولها عدم الحرص وقوة الداعي إلى هذا كما تقدم مبسوطا قريبا في الوصف الرابع من صفات من تصنف لهم التصانيف وثانيها الخوف من شر الأشرار مع الترخيص في التقية باجماع الأمة فقد أثنى الله على مؤمن آل فرعون مع كتم إيمانه وسميت به سورة المؤمن وصح أمر عمار بن ياسر بذلك وتقريره عليه ونزلت فيه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وقد قيل من عرف الخلق جدير أن يتحامى ولكن من عرف الحق فعسير أن يتعامى والذين آمنوا أشد حبا لله وثالثها خوف الشذوذ من الجماهير والإنفراد من المشاهير وهذا يحتاج إلى نظر فإن كان جمهور السلف القدماء مع القول الشاذ المتأخر فلا يبالى بذلك الشذوذ فقد شهدت الأخبار الجمة الصحيحة بأن الدين سيعود غريبا كما بدأ وكذلك كان الحق في أواخر أهل الكتاب في شذوذ من الصالحين كما شهد بذلك حديث سلمان الفارسي حتى قالت طائفة إن إجماع المتأخرين ليس بحجة وإنما الحجة إجماع الصحابة لما ورد في الأحاديث من ذم أهل المتأخر حكاه ابن جرير الطبري وإن كانت الشهرة للقول في المتأخرين وهو لا يعرف عن أحد من السلف أو يذكر شذوذ عن بعضهم فهده عن البدع وإياها (1/33)