يكون أراد بالتيسير في العصاة بعد العصيان لقوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين ولآية سورة الليل التي احتج بها رسول الله على القدر فيحتمل أن تكون التخلية تيسيرا لما يقع بعدها باختيار المكلف وحده لما كانت سببا في اختياره فيكون للقدر تفسيران أحدهما عام لكل حال ولكل شيء وهو العلم والكتابة ونحوهما مما تقدم كمشيئة العاقبة المستحقة بالمعاصي على ما سيأتي في قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس وثانيهما الاضلال بعد الاستحقاق له عقوبة من غير اجبار ولا سلب للاختيار وهو خاص بمن قد امتحن حتى عصى عند أهل الجمع بهذه الطريقة
الوجه الخامس أن الارادة دائرة بين معنيين إما أن تكون حقيقة فيهما معا أو في الأول منهما حقيقة وفي الآخر مجازا
المعنى الأول الارادة الملازمة للمحبة للمراد والامر به والتحسين له أو شيئا مما يقارب هذا المعنى وهي الارادة الشرعية للواجبات والمستحبات وهذه هي ارادة الشيء لنفسه من غير معارضة كراهة لها بوجه من الوجوه المتعلقة بذلك الشيء المراد وهذه هي الارادة الحقيقية بالاجماع فالقبائح لا تكون مرادة بهذا المعنى وكان المعتزلة لم يعرفوا أو لم يعترفوا بغير هذا المعنى للارادة ولذلك منعوا تعلقها بجميع القبائح وتقدم في الصفات الدليل على جواز اطلاق المحبة على الله تعالى من غير تشبيه كالارادة
المعنى الثاني للارادة الارادة الدالة على نفي ما يستلزم العجز من وقوع ما يكره الله تعالى وقوعه في ملكه من غير سبق قدر منه أو تخلية مرادة لحكمة أو نحو ذلك وذلك لكمال قدرته ونفوذ مشيئته وعموم ربوبيته وكبرياء عظمته بحيث لا يجوز عليه عدم القدرة على اللطف بالعصاة ولا البداء والرجوع عما قد قدره وقضاه وانه لو شاء لهدى الناس جميعا ولجعلهم أمة واحدة كما تمدح بذلك في كتابه الكريم ولكن حكمته اقتضت تمكين العباد وتكلفيهم وابتلاءهم كما أخبر في كتابه وسبقت أقداره بكل ما هو كائن عن علم لا يتغير وحكمة بالغة وحجة دامغة فوقوع المعاصي بالنظر إلى هذه المعاني هو معنى القضاء والقدر والتقدير عند الجميع وعند طائفة لا مانع (1/248)


من أن يسمي ذلك الوقوع مرادا حقيقة أو مجازا ولا تسمى المعاصي الواقعة مرادة مثل وقوعها بل تسمى مكروهة حقيقة وارادة وقوع المعاصي المكروهة هذه تسمى عند من يجيزها ارادة ارادة كونية لا شرعية في عرفهم وإنما الشرعية في عرفهم هي النوع الأول المختص بالطاعة
وأعلم أن تمسيتهم لهذه ارادة لم يثبت بالنص وإنما ثبت أن ذلك مقدر ولم يرد النص أن كل تقدير مراد وإن كان ذلك هو الظاهر في بادئ الرأي فالتحقيق في النظر والاحتياط يخالفه أما التحقيق في النظر فان المعاصي بالنصوص مكروهة لانفسها فلا تسمى مرادة لأنفسها لتضاد ذلك وعدم الدليل عليه وإنما يجوز أن تراد لغيرها ومتى أريدت لغيرها كانت هذه العبارة مجازية تحقيقها أن المراد هو ذلك الغير لا هي وحينئذ فلا يجوز أن تسمى مرادة مطلقا لوجهين أحدهما أن ذلك يوهم أنها مرادة لنفسها محبوبة وثانيهما أنها مكروهة لنفسها حقيقة ولا يجوز أن تسمى مرادة إلا لغيرها وتسمية الشيء بوصف نفسه أولى من تسميته بوصف غيره فان سمي بوصف غيره فمع قرينة تشعر بذلك وإلا أدى إلى قلب المعاصي وأما الاحتياط فلما بنينا عليه هذا الكتاب من الوقوف على النصوص كما تقدم
ومن أقرب الأمثلة إلى هذا الذي ذكروه ما حكى الله عن موسى عليه السلام من قوله ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فكره وقوع الايمان منهم عند الغضب عليهم لله تعالى وهو لا يتهم في محبة الايمان بالله في الجملة وابن تيمية كثير التعويل على الفرق بين الارادة الشرعية وبين الارادة الكونية وكلامه في هذا طويل وليس هذا مما تعلم صحته ولا بطلانه بالنصوص الشرعية ولا بالبداية العقلية فالاعتصام بالاعتقاد الجملي أحوط منه وأولى وهو أن الله يكره القبائح ولا يحبها وأنه على كل شيء قدير فلو شاء لهدى الناس جميعا وإن له الحكمة البالغة فيما فعل وترك وقدر وقضى وإن ذلك غير متناقض ولذلك ظهر اعتقاد ذلك الجميع عن السلف من غير إشكال فيه (1/249)


البحث الرابع اتفق أهل السنة من أهل الاثر والنظر والأشعرية على أن الارادة لا يصح أن تضاد العلم ولا يريد الله تعالى وجود ما قد علم أنه لا يوجد وهذه الارادة التي المقصود بها إيجاد المراد لا إرادة المحبة التي تعلق بالذات لا بايجاد الذات فافهم ذلك
واحتجوا على ذلك بوجوه منها قوله تعالى أتريدون أن تهدوا من أضل الله ولا وجه لإنكار هذه الارادة إلا تعلقها بما لا يقع في العلم ومنها أن امتناع ذلك مدرك عقلي جلي يدرك بالوجدان من النفس كما يدرك الالم واللذة فانا ندرك من أنفسنا امتناعها مثل أن نريد من الله تعالى ما يقدر عليه سبحانه مما نعلم أنه لا يفعله مثل ان لا يذيقنا الموت أبدا وأن يدخلنا الجنة من غير موت ولا حشر مع قدرة الله تعالى على ذلك ومحبتنا لذلك وإنما امتنع أن نريد ذلك من الله تعالى لعلمنا أن الله تعالى قد كتب الموت والحشر على جميع العباد ولا شك أن هذا هو الفطرة ولذلك لا ترى عاقلا في الدنيا يسعى فيما يعلم أنه لا يحصل فلا نرى شيخا فانيا يطلب دواء لعود أيام الشباب ولا نحو ذلك وإنما خالفت المعتزلة لشبهة الامر بخلاف المعلوم فان الله تعالى يأمر بما يعلم أنه لا يقع وصحة هذا إجماع لكن ظنت المعتزلة أن الأمر يلازم الارادة وإنما ظنوا ذلك لأنه الأكثر في الشاهد في حق من لا يعلم الغيب
والتحقيق أن الأمر مع الارادة ينقسم ثلاثة أقسام
القسم الأول الأمر الملازم للارادة وذلك في حق من غرضه بالأمر تحصيل المطلوب وشرط هذا الأمر أن يصدر ممن يعلم أن المطلوب سيحصل أو يكون جاهلا بعلم الغيب
القسم الثاني لا تصحبه الارادة قط ولا محبة المطلوب وهو أمر الاختيار للغير بالعزم على الطاعة مثل أمر الخليل عليه السلام بذبح ولده فان الله تعالى لم يرد ما أمر به من الذبح ولا أحبه وإنما ابتلى خليله بالعزم كما قال فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين (1/250)


القسم الثالث لا تصحبه ارادة الحصول وتصحبه محبة المطلوب دون ارادة وقوعه من المأمور وذلك مثل أمر الكافر بالايمان مع علم الله تعالى أنه لا يؤمن أبدا مثال ذلك قوله تعالى ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم مع أن الانبعاث معه عليه السلام مأمور به لكن كره من وجه آخر لا من الوجه المأمور به لأجله
وفي هذا المقام يذكر أهل السنة علم الغيب وما ورد في القدر والقضاء وأنهما بمعزل عن الجبر والاكراه ونفي الاختيار وقد تقصيت ما ورد في ذلك فبلغت أحاديث الأقدار وثبوتها مائة حديث وخمسة وخمسين حديثا وأحاديث وجوب اعتقاد ذلك اثنين وسبعين حديثا صار الجميع مائتي حديث وسبعة وعشرين حديثا من غير الآيات القرآنية والقدرية المجمع على ذمهم عند أهل السنة من يقول من قدماء المبتدعة أن الله لا يعلم الغيب ولا يوجد الآن من هؤلاء أحد وسياتي الكلام في تفسير القدرية
البحث الخامس وهو أنفس هذه المباحث ومغن عنها وذلك أن ظواهر عبارات المعتزلة والأشعرية في هذه المسألة في غاية المنافرة وتحقيق مذاهبهم يقضي باجتماع كلمتهم على أن الله تعالى قادر على هداية من يشاء باللطف والتيسير وعلى أن الله تعالى لا يريد المعاصي والقبائح وهذا عجيب لا يكاد أحد يصدق به إلا بعد شدة البحث والتنقير وسبب اجتماعهم في المعنى أن الخطأ منهم الجميع لما فحش من الجانبين لم يخف عليهم وما زالوا ينظرون ويناظرون ويعتذرون عن شنيع العبارات حتى اجتمعوا وهم لا يقصدون ذلك الاجتماع وأنا أبين ذلك من نصوصهم وكتبهم المعروفة
فأما المعتزلة فاعترفوا بقدرة الله تعالى على ذلك عندهم وعلى أصولهم في مسألتين
احدهما أن اللطف إنما امتنع في حق بعض المكلفين لأجل البنية التي خلقهم الله تعالى عليها وهي بنية مخصوصة فيها غلظة وقساوة وهو قادر عند جميع المعتزلة على تغيير بنيتهم وخلقهم على بنية الانبياء والملائكة ذكر ذلك ابن الملاحمي في كتابه الفائق وقد ذكرت الوجه في لزوم ذلك على أصول (1/251)


المعتزلة من العقل والسمع وتقصيته في العواصم قال تعالى ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وقال تعالى عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم وقال تعالى وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم وفيها حجة على ثبوت حكمة الله تعالى فيما تعرف العقول حسنه من هدايتهم وما لا تعرفه من تركها مع القدرة عليها فانها لا تعرف حسن ذلك كما عرفناه الآن إلا بتعريف الشرع كما مضى في مسألة الحكمة لأن كل بنية قابلة للطف أو غير قابلة فانها عارضة يمكن تغييرها لا ذاتية ولأن الاجسام عندهم كلها متماثلة في ذواتها وإنما تختلف بالصفات والأحوال العارضة وتغيير ذلك كله ممكن لله تعالى ولأن قدرة الله تعالى على كل شيء عموما وعلى هداية كل أحد خصوصا منصوصة قطعية معلومة من الدين ومن إجماع المسلمين
قال ابن الملاحمي فان قيل فلم خلقه الله تعالى على هذه البنية التي لا تقبل اللطف قلنا لحكمة لا نعلمها ويكفينا علمنا بأنه أو كما قال وهنا نعلم أن الخلاف لفظي لأن تغيير هذه البنية يسير على من هو على كل شيء قدير وإنما هو تليين تلك القلوب القاسية أو تعليم تلك النفوس الجاهلية ولو أراد الله تعالى قلب جبال حديد ماء عذبا أو هباء منثورا لم يزد على أن يقول لذلك كن فيكون كيف وليس إلا تقليب القلوب القاسية وتليين القساوة وترقيق الطبع الغليظ فثبت أن الله تعالى قادر عندهم على هداية العصاة عند الجميع لكن المعتزلة شرطوا أن تكون هدايتهم بتغيير بنيتهم وسائر الناس قالوا إن ذلك ممكن من غير تغيير بنية
وثانيتهما قالت المعتزلة إلا أبا علي الجبائي أنه يجوز أن يزيد الله تعالى في شهوات المكلفين ويخلق من أسباب المعاصي ما يعلم أن المعاصي تقع عنده ولو لم يخلقه لم تقع وقاسوا ذلك على ابتداء التكليف فان الله تعالى كلف أهل النار وهو يعلم أن تكليفهم يكون سببا لوقوع معاصيهم ولو لم يكلفهم لم تقع منهم المعاصي وعلى هذا يجوز أن جميع المعاصي ما وقعت إلا (1/252)

49 / 83
ع
En
A+
A-