المسلم أن يكره عذاب الله تعالى له مع أنه يعتقد حسنه من الله تعالى وعدل الله فيه لكنه لم يكرهه من هذه الجهة إنما كرهه من حيث أنه لا يصبر عليه ولا يقوى له ونحو ذلك فوجه بعض أهل النظر كراهة الله تعالى للمعاصي والقبائح إلى ذواتها الواقعة من العصاة وارادتها إن قدرنا ورود شيء من السمع بها إلى الوقوع لحكمة من عقوبة وسخط على من استحق ذلك أو غير ذلك وهذا جيد في النظر لولا أنا لم نضطر اليه لعدم صحة ورود السمع بارادة المعاصي ولا شيء منها وان ظن ذلك من لم يكثر النظر والتأويل التام لمعاني الآيات القرآنية والله الهادي
وأقرب الآيات منه قوله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقول موسى عليه السلام ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم ومن الحديث حديث جبريل عليه السلام حيث روي أنه جعل يأخذ من حال البحر فيدخله في فم فرعون خشية أن يقول لا إله إلا الله فتدركه الرحمة وإذا صح ورود السمع بهذا فالدليل على من ادعى قبحه لأن قبحه ليس بضروري بالاجماع
وتلخص أن حسن ذلك أن ورد به النص مشروط بثلاثة أمور أحدها أن يتعلق بالوقوع دون الواقع مثل ما ذكرنا في اليمين الغموس وثانيها أن يكون بعد استحقاق العقوبة لقوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين ونحوها مما ذكرناه وثالثها أن لا يجعل ذلك غرض الغرض الذي هو تأويل المتشابه وإن لاح لنا منه شيء لم نقصر عليه التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى الذي هو المراد على الحقيقة وإنما أراد الله تعالى بما قبله أن يكون سببا له لحكمة الله تعالى في ترتيب المسببات على أسبابها فتأمل ذلك حتى تخلص به من ارادة القبائح وارادة وقوعها جميعا كما تقدم في قول الخضر فأردت أن أعيبها أي أجعل عيبها سبب سلامتها من الملك الظالم وإلا فالمراد المحقق سلامتها لاعيبها (1/243)
الوجه الرابع أن قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين وما في معناها من آيات هذا النوع كلها أدلة خاصة تدل على أن أول ما يقع من المكلف من الذنوب كائن بالتخلية بينه وبين نفسه لاقامة الحجة حجة العدل عليه وقطع أعذاره الباطلة من دون اضلال من الله تعالى في هذه الحال ولا تيسير للعسرى ولم يبق من الله تعالى في مثل هذا الحال إلا القدرالذي بمعنى العلم والكتابة وارادة العاقبة المستحقة بالعمل وارادة اقامة الحجة على العبد في تلك العاقبة كما يذكر في تفسير قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس فان ارادة الله تعالى عذابهم لم تعلق به إلا حين يكون حقا مستحقا عليهم بذونهم بالاجماع وإنما الخلاف في جواز تقدم الارادة للعقاب المستحق لا في أنها تعلقت بغير مستحق فمن فسر الارادة بالعلم من المعتزلة كالبغدادية وأبي الحسين لا يمكنهم تقبيح تقدمها وكذلك من يجعل تقدمها أمرا واجبا مستحيلا خلافه كالأشعرية
وقولنا أنه لا يجوز الاضلال في أول أحوال التكليف حتى يستحق العبد ذلك بالمعاصي يناسب قول أبي علي بالمنع من الزيادة في الدواعي إلى القبيح التي يعلم الله تعالى عندها أن المكلف يختار القبيح بخلاف أبي هاشم فانه يجيز ذلك كالأشعرية لكن لا يسميه اضلالا إنما يسميه امتحانا وابتلاء لكنا لم نقل ذلك بالنظر العقلي وإنما قلناه بتأمل كتاب الله تعالى وقضينا بأنه محكم القرآن لموافقة العقل والنظر فهو محكم عقلا وسمعا أما العقل فلأنه من قبيل الجزاء والعذاب الاخروي وقد ورد السمع بجواز تقديم بعضه وهو المسمى بالعذاب الأدنى في كتاب الله تعالى ونص على ذلك الامام المنصور بالله من الأئمة وأما أحكامه سمعا فلأنه المنصوص فان قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين نص في ذلك والمعارض له غير صحيح في ارادة الله تعالى وقوع ذنب العبد قبل استحقاقه العقوبة بذلك
وهنا تلخيص جيد مفيد وهو أنه لا خلاف أن الله تعالى لا يعاقب إلا بعد الاستحقاق بالمعصية لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ولقوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق (1/244)
عليها القول الآية فمن فهم من الاضلال أنه من جنس العقوبات لم يجزه إلا بعد الذنوب ومنع أن يقع من الله تعالى ابتداء قبل أول معصية وسمى ما يقع في ذلك الوقت من أسباب المعاصي ابتلاء وامتحانا إن كان ممن يجيزه وهم الأشعرية وجمهور المعتزلة ومن فهم من الاضلال معنى الابتلاء والامتحان اجازه مطلقا قبل الذنوب وبعدها لكن الآيات المتقدمة ظاهرة في الدلالة على أنه من جنس العقوبات مثل قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين وقوله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم إلى سائر ما تقدم والله أعلم
وجميع المعارضات لذلك نوعان أحدهما يختص بغير المعاصي عند التأمل كقوله تعالى ولو أننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى الآية فانها في امتناع الايمان إلا بمشيئة الله تعالى وعونه ولطفه وذلك صحيح ودليل ذلك قوله تعالى في آخرها ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وكذلك قوله تعالى وما تشاؤن إلا أن يشاء الله فانها في مشيئة الطاعة لقوله تعالى في أولها لمن شاء منكم أن يستقيم وفي ذلك قال رسول الله فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه بل قال الله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء وقال يختص برحمته من يشاء
فان قيل قوله تعالى وما تشاؤن إلا أن يشاء الله عام في لفظه وخصوص أول الآية لا يستلزم خصوص العام الذي في آخرها كما أن خصوص السبب لا يستلزم خصوص العموم في أحد القولين
فالجواب من وجوه أربعة الأول أنا لا نسلم أن آخرها عام منطوق لأن مفعول يشاء الله تعالى محذوف وتقديره المذكور في أول الآية والمذكور في أولها يختص بالطاعات وهذا جيد جدا فتأمله
الثاني أنا لو سلمنا العموم اللفظي لما سلمنا جواز اعتقاد معناه هنا لأن في العام الوارد على سبب خلافا (1/245)
قويا في الظنيات العمليات فكيف هذا وهو أولى بالوقف فيه لوجوه ثلاثة أحدها أن هذا في الاعتقاد القاطع في أصول الاديان وثانيها أن خصوص أول الآية أقوى في هذا من مجرد نزولها على سبب خاص وثالثها أن هذا من عموم المفهوم وفيه خلاف الثالث من الأصل أنا لو سلمنا العموم لم يكن لنا اعتقاد هذا لما ذكرنا من أنه من دلالة التضمن لا من دلالة المطابقة اللغوية وقد مر تحقيقه الرابع أنه معارض لقول إبراهيم عليه أفضل السلام لئن لم يهدن ربى لأكونن من القوم الضالين فاكتفى في وقوع ضلاله بفقد هداية الله تعالى وإن لم تحصل ارادة ضلال ولا ارادة قبائح الافعال
ولذلك نظائر في الآيات كقول آدم عليه السلام وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وقول نوح عليه السلام وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ومنه حديث داود عليه السلام في سبب ذنبه وقول الرب عز و جل له وعزتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوما فأصابته السيئة ذلك اليوم رواه الحاكم من حديث ابن عباس وصححه فلم يقف خسراننا على ارادته بل على عدم رحمته ونحو ذلك كثير جدا وهو بعمومه معارض بما يستلزم من استلزام الآيات لعمومها لارادة الله القبائح فوجب الوقف في ذلك
وثمرة هذا التحقيق أن القدر المتيقن أن وقوع المعاصي متوقف على عدم القدرة امتحان الفرد بعدم اللطف الزائد لا بارادة ذنوبه ولا محبتها كما ظن أنه مقتضى الآيات وظن أنه قول أهل السنة ولا متوقف على عدم القدرة والعجز كما ظن أنه قول المعتزلة
فان قيل ينتفض هذا بقوله تعالى وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا لأن هذا الكلام كلام نبي مرضي لا يستحق العقوبة بالاضلال وقد جوز أن يشاء الله ذلك فيقع بمشيئته (1/246)
قلنا لا نسلم ذلك بل هذا من شديد خوف الأنبياء عليهم السلام لأنهم أعلم الخلق بالله تعالى واعلمهم به أخشاهم له كما قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء ألا ترى إلى قول الراسخين ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا بل إلى قوله تعالى فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وسبب خوف العلماء أنه قد أخبرنا أنه خلقنا ليبلونا أينا أحسن عملا وكل أحد يبتلي على قدر صبره وحاله وكمال الابتلاء لا يحصل إلا بذلك ولذلك ابتلى ابراهيم الخليل عليه السلام بالامر في المنام بذبح ولده فخاف هذا النبي الكريم أن يكون له ذنب يستحق عليه العقوبة ببلوى توقعه في أعظم الذنوب خوف هيبة وقمع نفس من العجب والأمان لا خوف تجويز كما فسر به خوف الملائكة ويؤيد ذلك أن كلامه خرج مخرج التعظيم لله تعالى في عدم القطع بالنجاة دون مشيئته وعد القطع على براءة نفسه من الذنوب الموجبة للعقوبة بالخذلان فقد عوقب آدم وداود حين وثقا بأنفسهما فأذنبا ولذلك أتبع بذكر التوكل
النوع الثاني مما يتوهم معارضته لقوله تعالى وما يضل به الفاسقين كله عمومات مثل قوله تعالى ولا تقولن لشيء أني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله يوضحه أنها نزلت على سبب غير قبيح وفي العلماء من يقصر العموم على سببه وتناول العموم لغير سببه ظني بالاجماع وأما قوله تعالى ان كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم فلا يرد علينا هنا لأنها في كفار بعد البعثة والتمادي على التكذيب فهم يستحقون الاغواء والاضلال وأما كلامنا هنا في أول ذنب
وأما أحاديث القدر وما فيها من قوله كل ميسر لما خلق له فلا نص فيها على أول أحوال التكليف بل قد جاء بعضها صريحا في أن ذلك يكون عند الخاتمة وهي وقت الاستحقاق للجزاء وحديث كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه يدل على ذلك بل قوله تعالى فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله فيحتمل أن (1/247)