الكلام على مسألة الارادة وفيها مباحث
البحث الأول في معناها وهي الأمر الذي يقع به فعل الفاعل المختار على وجوه مختلفة في الحسن والقبح وعلى مقادير مختلفة في الكثرة والقلة وسائر الهيئات والأشكال من السرعة والبطؤ وموافقة الغرض ومنافرته في أوقات مختلفة في التقديم والتأخير وهذا هو القدر المجمع عليه في معناها وبقية المباحث فيها في علم اللطيف وكلها مما لا تكليف في الخوض فيه ولا حاجة اليه بل هو يؤدي إلى محارات أو محالات
البحث الثاني في معرفة ما ورد في السمع مما يتعلق بالارادة ويظن فيه أنه متعارض وبيان أنه غير متعارض وأن اتباعه أحوط وهو نوعان
النوع الأول وردت النصوص المعلومة بالضرورة من كتاب الله تعالى أنه يكره المعاصي ولا يحبها وذلك واضح قال تعالى بعد ذكر كثير منها كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها وقال والله لا يحب الفساد وقال ولا يرضى لعباده الكفر وقال وإن تشكروا يرضه لكم فهذا النوع من السمع معلوم وقد قال به أهل الأثر وجماهير أهل النظر واتفقت عليه الأشعرية والمعتزلة
النوع الثاني ما ورد من التمدح بكمال قدرة الله تعالى على هداية العصاة خصوصا وعلى كل شيء عموما والتمدح بنفوذ ارادته كقوله تعالى ولو شاء الله ما أشركوا ولو شاء الله ما فعلوه فلو شاء الله لهداكم أجمعين وما شاء الله كان وجودا وعدما وهو المعلوم من القرآن ويلزم منه إن شاء لم يكن وهو أصح من قولهم وما لم يشأ لم يكن إلا أن يصح الحديث الذي فيه وفيه أحاديث لم يخرج البخاري (1/228)


ولا مسلم منها شيئا عاما وإنما خرجا حديث أبي هريرة في قصة يمين سليمان عليه السلام وهي خاصة بتلك الواقعة ولذلك اخترت في العبارة في الاعتقاد ما شاء الله كان وما شاء لم يكن ومعناهما ما شاء أن يكون كان وما شاء أن لا يكون لم يكن وهذا معلوم من السمع وفيه ما لا يحتمل التأويل بالإكراه دون غيره كقوله تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين وقوله تعالى جوابا على من قال ارجعنا نعمل صالحا ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وغيرهما مما ذكره يطول
وقد أوضحت الوجه في امتناع تأويلهم لهذه الآيات بمشيئة القسر والالجاء في كتاب العواصم وهو لا يخفى على النبيه إن شاء الله تعالى والعقل يعضد السمع في قدرة الله تعالى على ذلك كما أوضحته هنالك وقد رجعت اليه المعتزلة كما سيأتي في هذه المسألة حيث نبين أن الأمة رجعت إلى الاجماع في هذه المسألة العظمى بعد إيهام الاختلاف الشديد وهو اختيار الامام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام أعني قدرة الله على اللطف بالعصاة وأنه غير واجب عليه فتبقى الآيات في التمدح بذلك على ظاهرها ذكره الامام في كتاب التمهيد في أوائل الباب السابع في النبوات واحتج عليه وهو قول الامام الناصر محمد ابن علي عليهما السلام وهو قول قدماء العترة كما ذكره صاحب الجامع الكافي ويعتضد بوجهين أحدهما قوله تعالى فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله وحديث كل مولود يولد على الفطرة ومذهب المعتزلة مبني على أن اللطف إنما تعذر في حقهم لأن الله بناهم بنية لا تقبل اللطف وثانيهما أن تجويز خلق الله لهم على هذه البنية يناقض إيجابهم اللطف بل يجوز فعل المفاسد
وأما قوله تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فالجواب عن الاحتجاج بها على مذهبهم من وجوه (1/229)


الاول أنها في الكافرين الذين قد غيروا الفطرة واستحقوا العقوبة بالخذلان وسلب الالطاف فهي كقوله تعالى صم بكم عمي فهم لا يرجعون ونحوها وكلامنا إنما هو في المكلف في أول أحوال تكليفه وابتلائه وهذا بين
الثاني أنها خبر عن صفتهم التي هم عليها وليس فيها نفي قدرة الله تعالى على تغيير صفتهم بالطافه الخفية وهو اللطيف لما يشاء القائل قل كونوا حجارة أو حديدا الآية المتمدح بأنه لو شاء لجعل منهم ملائكة وجعل الناس أمة واحدة ونحو ذلك والآية تقتضي أن الله ما علم فيهم خبرا لا أنه ما علم أنه يقدر على هدايتهم وكم بين الأمرين وأين أحدهما من الآخر
الثالث أن الآية لهم فيجب حملها على ما يرجع إلى كسبهم الاختياري من الاصرار والعناد الذي يستحقون الذم عليه لا على ما يرجع إلى خلقتهم التي هي فعل الله تعالى يغيرها كيف يشاء ولا ذم عليهم فيها جمعا بينهما وبين جميع ما تقدم من نحو قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة وقوله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقد مر مستوفى
الرابع سلمنا أن الآية تحتمل ما ظنوا وما ذكرنا يمتنع لكن ما ذكروه بسائر الآيات المبينات لقدرة الله تعالى على كل شيء ولكونه ما يضل إلا الفاسقين ولكونه خلق الخلق على الفطرة حتى غيرهم آباؤهم ولا يجوز العدول عن هذه الأمور الثلاثة البينة بمجرد احتمال لا حجة عليه والله أعلم
وهنا ظن بعض الأشعرية أن الآيات التي في نفوذ المشيئة في قوة أن الله تعالى مريد للموجودات بأسرها سواء كانت حسنة أو قبيحة وأنه غير مريد لما لم يوجد سواء كان حسنا أو قبيحا وليس هو تحقيق مذهبهم كما أن عدم قدرة الرب على اللطف بالعصاة ليس هو تحقيق مذهب المعتزلة وإنما قال بعض الاشعرية المعاصي مرادة مجازا لا حقيقة عندهم يعني أن أسبابها التي هي أفعال الله تعالى مرادة لله تعالى مثل القدرة والدواعي فتنزلت المعاصي (1/230)


عندهم منزلة غرض الغرض وهذا أيضا ليس تحقيق مذهبهم لوجهين أحدهما أن كثيرا منهم لا يجيزون الاغراض على الله تعالى كما ذكر في مسألة الحكمة وثانيهما أن غرض الغرض لا يكون إلا خيرا محضا كالحياة في القصاص والعافية في الفصاد والقبائح أو وقوعها لا يصح أن يكون غرض الغرض لحكيم قط كيف أحكم الحاكمين فلابد أن يكون غرض الغرض في عدم اللطف الزائد بالعصاة هو خير محض وهو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه على التفصيل إلا الله على الصحيح كما تقدم في مقدمات هذا المختصر
ومثال الغرض الأول قول الخضر عليه السلام فأردت أن أعيبها وغرض الغرض هو سلامتها لأهلها من أخذ الملك لها ومن أدب الخضر عليه أفضل السلام إضافة هذا الغرض لنفسه دون الله سبحانه وتعالى
ومثال غرض الغرض هو ما أضافه الخضر إلى ربه تعالى حيث قال فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ومثاله أيضا ما ثبت في الصحيح عن أبي أيوب وأبي هريرة كلاهما عن النبي أنه قال لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم وله شواهد عن جماعة من الصحابة فلم يجعل الذنوب القبيحة غرض الغرض بل جعله مغفرتها بالاستغفار ومن لا يغفر له فقد دل القرآن على أن غرض الغرض في عذابه الانتصاف للمؤمنين من أعدائهم الكافرين ونحو ذلك من المصالح والعواقب الحميدة كما يأتي بيانه والمراد المحقق هو غرض الغرض وهو الثاني في الوقوع والأول في الارادة ألا ترى أن أول ما وقع في همة الخضر عليه السلام سلامة السفينة ثم عابها لتسلم فالمراد المحقق هو سلامتها لا عيبها فاعتبر ذلك في جميع المتشابه من هذا الجنس تجده بينا واضحا ولله الحمد
فهذا كله إذا ثبت أن شيئا من الشر مراد فانه لا يجوز أن يكون الشر مراد الحكيم لكونه شرا فقط وأما الخير فيراد لنفسه لا لشيء آخر فلا يلزم فيه غرض الغرض وإن جاز من غير لزوم لزيادة الخير مثل أن يراد (1/231)


خير لأنه يؤدي إلى اضعافه من الخيرات ولو أريد لنفسه كان صحيحا
فاذا تقرر هذا فاعلم أن تلك الآيات في قوة التمدح بكمال القدرة لا بارادة القبائح ومرادنا بالقوة هنا هو ما سيقت لافادته وهو المعنى اللغوي الذي يسميه أهل المعاني دلالة المطابقة فقد وهم من ظن أنها في قوة أن القبائح مرادة لله تعالى وأفحش منه غلطا من ظن أنها مرادة لله تعالى وأن المرادة في قوة المحبوب فاطلق القول بأن المعاصي محبوبة لله تعالى
فأما أهل الآثار فلا يقول بهذا منهم أحد لأن المحبة عندهم غير الارادة حقيقة ولا يطلق أحدهما حيث يطلق الآخر إلا بدليل خاص
وأما بعض الأشعرية فقد أجاز ذلك بناء على أنه مجاز لأن المحبة عندهم لا تجوز على الله تعالى إلا مجازا كما تقوله المعتزلة وهذا وإن كان أهون في القبح إلا أنه خطأ وقبيح لوجهين أحدهما أن شرط المجاز هنا مفقود وهو العلاقة المسوغة المقتضية للتشابه ولولا ذلك لصح تسمية البخيل غيثا وبحرا كالجواد والجبان أسدا كالشجاع يوضحه أن المعاصي مسخوطة من حيث كانت معاصي بالاجماع وأهلها إنما يغضب الله عليهم من هذه الجهة المسخوطة فلا يصح أن تكون المعاصي مرضية محبوبة مجازا من هذه الجهة بعينها قطعا باجماع من يعرف المجاز وشروطه المخرجة له عن الكذب والمناقضة وتجويز ذلك خروج عن قانون اللغة وتجويزه يؤدي إلى تجويز مجازات الملاحدة
وقد أخطأ من روى عنهم ذلك على الاطلاق ولم يقيده بانه مجاز عندهم ومن أخطأ في رواية ذلك منهم افحش غلطا في الخطأ والغلط ممن رواه من خصومهم وهذا مع دقته قد وقع فيه بعض المعتزلة بل علامتهم في علم البلاغة والادب الزمخشري ولذلك زعم في تفسير قوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أي أمرناهم بالفسق مجازا فالامر بالفسق مجازا أبعد من الرضا به مجازا وغلط الزمخشري فيه بينته في العواصم والمختار فيه أمرناهم بالتكليف على السنة الرسل كقوله (1/232)

45 / 83
ع
En
A+
A-