بالحكمة كما قال الله تعالى ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر وأمثالها وهي مانعة من تأويلهم الحكيم بأنه ذو الأحكام في المخلوقات لا ذو الحكمة فيها ولا شك أن إثبات الحكيم بأنه ذو الأحكام في المخلوقات لا ذو الحكمة فيها ولا شك أن إثبات الأحكام لها والحكمة فيها أكثر مدحا وأنه تعالى أولى بكل مدح
الوجه الثاني أنه لا بدعة في إثبات الحكمة لله تعالى وعدم تأويل الحكيم بالاجماع لأن البدعة احداث ما لم يعهد في عصر النبوة والصحابة وما كان منصوصا في كتاب الله تعالي فهو موجود في عصرهم ضرورة وإنما الذي لم يوجد في عصرهم نفي ذلك أو تأويله والقول بأنه صفة ذم أو يستلزم ذلك
الوجه الثالث أنه يخاف الكفر بجحد ذلك لما قررناه من أنه معلوم ضرورة وكذلك يخاف الكفر في تأويله وإن كنا لا نكفرهم احتياطا للاسلام وأهله لما سيأتي ولمعارضة الأدلة الموجبة لاسلامهم كما تقدم ولأن قصدهم إنما هو حسم مواد الاعتراض علي الله تعالي لكنهم أساؤا النظر بالتزام مثل ما فروا منه وأما القول بذلك فلا وجه لخوف الكفر فيه أبدا حتي عند نفاة الحكمة لأن الكفر هو جحد الضرورات من الدين أو تأويلها ولم تأت في نفيها آية قرآنية ولا حديث آحادي فضلا عن متواتر وأما مخالفة غلاة المتكلمين في دقائقهم فلم يقل أحد أنها كفر وإلا لوجب تكفير أكثر أهل الاسلام بل خيرهم
وإنما أوضحت هذا لأتي بنيت هذا الكتاب علي لزوم الأحوط في الدين مهما وجدت اليه سبيلا وترك كل ما يخاف من القول به العذاب أجارنا الله تعالي منه وعلي تقديم عبارة القرآن ونصه ولفظه لقوله تعالي إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وقوله تعالي اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ولأنه لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (1/223)
ولأنه أشرف وأبرك وأصح وأنجي وأولي وأحري وأعلي وأهدي بالاجماع
فان قبل تجويز بعض ما يستقبح في عقول العقلاء لحكمة لا يعلمونها يستلزم تجويز بعثة الكذابين والكذب والخلف في الوعد والوعيد ونحو ذلك لحكمة لا يعلمها إلا الله تعالي
قلنا هذا ممنوع لوجهين الوجه الاول أن تقبيح العقول ينقسم إلى قسمين ضروري وظني ونحن ما جوزنا أن يصدر من الله تعالى كل قبيح على الاطلاق لحكمة خفية إنما جوزنا ذلك في القسم الذي التقبيح فيه ظني يقع في مثله الاختلاف بين الجاهل والعالم وبين العالم والاعلم ولا شك أن اختيار الكذب وبعثه الكذابين بالمعجزات والخلف في الوعد بالخير ممن هو على كل شيء قدير وبكل غيب عليم وترجيحه على الصدق وبعثة الصادقين مع أن قدرته عليهما على السواء قبيح قبحا ضروريا قبحا أشد القبح في عقول العقلاء أما أن لم يجوز في ذلك خير فظاهر وأما أن جوز فيه شيء من الخير فلا شك أن الصدق وبعثة الصادقين أكثر خيرا ودفعا للفساد والمفاسد وجلبا للصلاح والمصالح وتجويز خلاف ذلك يؤدي إلى أن لا يوثق لله تعالى بكلام ولا لأحد من رسله الكرام في دين ولا دنيا ولا جد ولا هزل ولا حلال ولا حرام ولا وعد ولا وعيد ولا عهد ولا عقد ولا أعظم فسادا مما يؤدي إلى هذا بحيث أن كثيرا من السفهاء والظلمة والمفسدين لا يرضون لنفوسهم بمثل ذلك
الوجه الثاني إن الذي يحسن حينئذ لبعض القبائح لبعض العقلاء إنما هو الاضطرار إلى عدم الخلاص من أحد قبيحين فيختار حينئذ الأهون منهما قبحا كما قيل حنانيك بعض الشر أهون من بعض مثاله من لم يستطع حقن دم معصوم أو مسلم مظلوم إلا بكذب أو خلف وعد أو نحو ذلك حسن منه دفع الشر الأعظم بالشر الأقل ومثل هذا لا يتصور في حق الرب جل جلاله لما ثبت من أنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم وأما الخلف في الوعيد فليس هو في مرتبة القبيح الضروري لشهرة الخلاف فيه بين العقلاء وصحة تسميته في اللغة عفوا لا خلفا كما قال كعب بن زهير في قصيدته المعروفة (1/224)
نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
ولم يقل والخلف عند رسول الله مأمول وفي الصحيح من حديث جماعة من الصحابة ابن عباس والخدري وأبي ذر وأبي رزين العقيلي لكن حديثه عند أحمد ولقيط بن صبرة وحديثه عند الطبراني وعبد الله بن أحمد وله مسندان مسند ومرسل ورجال المسند ثقات ذكره الهيثمي في باب جامع في البعث وعن سلمان عند البزار برجال مختلف في بعضهم ذكر في باب حسن الظن بالله تعالى من مجمع الزوائد أن الله تعالى يقول الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو ويشهد لذلك حديث معاذ الذي فيه دعهم يعملوا
وعن علي عليه السلام نحوه في فضل قتال الخوارج ومثل حديث إبراهيم الخليل عليه السلام في التعرض يوم القيامة للشفاعة لأبيه آزر وقول النبي وقد سئل عن أمه أن ربي وعدني مقاما محمودا وأمثال ذلك مما قد جمع في غير هذا الموضع
ويشهد له من كتاب الله تعالى قول الخليل فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم وقول عيسى عليه السلام إن تعذيهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم لكن عارض هذه الادلة قوله تعالى ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد وقوله تعالى وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ولله تعالى من كل حسن أحسنه فلما كان العفو بعد الوعيد حسنا كان العفو قبل الوعيد القاطع أحسن كان الاحسن أولى بالله تعالى من الحسن لكنا نقول أن الله تعالى قد اشترط عدم العفو في الوعيد في آيات كثيرة وفي أخبار كثيرة والشرط الواحد في آية واحدة وحديث واحد كاف في الخروج من ذلك مثاله قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك من يشاء وقوله تعالى خالدين فيها إلا ما شاء ربك والأحاديث المتقدمة وكلام الخليل والمسيح عليهما السلام (1/225)
وأما المرجئة وغيرهم من أهل السنة فقد أجابوا عن قوله تعالى ما يبدل القول لدي بأنها عموم مخصوص بقوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية وأمثالها كما أن قوله تعالى لا مبدل لكلماته مخصوص بها وعضدوا ذلك في قوله تعالى ما يبدل القول لدي بأنها في خطاب الكفار كما هو معلوم من الآيات التي قبلها قالوا وتعدية ما له سبب إلى غير سببه ظنية بالاجماع لكن يقوي ويضعف على حسب القرائن والأحاديث المتقدمة وكلام الخليل والمسيح قرائن تقوى عدم التعدية والجمع بذلك بينهما أولى من الطرح وعضدوا ذلك بأن التبديل لم يقبح لذاته ولا لأنه تبديل قول مطلقا لأنه تبديل قول مخصوص فقد قال تعالى فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وقال ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها والنسخ من تبديل القول لقوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية وقد بدل الله ذبح اسماعيل بالكبش وضرب امرأة أيوب بالضغث وبدل صورة عيسى بمثلها مرتين في الدنيا وفي يوم القيامة وبدل استقبال بيت المقدس بالكعبة وذم من قبح ذلك وسماهم سفهاء حيث قال سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها
يوضحه النصوص المتفق على صحتها والاجماع من أهل العلم المشاهير من جميع المذاهب على أن من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها فالمستحب له أن يفعل الذي هو خير ويكفر عن يمينه استحبابا لا وجوبا وهي مسألة اخلاف الوعيد بعينها فتأمل ذلك يوضحه أحاديث لم تمسه النار إلا تحلة القسم وقوله فيها واثنان بعد قوله ثلاثة فدل على أن التبديل المذموم تبديل مخصوص لا كل تبديل يوضحه أنه قد ثبت أن عذاب الكفار راجح قطعا للاجماع على عدم تجويز العفو المطلق عنهم ولما فيه من حقوق الأنبياء والمؤمنين ونصرهم عليهم وشفاء غيظ قلوبهم منهم ولم يثبت مثل ذلك في عذاب المسلمين لقوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (1/226)
وللاحاديث المخصصة للعمومات المتواترة عند أهل الحديث ولأن الأنبياء والمؤمنين شفعاؤهم لا خصماؤهم وأما قصة قوم يونس فتأتي في مسألة الوعيد
فان قيل إنما يحسن الخلف في الوعيد منا للجهل بالغيب مع نية الصدق فاما عالم الغيب فلو أخلف لم يصح ارادة الصدق عند الوعيد لعلمه بالعاقبة فلو أخلف كان كذبا قبيحا وهذا السؤال قوي إلا أن قوة التباسه بالانشاء هو الذي غرهم فالأولى ترك تجويز ذلك ولسنا نحتاج في هذه المسألة إلى تجويزه لا سيما وهذا الكتاب مبني على الأسلم والأحوط فقس ذلك على هذه القاعدة ولا تعدها فمن نهج السلامة نال السلامة وكثيرا ما يلتبس التخصيص بالخلف على من بعد عن تأمل السمع فأفرق بينهما فهو واضح
والكلام في هذه المسألة طويل وموضعه مسألة الوعد والوعيد وهو يأتي في آخر هذا المختصر إن شاء الله تعالى ومع ما قدمته من وقوع الشرط في الوعيد لا يحتاج إلى هذا ولا يمكن تقبيح العفو من أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين عن أحد من الموحدين والحمد لله رب العالمين لكنه لا سبيل إلى الأمان لأنه وسيلة إلى الفساد والطغيان والله أحكم من أن يؤمن المفسدين من تبوء الجزاء في الآخرة كما لم يسمح لهم الحدود في الدنيا بل أوجب قطع يد السارق في ربع الدينار لحفظ الأموال ومصلحة الخلق في ذلك وهو الحكيم العليم الحميد المجيد الفعال لما يريد
وبهذا السؤال وجوابه تعلم سبب الخلاف في دوام العذاب فمن توهمه من المرجوحات الضرورية في عقول العقلاء وحكمة الحكماء رجح الخصوص الذي هو قوله تعالى إلا ما شاء ربك على عمومات الوعيد بالخلود ومن ذهب إلى أنه من المرجوحات الظنية المستندة إلى مجرد الاستبعاد رجح العمومات وعضدها بتقرير أكثر السلف لها على ما تكرر أن ما لم يتأولوه فتأويله بدعة ولما كان تأويلهم لذلك في حق المسلمين متواترا عنهم وأدلته متواترة عند البعض صحيحة شهيرة عند الجميع كان هو المنصور وسيأتي في موضعه الوجه في أنه أحوط الأقوال والله سبحانه أعلم (1/227)