انه قال قط قط ثم رواه من طريق أخرى فقال نازهير بن حرب ناعفان ناحماد يعني ابن سلمة ناثابت قال سمعت أنسا يقول عن النبي قال يبقي من الجنة ما شاء الله ان يبقى ثم ينشئ الله لها خلقا مما يشاء وخرج مسلم أصل الحديث من طريق أبي سعيد الخدري عن النبي في محاجة الجنة والنار الى قوله لكل واحدة منكما ملؤها فلم يذكر ما بعده من الزيادة
فقد تبين بهذا ان حديث ابراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الاعرج عن أبي هريرة حديث منقلب لم يتابع عليه فأما أبو هريرة فقد تخلص من الوهم برواية الثقات للحديث عنه على الصواب وكذلك الاعرج قد خرجه عنه مسلم من طريق أبي الزناد عن أبي هريرة بغير ذكره لتلك الزيادة المنكرة وأبو الزناد في الأعرج من ابراهيم فانه راويه المشهور وفي كتب الجماعة الستة عنه قدر ثلاثمائة حديث وليس لابراهيم عن صالح عنه الا سبعة أحاديث لم يتفقا على واحد منها خرج البخاري ثلاثة منها أحدها في الابراد بالصلاة في شدة الحر وهو معروف من غير طريقه والثاني لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك وهو كذلك والثالث هذا الحديث وغيره فيه أثبت منه وأحفظ له كما نبين لك ان شاء الله وأما مسلم فلم يخرج له عن صالح عن الاعرج الا في الفضائل ثلاثة أحاديث والسابع من هذه الترجمة خرجه ابن ماجة في رفع اليدين عند التكبير وهو معروف
وقد ذكر ابن حجر ابراهيم بن سعد فيمن اختلف فيه من رجال البخاري وحكى بعد توثيقه عن ابن عدي انه روي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه انه ذكر ابراهيم بن سعد عند يحيى بن سعيد فجعل يقول ابراهيم بن سعد كأنه يضعفه وقال ابن عدي كلام من تكلم فيه تحامل فأفاد انه قد تكلم فيه وقال ابن دارة كان صغيرا حين سمع من الزهري فهذا ما ذكره ابن حجر في ترجمته ولم يذكره الذهبي في الميزان والاعلال والحكم بالانقلاب والادراج ونحو ذلك لا يختص بالضعفاء بل يجوز الحكم به بمخالفة الاوثق والاكثر مع القرائن وقد اجتمع ذلك كله بل ذكر ابن قيم الجوزية في حادي الارواح ان ذلك من المقلوب وان البخاري قد نبه (1/218)
على ذلك قال والروايات الصحيحة ونص القرآن يرده فان الله تعالى أخبر أنه يملأ جهنم من إبليس وأتباعه وأنه لا يعذب الا من قامت عليه الحجة وكذب رسله قال تعالى كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء
قلت ويدل على هذا وجوه منها ان راوي هذا الحديث المقلوب جعل تنزيه الله تعالى من الظلم عند ذكره الجنة فأوهم بذلك ان من أدخله الله تعالى الجنة بغير عمل كان ظلما وهذا من أفحش الخطأ فان الحور العين في الجنة والاطفال بغير عمل وهذا هو الموضع الذي لا يسمى ظلما عند أحد من المسلمين ولا من العقلاء أجمعين ولا أشار الى ذلك شيء من الحديث ولا من السنة ولا من اللغة ولا من العرف وانما ذكر هذا في النار اشارة الى أن التعذيب بغير ذنب هو شأن الظالمين من الخلق والله تعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين خلقه محرما كما رواه أبو ذر عن رسول الله عن ربه عز و جل في الحديث الصحيح بل كما تمدح بذلك رب العالمين في كتابه المبين
الوجه الثاني انه قصر في سياقه المتن فقال وقالت النار ولم يذكر ما قالت ولا سكت من قوله قالت قال ابن بطال في شرحه وهو كذلك في جميع النسخ وذكر هذا الراوي قول الله تعالى للجنة أنت رحمتي ولم يتمم قولها لها أرحم بك من أشاء من عبادي والنقص في الحفظ والركة في الرواية بين على حديثه
الوجه الثالث تجنب المحدثين لاخراج هذه الرواية مثل مسلم والنسائي مع روايتهما الحديث ومثل أحمد بن حنبل في مسنده مع توسعه فيه وكذلك ابن الجوزي في جمعه أحاديث البخاري ومسلم ومسند أحمد وكذلك ابن الاثير في جامع الاصول وهو يعتمد الجمع بين الصحيحين للحميدي والحميدي انما يترك ما ليس على شرط البخاري مما ذكره في صحيحه مثل حديث الفخذ عورة فانه ترك ذكره لذلك كما ذكر ابن الصلاح في علوم (1/219)
الحديث والامر أوضح من أن يطول في بيانه وانما ذكرت هذا لان صاحب القواعد احتج به ونسبه الى الصحيح ولم يذكر فيه شيئا أصلا وكذلك المهلب فعرفت انهما قد غلطا في ذلك كيف من هو أقل معرفة منهما بسبب ذكره في صحيح البخاري وقد رأى ذكره في صحيح البخاري
وقد ذكر ابن الصلاح وغيره ان في البخاري أحاديث كثيرة على غير شرطه ولا شرط غيره من أهل الصحيح وان ذلك معلوم وذكر من ذلك حديث بهز بن حكيم في ان الفخذ عورة وقد ذكر غيره من ذلك شيئا كثيرا فقد ذكر ابن حجر في مقدمة شرح البخاري بعض ما اعترض على البخاري فذكر مائة حديث وعشرة أحاديث وانما قلت انه البعض لانه ذكر ان من ذلك عنعنة المدلسين التي في الصحيح وأحاديث الرجال المختلف فيهم وذلك شئ كثير
الوجه الرابع انه قد ثبت بالنصوص والاجماع ان سنة الله تعالى انه لا يعذب أحدا بغير ذنب ولا حجة كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى ذكرى وما كنا ظالمين وفي الصحيحين لا أحد أحب اليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب ومن جحدان هذه سنة الله فقد جحد الضرورة وإذا تقرر أنها سنة الله تعالى فقد قال تعالى ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن نجد لسنة الله تحويلا وقال تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم وأحسن ما أنزل الله الينا هو الثناء عليه وتسبيحه وتقديس أفعاله وأقواله من جميع صفات النقص فكيف يعدل عن هذا كله مع موافقة الرواية الصحيحة له إلى رواية ساقطة مغلوطة مقلوبة زل بها لسان بعض الرواة كما زل لسان الذي اراد أن يقول اللهم أنت ربي وأنا عبدك فغلط من شدة الفرح بوجود راحلته عليها طعامه وشرابه بعد اليأس كما ورد في الأحاديث الصحاح ولو كان (1/220)
الغلط يحكم به لوجب كفر ذلك الغالط وتكفيرنا له لأجل غلطه وعكسه ما أراد ونجعله مذهبا له
الوجه الخامس أنه لو قدر ما لا يتقدر من ورود حديث صحيح بذلك الغلط لم يدل على مخالفة جميع ما عارضه من الأدلة القاطعة والحجج الساطعة لأنه محتمل لموافقتها فانه لم يصرح فيه بأنه ينشيء للنار خلقا لا ذنوب لهم ولا قال فيدخلهم النار قبل أن يذنبوا ويستحقوا العذاب وإذا لم ينص على ذلك وجب تقدير ذلك لموافقة سنة الله تعالى التي لا تبديل لها ولا تحويل وذلك على أحد وجهين إما أن يكون هؤلاء الذين أنشأهم الله لها هم قوم من كفار بني آدم الذين تقدم كفرهم وقدم ادخارهم لها بعد كفرهم وسمى اعادتهم لها انشاء لأنها انشاء حقيقي لصورهم وردهم على ما كانوا أو لأنه كان قد أعدمهم وهذا اختيار كثير من أهل السنة بل من الأشعرية فقد نص عليه ابن بطال في شرح البخاري في شرح هذا الحديث فأصاب في وجه وأخطأ في وجه أما صوابه ففي تنزيهه الله تعالى مما توهمه غيره جائزا على الله سبحانه وأما خطأه ففي إيهامه أن الحديث صحيح وهو مقلوب بغير شبهة وإنما خفي ذلك عليه لأنه لم يكن من أئمة الحديث وإنما كان من علماء الفقه والكلام وإما أن يكون الله تعالى خلق للنار خلقا مستأنفا فكلفهم بعد خلقهم فكفروا فاستحقوها كما ورد في بعض أحاديث الاطفال وفي هذا مباحث قد استوفيت هنالك وإما أن يكون خلق لها خلقا لا يتألم بها أو يتلذذ بها أو من الجمادات كما قال الله تعالى وقودها الناس والحجارة وجاء فيها بضمير العقلاء لأنهم بدل منهم كما قال يوسف عليه الصلاة و السلام إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين أو لغير ذلك ومع الاحتمال بعض هذه الوجوه في بيان غلط بعض الرواة الذي قامت الأدلة على غلطه كيف يعدل إلى ظاهره ويسمى صحيحا ويحتج به مثل المهلب وصاحب القواعد وغيرهما فالله المستعان (1/221)
ومن ذلك قالوا الاسباب والدواعي خلق الله فلو كان الله لا يفعل إلا لها لم يخلقها إلا لمثلها داع وسبب وأدى هذا إلى التسلسل أو إلى تعجيز الله تعالى من خلق شيء بغير داع
والجواب أن هذا من أفحش الوهم والغلط فان المرجع بالأسباب والدواعي والحكم إلى الله تعالى بذلك وما كان من المخلوقات خيرا محضا فانه يراد خلقه لنفسه لا لمعنى آخر ولا لسبب ثان وما كان شرا فانه يراد لخير فيه أو خير يستلزمه أو يتعقبه لما اجتمعت عليه الفطر وأقرته الشرائع من قبح ارادة الشر لكنه شرا وأما تعجيز الرب عز و جل فأعظم فحشا في الوهم وأين نفى القدرة من نفي الفعل وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله تعالى بيده الملك وهو على كل شيء قدير ولم يقل وهو لكل شيء فاعل فنحن لم نقل أن الله لا يقدر على العبث ولا اللعب ولا الظلم وإنما قلنا أنه لا يفعلها ومدحناه بذلك كما مدح به نفسه في كتابه الكريم ولو لم يكن قادرا على ذلك لم يكن ممدوحا بتركه كما أن الجمادات غير ممدوحة بترك ذلك وهي لا تفعله وإنما لم تمدح بتركه مع عدم فعلها له لعجزها عن فعله وتركه وهذا شيء تفهمه العرب في جاهليتها والعوام في أسواقها وباديتها والعجب من قوم ادعوا كمال المعرفة بالحقائق والغوص على لطائف الدقائق ثم عموا أو تعاموا عن هذه الأحكام الظاهرة والأدلة الباهرة نسأل الله العافية لنا ولجميع المسلمين
وأما بيان أن القول بحكمة الله تعالى أحوط في الدين من النفي لها والتأويلات المتعسفة فلا شك فيه لوجوه
الوجه الأول أن وصف الله تعالى بالحكيم معلوم ضرورة من الدين متكرر النص عليه في كتاب الله تعالى تكرارا كثيرا ومعلوم أن الرسول وأصحابه والسلف المجمع عليهم ما تأولوه ومعلوم تمدحه سبحانه وتعالى (1/222)